العربية
المؤلف | خالد القرعاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
هِي دَعوةٌ لإِصلاحِ قُلُوبِنا وحَيَاتِها فَنَحنُ فِي زَمَنٍ مُخيفٍ تَلُفُّنا الفِتَنُ والشُّبهاتُ والشَّهواتُ فِيها مِن كُلِّ جَانِبٍ؛ فَتِلْكَ شُبهٌ عَقَدِيَّةٌ، وأُخرى فِتَنٌ أَخلاقيَّةٌ، وَمُعَامَلاتٌ مَاليَّةٌ قَامَتْ على الحِيلَةِ والخِدِيعَةِ حتى غَمَسَتْ أُنَاسَاً بِالرِّبَا! نَاهِيكَ عَنْ أَضَرِّ الفِتَنِ وَأَقْسَاهَا وَأَعْتَاهَا، وَهِيَ قَرِيبَةُ المَنَالِ سَرِيعَةُ الفِعَالِ، تُصِيبُ الْمَقْتلَ! وَتَذْهَبُ بَأَلْبَابِ الرِّجالِ! قَالَ عنها رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ"، وَقَد وَصَفَ لَنَا رَسُولُنا –صلى الله عليه وسلم- تِلكَ الفِتَنَ بِأَبلَغِ وَصْفٍ وأَدَقِّهِ فَقَالَ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا"...
الخطبة الأولى:
الحمد لله علاَّمِ الغيوب، المطَّلعِ على أسرارِ القلوبِ، نشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له يعلمُ ما يلجُ في الأرضِ وما يخرجُ منها وما ينزلُ من السَّماء وما يعرجُ فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصيرٌ.
ونشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ إمامُ المتقين وسيِّدُ الْمُخلِصين صلَّى الله عليه وسلَّم وباركَ وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا أثرهُ فكانوا لله متَّقينَ، ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدِّين.
أَمَّا بَعْدُ: عباد الله: أوصِيكُم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تعالى حَقَّ التَّقْوَى، وتزودوا فإنَّ خيرَ الزَّاد التَّقوى. اللهمَّ تَقَبَّل صِيامَنا وقِيامَنا وسَائِرَ أعمالِنا واجعل عِيدَنا سعيداَ وفوزاً بِرضاكَ والجنَّةَ.
أيُّها الكرامُ: عندما يصابُ الواحدُ منَّا بِمَرَضٍ فإنَّه يُبادِرُ للتَّداوي! وهذا أمْرٌ مَشرُوعٌ وَمَطلُوبٌ. غير أنَّ أمراضًا خطيرةً قد تُصيبُنا من حيثُ نشعرُ أو لا نشعرُ بل وتُصيبُنَا بِمَقْتِلٍ، وفي كثيرٍ من الأحيانِ لا نُبالي ولا نلتفت! مع أنَّ هذهِ الأمراضَ مُفسدَةٌ للأديان مورثةٌ للخسرانِ.
إنَّها أمراضُ القُلوبِ التي جَهلنا وَغَفَلْنا عنْها! فالاغتِرَارُ والإعجابُ بالعَمَلِ مَرَضٌ خَطيرٌ! و إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. والمِنَّةُ على اللهِ بالعَمَلِ يجعَلُكَ مِن الهَالِكينَ (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات: 17].
والمُؤمِنُ بعدَ الطَّاعَةِ، بينَ رَجَاءِ اللهِ قَبُولَ عَمَلِهِ، وخوفِهِ مِن رَدِّهِ وإحباطِهِ، وَمرجِعُ ذالِكَ إلى صَلاحِ القُلُوبِ وصِدقِها وإخلاصِها لِذا لازَالَ أهلُ الصَّلاح والتَّقى يَتَفَقَّدُون قُلوبَهم، لِيَتَرقُوا بِها إلى أَرفَعِ الدَّرجاتِ، والمسلمُ الصَّادقُ حريصٌ على قلبِهِ لأنَّ الأثرَ الْمُتَرَتِّبَ على فسادِهِ تعاسةُ الدُّنيا وَخَسَارَةُ الآخِرةِ!
