الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | علي بن يحيى الحدادي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الأديان والفرق |
الخوارج أبعد الناس عن كتاب الله، وعن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعن سبيل المسلمين وعن تعظيم شعائر الله وحرمات المسلمين، فلم يراعِ أولهُّم حرمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يراع تلامذته وورثته حرمة صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا حرمةَ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ويركع ويسجد لله. وها هم اليوم لا يراعون حرمة بيوت الله التي أمر أن تُرفع، وأن يُذكر فيها اسمه، وأن تُطهر للمصلين والركع السجود، فقتلوا المصلين الركع السجود، وكذلك هم لا يراعون حرمة الأزمان الفاضلة كرمضان والحج والأشهر الحرم.
الخطبة الأولى:
أما بعد: فإن الله –تعالى- يبتلي عباده المؤمنين بأنواع من المصائب المؤلمة؛ ليمحّص إيمانهم ويكفّر سيئاتهم ويرفع درجاتهم، وإن من الأقدار المؤلمة ما حدث يوم أمس من قيام بعض الخوارج بتفجير مسجد قوات الطوارئ في عسير في صلاة الظهر، فاستشهد عدد من رجال الأمن، وجرح آخرون.
نسأل الله أن يشفي مصابهم وأن يتقبل قتلاهم في الشهداء، وأن ينزلهم منازل السعداء، وأن يسكن أرواحهم الجنة، وأن يلهم ذويهم الصبر والسلوان، مذكرين لهم بقوله -جل وعلا-: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 154- 157].
عباد الله:
إن الخوارج قد حذّر منهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث متعددة، ووصفهم بأوصاف واضحة جلية، ومنها تكفير المسلمين واستحلال دمائهم، ومنها قتلهم لأهل الإسلام وتركهم لأهل الأوثان، ومنها أن الغالب عليهم صغر السن وغلبة الجهل، وضعف العقول، مع اجتهادهم في العبادة من صلاة وصيام وقراءة للقرآن، ونحو ذلك.
وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم شر الخلق والخليقة، وأنهم كلاب النار يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فكما كانوا في الدنيا كلاباً مسعورة على الناس يقتلون ويفسدون ويهلكون الحرث والنسل؛ فإن الله يمسخهم في نار جهنم على صورة كلاب وما ربك بظلام للعبيد.
عباد الله: إن أول الخوارج في هذه الأمة هو ذلك الذي شاقّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخوّنه وعارضه في سياسته المالية، وهو أعدل الخلق -عليه الصلاة والسلام-، وأبعدهم عن الظلم والجور، ثم سار على ذلك الدرب المعوج المظلمِ ورثته: الخوارجُ الذين عارضوا سياسة عثمان -رضي الله عنه-، وهو الخليفة الراشد المبشَّر بالجنة، ثم تجمعوا عليه حتى حاصروه في داره، ثم تسوروا عليه الدار فقتلوه صائماً قارئاً للقرآن، لم يراعوا إسلامه ولا صحبته ولا شيبته، ولا منصبه ولا تلاوته ولا صيامه، قبحهم الله وأخزاهم.
ثم سار على دربه الخوارجُ الذين خرجوا على عليّ -رضي الله عنه-، وعارضوه في سياسته وهو الخليفة الراشد والمبشر بالجنة، فناصحهم فتاب من تاب، وأصر من أصر، فقاتل المصرين منهم، ثم تمالأ ثلاثة من رءوس الخوارج في مكة بعد موسم الحج، واتفقوا على قتل أمراء المسلمين الثلاثة علياً في العراق، ومعاوية في الشام، وعمرو بن العاص في مصر. واتفقوا على تنفيذ الخطة في رمضان المقبل عند خروج الثلاثة إلى صلاة الفجر.
فنفذوا خطتهم، ونفذ القدر في عليّ -رضي الله عنه- فأكرمه الله بالشهادة، وسلّم الله معاوية وعمراً رضي عنهم جميعاً.
