الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | مجموعة مؤلفي بيان الإسلام |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | شبهات حول القرآن |
يدعي بعض المغرضين أن القرآن من صنع البشر، وليس من عند الله، وأنه خلاصة ثقافات وديانات سابقة؛ معللين ذلك بما يزعمونه من أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - تعلم كثيرا من الأحبار والرهبان، فاستطاع أن ينقل منهم بعض الأخبار أو يصوغها بنفسه، وأنه أخذ كثيرا من الثقافات الهندية واليونانية والرومانية، واقتبس كثيرا من الشعر الجاهلي. ثم إن ما كان ينتابه أحيانا ليس وحيا، ولكنه محض هوس أصابه من كثرة اختلائه بنفسه، ولا يبعد أن يكون محمد قد استغل مناخ هذه الخلوة - التي اعتادها - بما فيها من هدوء في تلخيص ما أفاد منه وما تعلمه من سابقيه ومعاصريه في نظم القرآن، ويستدلون على هذا بـ:
o نزول القرآن منجما [1] لا جملة واحدة.
o نزول القرآن بقراءات متعددة.
o إمكانية الإتيان بمثل سور القرآن؛ إذ لا وجه للإعجاز، أو للإلهية فيه.
o ما نصت عليه بعض آيات القرآن نفسه: (إنه لقول رسول كريم (40)) (الحاقة)
ويرمون من وراء هذا إلى الطعن في إلهية القرآن والتشكيك في مصدره؛ إيذانا للتشكيك في سلامته.
1) للمفسرين في تحديد المراد بــ "الرسول" في الآية - مناط الاستدلال - قولان؛ أحدهما: قول جبريل، والثاني: قول محمد - صلى الله عليه وسلم - ولو افترضنا أن القول الثاني هو الأرجح فإن هذا لا يعني أكثر من كونه - صلى الله عليه وسلم - مبلغه لا منشئه.
2) لقد زامن نزول القرآن دهشة معاصريه من مصدره، ولو علم هؤلاء المشركون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ القرآن من اليهود أو النصارى؛ لأشاعوا ذلك، واتخذوه مطعنا في الإسلام عامة وفي القرآن خاصة، وهذا ما لم يحدث.
3) إننا لو سلمنا لهؤلاء بأن في القرآن بعض الألفاظ اليونانية والرومانية، فلن نسلم لهم بذلك فيما يتعلق بالثقافة الهندية؛ ذاك أنه لم يرد أي لفظ هندي في القرآن، على أن ما ورد فيه من الثقافات إنما هو من قبيل الألفاظ التي عربت، ولا تقل فصاحة بعد تعريبها واستخدام النص القرآني إياها عن تلك التي اشتملها القرآن من ألفاظ العرب أنفسهم - شعرا ونثرا - ولا يعني اشتمال القرآن على الألفاظ الأعجمية أنه مقتبس من غيره.
4) كثير من آيات القرآن نزلت مرتبطة بوقائع وأحداث معروفة، وهذه الأحداث كانت تالية لفترة تحنث النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء، فكيف نظم محمد - صلى الله عليه وسلم - هذه الأحداث قرآنا قبل وقوعها أصلا؟!
5) لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة أو بعدها - أنه كان من ذوي الوساوس، فكيف يسمى ما كان يحدث له أثناء نزول القرآن عليه هوسا لا وحيا؟!
6) لقد نزل القرآن منجما، وليس في هذا ما يدل على بشريته، بل كان تنجيمه لحكم متعددة؛ منها: التدرج، وتثبيت الإيمان، ومجاراة الحوادث، وإثبات إعجاز القرآن.
7) لو جيء حقا بسورة أو أكثر من مثل القرآن الكريم؛ لوصلت إلينا، ولذاعت بين الناس، وهذا ما لم يحدث وما ينبغي له أن يحدث.
8) القراءات القرآنية توقيفية خاصة بكلمات محددة، وتعددها لا يعني تضارب المعاني، وتناقض الأحكام، بل هو في الغالب اختلاف صوتي، وتنوع في طرق الأداء - بقراءة الكلمة القرآنية على وجهين أو أكثر - بما يثري المعنى، ويوسع الدلالة، وييسر على العرب، ولا يمس من التشريع أصلا ولا فرعا.
9) نجد فيما اشتملت عليه آيات القرآن من وجوه الإعجاز - العلمي والبياني والتشريعي - من جهة، وما أخبر به من غيبيات - الماضي والمستقبل - من جهة أخرى - ما يشهد بإلهيته في مقابل ما ادعاه بعضهم من القول ببشريته.
إذا تأملنا الآية في سياقها القرآني - في محاولة منا للوقوف على مدلولها بشيء من الموضوعية - وجدناها مصدرة بالتأكيد بـ إن واللام " للرد على من كذبوا بأن يكون القرآن من كلام الله ونسبوه إلى غير ذلك" [2].