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: حَقِيقَةٌ لا بُدَّ مِن التَّصريحِ بِها والوُقُوفِ عِندَها، عَدَدٌ مِن إخوانِنا المُصلِّينَ مِمَّن صاموا رمَضَانَ وقَامُوا لَيلَهُ وَقَرَؤوا كِتابَ اللهِ تَعالى وانْهَوا صِيَامَ سِتِّ شَوالٍ يَقُولونَ: لَم نَجِد لَذَّةً في قُلُوبِنا ولَم تَخشع قُلُوبُنا! بل أصابَتنا حَسرَةٌ وَنَحنُ نَسمَعُ بُكاءَ بَعضِ المُصلِّينَ في صلاتِهم وَدُعائِهم وَتِلاوَتِهم! فَنقولُ: ما الذي أَصَابَ قُلُوبَنا؟! هل طُبِعَ عليها؟! هل غَشَاها الرَّانُ فَأَضحَتْ مَيِّتَةً؟! رُحمَاكَ يا ربّ رُحمَاكَ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: القَلْبُ أَشْرَفُ أَعْضَاءِ الجسدِ، فقد جَعَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- وِعَاءً للخَيرِ قَائِدًا للجَوَارِحِ، أَوْ لا قدَّرَ اللهُ وعَاءً للشَّرِّ عَامِلاً للشَّيطَانِ، لِذَا كَانَ مِنْ أَكْثَرِ دُعَاءِ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم-: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ".
وَللقُلُوبِ حَيَاةٌ، فَعَلَى قَدْرِ حَيَاتِها تَكُونُ سعادةُ الجَسَدِ وَالرُّوحِ وَتَصْلُحُ الأَعْمَالُ، وَبِقَدْرِ فَسَادِه تَكُونُ العِلَلُ والأَسقَامُ! يَجمَعُها قَولُ المُصطَفى: "أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ".
أيُّها المؤمنون: أَلاَ وَإِنَّ من أَخْطَرِ أَمْرَاضِ القُلُوبِ وَأَعْتَاهَا مَرَضُ القَسْوَةِ واللهُ تعالى يقولُ: (فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22] فما هي القَسوةُ؟ وما مظاهرها؟ وكيف نعالِجها؟ فالقَسْوَةُ ضِدُّ الرَّحْمَةِ، وَقَسْوَةُ القَلْبِ غِلْظَتُهُ وبعدهُ عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ وَإِعْرَاضُهُ عَنْهُ، وَهِي عِقَابٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- للمُعْرِضِينَ عَنْ شَرْعِهِ المُبْتَعِدِينَ عَنْ هَدْيِهِ وَدِينِهِ.
وسُنَّةُ اللهِ تعالى في قُلُوبِ العِبَادِ جاريةٌ؛ بأَنَّ مَنِ اسْتَغْرَقَ في المَعَاصِي وَالآثَامِ ونَقَضَ مَوَاثِيقَهُ مَعَ اللهِ طَرَدَهُ اللهُ مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ التَّقْوَى وَأَبْعَدَهُ، حَتَّى يَقْسُوَ قَلْبُهُ ويَعْلُوهُ الرَّانُ والظُّلْمَةُ (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].
أيُّها الكرامُ : كثيرٌ منَّا مَنْ يَشتَكِي قَسوَةً قَلبِهِ وَيَقُولُ: أُحِسُّ بِقَسوَةٍ فِي قَلْبِي، ولا أَجِدُ لَذَّةً فِي عِبادَةٍ، أو سَرِيعاً مَا أَستَغفِرُ اللهَ ثُمَّ أَقَعُ فِي المَعَاصِي. وهذا يَا عبدَ اللهِ عَلامَةٌ بِإذنِ اللهِ مِن عَلاماتِ الإيمانِ والخَيرِ الذي فِيكَ، ودَلِيلٌ على حَيَاةِ قَلْبِكَ وَأَنَّ فِيكَ خَيراً كَثِيراً لأنَّ اللهَ –تَعالى- أقسَمَ فِيكَ وَقَالَ: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة: 2]، فَأَقسَمَ بِالنَّفْسِ التي تلومُ صاحبَهَا على مَا حَصَلَ مِنْها مِنْ تَفريطٍ فِي وَاجِبٍ، أو تَقْصِيرٍ فِي حَقٍّ، أو غَفْلَةٍ عن ذِكْرٍ!