ومن هنا نعلم أن الخوارج أبعد الناس عن كتاب الله، وعن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعن سبيل المسلمين وعن تعظيم شعائر الله وحرمات المسلمين، فلم يراعِ أولهم حرمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يراع تلامذته وورثته حرمة صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا حرمةَ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ويركع ويسجد لله.
وها هم اليوم لا يراعون حرمة بيوت الله التي أمر أن تُرفع، وأن يُذكر فيها اسمه، وأن تُطهر للمصلين والركع السجود، فقتلوا المصلين الركع السجود، وكذلك هم لا يراعون حرمة الأزمان الفاضلة كرمضان والحج والأشهر الحرم.
إن الخوارج قتلوا من الصحابة عدداً، واستحلوا دماء الموحدين المصلين، واغتالوهم في المساجد ركعاً وسجداً.
فهل تنتظروا منهم أن يسمعوا ويطيعوا لولاة أمور المسلمين في هذا العصر، ولا تنتظروا منهم أن يلتزموا الجماعة، ويحافظوا على وحدة الصف، وهل تنتظرون منهم أن ينظروا بعين التوقير والاحترام لعلماء المسلمين ما داموا على عقيدتهم الفاسدة ومناهجهم النتنة؟!
عباد الله:
إن النتائج لها أسباب ولا بد، وإنّ تبنّي بعض أبناء المسلمين لهذه الأفكار له أسباب. ومعرفة الأسباب الصحيحة تساعد على العلاج والوقاية، وإن من أعظم أسباب الاغترار بهم: الجهلَ بعقيدة السلف الصالح، فقد نشأ كثير من الشباب وهم لا يعرفون عقيدة السلف الصالح في التكفير، ولا في السمع والطاعة، ولا في الجهاد، ونحوها من المسائل الكبيرة، فسهل اصطيادهم مِن قِبل دعاة الشر الذين يتربصون بهم ويتحينون الفرص لسلبهم من أسرهم ومجتمعهم ليجندوهم ضدهم.
ومن الأسباب: وجود من يحرضهم صراحة ويزين لهم الخروج على الدولة واغتيال رجال الأمن، والسعي في الأرض بالفساد باسم الجهاد في سبيل الله وطلب الجنة.
ومن الأسباب: استدراج كثير من الشباب إلى مواطن الفتن بحجة الجهاد، فإذا وصلوا إليهم لقنوهم التكفير ورغبوهم في العودة إلى بلدانهم ليجاهدوا فيها المرتدين بزعمهم.
أتدرون من هم المرتدون الذين يقصدونهم؟!
إنهم ولاة أمركم الذين يحكمون بالشريعة، ويعظّمون كتاب الله ويعمرون بيته ومسجد نبيه أعظم عمارة وأحسنها.
إنهم علماؤكم وأهل الفتوى فيكم، الذين أفنوا أعمارهم في دراسة كتاب الله وسنة نبيه، وعقيدة السلف الصالح وتدريسها وتعلميها.
إنهم أبناؤكم وإخوانكم من رجال الأمن الذين يحفظون أمننا ومقدساتنا وحدودنا. ويخدمون حجاج بيت الله وزوار مسجد نبيه -عليه الصلاة والسلام-، ويقفون في وجه كل معتدٍ أثيم يريد بنا شراً.
ومن الأسباب أن كثيراً من الأسر لا تحرص على متابعة أبنائها مع من يمشون، وماذا يقرءون في وسائل التواصل الحديثة. فلا تفاجأ إلا بابنها مطلوباً أمنياً أو مفجراً منتحراً أو متصلاً بهم يبلغهم عن وصوله إلى أرض الفتن.
ومن الأسباب الكبيرة الخطيرة: التحريض غير المباشر، وصوره كثيرة جداً، ومنها على سبيل المثال: تزكية رءوس الخوارج في هذا العصر الذين نظّروا وقعّدوا للتكفير والخروج على الحكام، والدفاع عنهم وتبرئتهم من الإرهاب جملة وتفصيلاً.