"ولقد كان مما تقول به المشركون على القرآن وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولهم: إنه شاعر أو كاهن؛" متأثرين في هذا بشبهة سطحية، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر" [3]، فلما كان اعتقادهم أن لأحد هذين الاحتمالين اللذين نسبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهما - الشعر والكهانة - ما يمده بالقول الفائق على كلام البشر بما فيهما من اتصال بالجن وخلافه؛ جاءت الآية الكريمة في مقام نفي تلك الشبهة عنه صلى الله عليه وسلم.
وإذا استقر في أذهاننا ما قررنا من كون الآية - مناط الاستدلال - واردة في سياق نفي بشرية القرآن وإثبات إلهيته في مقابل ما حاول المشركون ادعاءه نقول: إذا استقر في أذهاننا هذا إلى - جانب ما هو معهود من منطقية الحجاج في القرآن الكريم عامة بما اتسم به من قوة ومحاجة واتساق - تساءلنا: هل يعقل أن يذهب القرآن الكريم لينفي بشرية مصدره فينسبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤكدا ذلك بأداتي توكيد في
* قوله سبحانه وتعالى:: (إنه لقول رسول كريم (40)) [الحاقة]
، فضلا عن كون الجملة الاسمية تفيد التوكيد؟!
إن هذا مما لا يستقيم عقلا ولا منطقا، ونحن نشهد أن في القرآن نماذج أكثر من أن تحصى تندرج تحت قائمة الحجة بالحجة، وتقرع الوهم والزعم بالدليل والمنطق، وقرآن هذا دأبه وذاك منواله وتلك سجيته لا يحسن بكم أيها المشككون أن تقطعوا منه دليلا على خلاف ما أكد عليه في غير ما موضع من إثبات إلهيته ونفي بشريته.
وكان من الجدير بهم أن يتلمسوا لهم دليلا - ولن يجدوا - في غير هذا الموضع من القرآن بما فيه من إثبات خلاف دعواهم، ناسين أن في التماس الدليل - مما لا يعد دليلا، فضلا عن أن يكون دليلا على خلاف الدعوى - ضربا من فقدان المرجعية وبطلان الحجة؛ وبالتالي وهن الدعوى.
أما وقد وقع القوم فيما استحسنا لهم ألا يقعوا فيه؛ فإنه يجدر بنا - نحن الآخرين - أن نقف بهم على طبيعة المعنى الذي جهلوه - أو تجاهلوه - في الآية مناط الاستدلال؛ إبطالا لدعواهم من جهة، وتفصيلا للمعنى وإيضاحا للسياق من جهة ثانية.
والمفسرون في تفسير هذه الآية على قولين:
الأول: أن المراد بالرسول -
* في قوله عز وجل: (إنه لقول رسول كريم (40)) [الحاقة]
جبريل عليه السلام - ودليلهم
* قوله - عز وجل - في موضع آخر: (إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين (20)) [التكوير.]
الثاني: أن الرسول في الآية هو محمد - صلى الله عليه وسلم - لقوله - سبحانه وتعالى - بعدها:
* (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41)) [الحاقة [4].]
ويقول ابن عاشور: فالمراد بالرسول الكريم: محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يقتضيه
* قوله: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44)) [الحاقة.]
وهذا كما وصف موسى بـ "رسول كريم" في
* قوله سبحانه وتعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17)) [الدخان [5].]
على أن ما ينبغي أن نلمح إليه أن كون الرسول في الآية هو محمد - صلى الله عليه وسلم - إن أخذنا بقول الفريق الثاني من المفسرين - لا يعني أن يكون القرآن من تأليفه ولا أن يكون صادرا عنه - كما يزعمون ـ؛ بل المعنى: أنه ليس " قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو من قول الله - عز وجل - وإنما نسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك" [6] فلا يعني هذا بالضرورة أن منشئه في الأساس مالك، وإنما يكفي مسوغا لتلك النسبة أن يكون مالك من أتباع هذا القول العاملين بمقتضاه الناقلين له، وهذه كتلك.
ولمزيد من الإيضاح نقول: " إن إضافة " قول" إلى " رسول" ما جاءت إلا لأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي بلغه فهو قائله، والإضافة هنا لأدنى ملابسة، وإلا فالقرآن كلام الله - سبحانه وتعالى - أنزله وأجراه على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صدر من جبريل بإيحائه بواسطته
* قال سبحانه وتعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا (97)) [مريم.]