وإليكم أيُّها المؤمنونَ بعضَ المظاهرِ التي تدلُّ على قَسوةِ القَلبِ. فمنها: عدمُ الخُشُوعِ لآياتِ اللهِ تعالى، حتى إنَّنا لَنُحِسُّ أحيناً أنَّ قُلُوبَنا صلدًا كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً فلا نَتَأَثَّرُ بِمَواعِظِهِ، ولا بِوَعدِهِ ووعِيدِهِ! لِذا كَانَ مِنْ جُملَةِ دُعَاءِ النَّبيِّ –صلى الله عليه وسلم- : "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا".
ومن مَظَاهِرِ قَسوةِ القَلْبِ: عدمُ إتقانِ العباداتِ، وعدمُ التَّلذُّذِ بها! حتى إنَّ بَعضَنا يَتَحَيَّنُ مَتى يَنْتَهي مِنْها؟! وكأنَّها حِمْلٌ ثقيلٌ! وَكَأَنَّ نَبِيَّنا لمْ يَقُلْ –صلى الله عليه وسلم-: "يَا بِلَالُ أَرِحْنَا بالصَّلاةِ"، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ".
والمُؤمِنُونَ المتَّقونَ مِن أَعظَمِ صِفَاتِهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90].
عباد اللهِ: أهلُ القلوب القاسيةِ قد تَجِدُهم يُصلُّون وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقونَ وَلَهم أَعمَالٌ خَيرِيَّةٌ وَلَكِنَّهم إذَا خَلَوا بِمَحَارِمِ اللهِ انتَهَكُوها! ثُمَّ هُم بَعدَ ذَلِكَ في حَيرةٍ مِن أمْرِهم وانْشِغَالٍ كَيفَ سَتَكُونُ تَوبَتُنَا للهِ تِعالى؟ وَمَاذَا لَو عَلِمَ النَّاسُ بِحَالِنا؟! فَنَقُولُ لإخوانِنَا هؤلاء: كَانَ اللهُ فِي عَونِكُم وأَلهَمَكُم رُشدَكُم، حَقَّاً إنَّنا فِي زَمَنٍ عَصِيبٍ، الشَّرُ فيهِ قَريبٌ! وَلَكِنْ لِنَتَذكَّرَ أنَّ لَنَا رَبَّاً رَحِيمَاً، عَلِيمَاً حَكِيمَاً، سَمِيعَاً بَصِيراً، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ لِنتذَكَّر، قال –صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ".
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. فاللهمَّ احمِنَا جَمِيعَاً مِن الفَواحِشِ والفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنها وَمَا بَطَنَ، اللهم طَهِّر قُلُوبَنا مِن النِّفاقِ وأعمَالَنا مِن الرِّياءِ وألسِنَتَنا من الكَذِبِ وأعيُنَنا مِن الخِيانَةِ. وأستَغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على نَعْمَائِهِ، والشُّكرُ لهُ على فَضْلِهِ وامتِنَانِهِ، نشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تَعظِيمَاً لَشَأنِهِ، وَنَشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُه الدَّاعي إلى جَنَّتِهِ وَرِضوانِهِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبَارَكَ عليه وعلى آلِهِ وأَصحَابِهِ، وأَتبَاعهِ وأَعوانِه ومَن تَبِعهم بِإحسَانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدِّينِ.
أمَّا بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
ولا تَكُونُوا مِمَّن استَولَتْ عَلَيهم الغَفْلَةُ، واستَحَوَذَ عَليهم الشَّيطانُ فَأَنْسَاهُم ذِكْرَ اللهِ فإنَّ مِنْ أبْيَنِ مَظَاهِرِ قَسْوَةِ القَلْبِ الغَفْلَةُ عن ذِكْرِ اللهِ تَعالَى! وَقَدْ وَصَفَ اللهُ المُنَافِقَين بِأنَّهُم: (لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 142].
وَاعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ قَسْوَةَ القَلْبِ إِنَّمَا تُلَيَّنُ بالإكثَارِ مِن ذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى-، فَبِذِكْرِهِ تَرِقُّ الأفْئِدَةُ، وَتَخْشَعُ النُّفُوسُ لِخَالِقِهَا، وَتَلِينُ القُلُوبُ لِبَارِئِهَا؛ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ . وَحِينَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ لِرَسُولِ اللهِ وَقَالَ: إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ –صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ".