ومن صوره: الطعن في رجال الأمن عامة ورجال المباحث والاستخبارات وقوات الطوارئ خاصة. حتى يخيل لمن يسمعهم أن الانتساب لهذه الجهات سُبّةٌ قبيحة، وعار شنيع.
ومن صور التحريضِ الخفي: التحريضُ على ولاة الأمر بستر محاسنهم وقلبها إلى سيئات، وبذكر مساوئهم، والنقصِ الذي يكون فيهم، مع الكذب والتهويل في هذا الباب، وإثارة الشعب على الرعية مستغلين كل ما يمكن استغلاله لإثارة حنق الناس وسخطهم كموضوع الرواتب والسكن والخدمات ونحو ذلك مما لا يخفى عليكم.
ومن صور التحريض الخفي: تشويهُ سمعة كل مَن يحارب الجماعات والكتب والمنظرين والداعين إلى عقيدة الخوارج ورميهم بكثير من الأوصاف القبيحة المنفرة حتى يسقطوهم فلا يأخذ الناس عنهم.
ومن صوره: أن يصدر بعض الرموز الفتاوى المجيزة للعمليات الانتحارية، بدعوى أنها عمليات استشهادية، قليلة الكلفة، عظيمة الأثر، تسرّع صاحبها إلى الحور والجنة مع أن الله تعالى يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء: 29].
وإصدار الفتاوى التي تبيح نقد الحاكم علناً مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الإعلان بنصح الحاكم وأمر بإسراره.
وإصدار الفتاوى التي تبيح المظاهرات والاعتصامات بدعوى الحرية في إبداء الرأي مع مباركة الثورات، وإظهار الفرح والغبطة بها واعتبارها مقدمة ومبشرة بقيام الخلافة، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالصبر على جور الأئمة وترك منازعتهم.
فهذا التحريض الخفي يولد شباباً بل جيلاً حانقاً على وطنه وولاة أمره وعلماء أهل السنة والتوحيد ومن يدافع عنه من رجال الأمن. فلا عجب أن يستجيبوا لنداءات خوارج العصر وتنفيذ أجندتهم.
نسأل الله بقوته وعزته أن يكفينا شر الأشرار وفجور الفجار وكيد الكائدين ومكر الماكرين، اللهم احفظ علينا أمننا واجتماعنا وولاة أمرنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن المخرج من فتنة الخوارج يكون بالتزامكم بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه السلف الصالح.
فاسمعوا وأطيعوا لولاة أمركم، وحافظوا على جماعة المسلمين، وإياكم والسعي في تفريق الكلمة ولو بكلمة فقد ثبت في الحديث أنه "من خرج من الجماعة قِيْد شبر فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه".
وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59].
والتزموا بما عليه كبار العلماء وأهل الرسوخ في العلم والسنة كما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "العلماء ورثة الأنبياء".
واحذروا من كل من يحرّضكم على وطنكم وولاة أمركم، ويسخر من علمائكم فيرميهم بالنفاق والمداهنة.
واحذروا ممن يزين لكم الثورات والمظاهرات والاعتصامات؛ فإنهم دعاة على أبواب جهنم يجرونكم إلى نار الدنيا قبل نار الآخرة، وانظروا كيف أحرقت الثورات بلاداً كانت آمنة مطمئنة على ما فيها. فلكم فيهم عظة وعبرة.
عباد الله: بالتزامنا طاعة الله -جل وعلا- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأولي الأمر منا في غير معصية ومحبتَهم، والتعاون معهم على البر والتقوى، ورفض كلِ دعوةِ فتنة إننا بذلك نحطم كل المكائد والمخططات بإذن الله مهما بلغت.
وإننا بذلك نعبر ببلادنا وأنفسنا وأجيالنا إلى بر الأمان في خضمّ هذه الفتن المتلاطمة والنيران الملتهبة؛ لأن ذلك من الإيمان والتقوى والله يقول في محكم كتابه: (ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96].
هذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير .. إلخ.