فَلا تَغفُلْ -أيُّها المُسلِمُ- عَنْ ذِكرِ اللهِ أَبَداً، بَلْ أُذكِرَ اللهَ على كُلِّ أَحوَالِكَ، فِي بَيتِكَ وَسُوقِكَ وسَيَّارَتِكَ وِمَنامِكَ، فَهُوَ عَمَلٌ يَسيرٌ رتَّبَ اللهُ عليهِ أَجْراً كَبِيراً.
أيُّها المُؤمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولهِ: هِي دَعوةٌ لإِصلاحِ قُلُوبِنا وحَيَاتِها فَنَحنُ فِي زَمَنٍ مُخيفٍ تَلُفُّنا الفِتَنُ والشُّبهاتُ والشَّهواتُ فِيها مِن كُلِّ جَانِبٍ؛ فَتِلْكَ شُبهٌ عَقَدِيَّةٌ، وأُخرى فِتَنٌ أَخلاقيَّةٌ، وَمُعَامَلاتٌ مَاليَّةٌ قَامَتْ على الحِيلَةِ والخِدِيعَةِ حتى غَمَسَتْ أُنَاسَاً بِالرِّبَا! نَاهِيكَ عَنْ أَضَرِّ الفِتَنِ وَأَقْسَاهَا وَأَعْتَاهَا، وَهِيَ قَرِيبَةُ المَنَالِ سَرِيعَةُ الفِعَالِ، تُصِيبُ الْمَقْتلَ! وَتَذْهَبُ بَأَلْبَابِ الرِّجالِ! قَالَ عنها رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ".
وَقَد وَصَفَ لَنَا رَسُولُنا –صلى الله عليه وسلم- تِلكَ الفِتَنَ بِأَبلَغِ وَصْفٍ وأَدَقِّهِ فَقَالَ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا"، فهذهِ الأَعوَادُ عِبَارَةٌ عنْ ذُنُوبٍ وَمَعَاصٍ فَهذِهِ نَظْرَةٌ مَحَرَّمَةٌ وأُخَرى هَمَزَةٌ وَثَالِثَةٌ مُعَامَلَةٌ مُحَرَّمَةٌ! وَكُلُّ ذَنْبٍّ يُعمَلُ يَكُونُ نُقطَةٌ سُودَاءُ في القَلْبِ: "فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ"، حتى يَكُونَ القَلبُ: "أَسْوَدَ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مَجْخِيًّا"، فَهُو كَالكَأْسِ المَقلُوبِ لا يُنتَفَعَ منه بِشَيءٍ فَهُوَ: "لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ". والعياذُ باللهِ تعالى.
فيا مؤمنونَ: أَقْبِلُوا على رَبِّكم بَعدَ شَهْرِ الرَّحمَةِ والغُفْرانِ، واستَغفِروا اللهَ قَولا وَعَمَلاً، واستَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ شَرِّ الشَّيطَانِ وَشَرَكِهِ فلَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَمَنْ اقتَرَبَ مِنْ الفِتَنِ والشُّبهاتِ سَيقعُ فِي الحَرامِ حَتْمَاً ولا شكَّ كَمَا قَالَ رَسُولُنا –صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ".
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللهمَّ إنَّا نَسألُك خَشيَتَكَ فِي الغَيبِ والشهادَةِ، وَكَلِمَةَ الحَقِّ فِي الغَضَبِ والرِّضا، والقَصدَ فِي الفَقْرِ والغِنى.
اللهمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاها، زَكِّها أنتِ خَيرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّها وَمَولاهَا اللهمَّ أَصلِح القُلُوبَ والأَعمَالَ مَا ظَهَرَ مِنها وَمَا بَطَنَ، واجعَلْنا مِن عِبادَكَ المُخلَصِينَ.
اللهمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الغِوَايَةِ والضَّلالَةِ، اللهمَّ ثَبِّتْنَا عَلى دِينِكَ وصِرَاطَكَ المُستقيمِ. اللهمَّ آمِنَّا فِي أَوطَانِنَا وَأَصْلِح أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا خُذْ بِنَوَاصِيهم لِما تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَزِيِّنَّا بِالِبِّر والتَّقْوَى، واجعَلنا مِن عِبَادِكَ المُهتَدِينَ.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].