وأيا ما كان من أمر فإن ثمة شيئا تجدر الإشارة إليه في تفسير الآية الكريمة، ذاك أن كلمة رسول نفسها دالة على خلاف ما زعموا، حتى لو افترضنا أن إضافة القول له على سبيل الملكية، سواء كان المراد محمدا - صلى الله عليه وسلم - أم جبريل - عليه السلام - فما زالت دلالة كلمة "رسول" واقفة بها عند مجرد حمل الرسالة وتبليغها، أيا كان المبلغ في الآية محمد - صلى الله عليه وسلم - أو جبريل - عليه السلام - فإن قوله - سبحانه وتعالـى - فـي السـورة نفسهـا:
* (تنزيـل من رب العالميـن (43)) [الحاقة]
فيه تصريح بعد كناية، فلما وصف القرآن بأنه
* (لقول رسول كريم (40)) []
ونفي عنه أن يكون قول شاعر أو قول كاهن، ترقب السامع معرفة كنهه، فبين أنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم، ليقوله للناس ويتلوه عليهم.
وتأسيسا على ما سبق يمكننا إجمال ما أسلفنا تفصيله، انطلاقا من كون الإضافة في الآية:
* (إنه لقول رسول كريم (40)) []
بمعنى: "من" - نقول: إن إضافة القول - القرآن - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إضافة أداء، وليست إضافة إنشاء، أيا كان المراد من المضاف إليه، والتقدير: إنه لقول من رسول كريم؛ ومعلوم أن للإضافة معاني كثيرة غير الملكية، من ذلك قولنا: باب حديد، فلا يمكن أن تكون الإضافة هنا للملكية، وإنما التقدير: باب من حديد، ناهيك عما تحمله كلمة "رسول" ذاتها - أيا كان المراد منها - من دلالة التبليغ وتحمل الرسالة، فضلا عن أن الآية واردة في سياق نفي بشرية القرآن، فلا يعقل أن تثبت الآية نسبة القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في سياق نفي بشريته وإثبات كونه:
* (تنزيل من رب العالمين (80)) [الواقعة!!]
ثانيا. كيف يتلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن - الذي تحير المشركون في إدراك مصدره - عن اليهود والنصارى ثم يسكت المشركون عن هذا؟!
لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ عن اليهود والنصارى حقا، لما سكت عنه المشركون ولأشاعوا ذلك، واتخذوه مطعنا في الإسلام وفي القرآن، لكن هذا لم يحدث. كما أن أحبار اليهود، ورهبان النصارى - أنفسهم - لم يدعوا ذلك.
وفي قصة إسلام الحبر اليهودي عبد الله بن سلام ما يؤيد صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه يوحى إليه من ربه؛ حيث أراد عبد الله بن سلام أن يختبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسئلته التي لا يعرفها إلا نبي، فلما أجاب عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم له الحبر اليهودي بالعلم وصدق الدعوة، وجمع قومه وأشهدهم على صدقه - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، ثم أعلن إسلامه واتباعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فراحوا يطعنون فيه.
وإن من العجب بمكان أن يزعم هؤلاء أن القرآن خلاصة تلك الديانات، وهو الكتاب المتمم الذي خالف ما حرفوه من معتقدات وكشف حقيقة أمرهم؛ ومن أمثلة ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30)) (التوبة). في سياق رده على المعتقد الشركي القديم المتأصل عند اليهود: أن عزيرا ابن الله، وعند النصارى: أن عيسى ابن الله [7].
ولا يخفى علينا ما في القرآن من مخالفة بينة لمعتقدات النصارى، وخلافه معهم في عقائد التثليث وما شابه ذلك من أمور - هي من الجوهر - منذ اللحظة الأولى للبعثة، وهذا أدل دليل على إلهية مصدره وتفرده عن كل محرف من الكتب والديانات الأخرى.
هذا بالإضافة لما في القرآن الكريم من العبادات والشعائر التي جاء بها على نسق لم يعهد في غيره من الكتب الأخرى بهذه الطريقة ولا تلك التفاصيل، فكيف إذن يتسنى لهؤلاء هذا القول بالاقتباس؟ ولماذا - لو صح ما زعموا - لم نجد في القرآن صدى موافقته عقائد مثل: التثليث، والصلب، والخطيئة، وألوهية المسيح؟! وإذا كان القرآن من عند النصارى فلماذا كل هذا الخلاف وكل ذاك البون بينهما [8]؟!
ومما يحسن ذكره في هذا المقام، ما عرض له الكثيرون بالتشكيك تارة، والتقول والزعم تارة أخرى بشأن سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - للشام، وما يذكر تحت هذا الباب من كونه - صلى الله عليه وسلم - تعلم القرآن عن بحيرا أو عن نسطورا أو غيرهما، وخروجا عن تلك الأقاويل التي لا تستند إلى دليل نورد - مجملا - أسباب بطلان تلك الدعوى فيما يأتي:
نحن لا ننكر سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - للشام مطلقا، لكننا في الوقت ذاته نحيط هؤلاء علما بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسافر للشام إلا مرتين فقط على مدار عشرة أعوام في زيارتين عابرتين، ولم يكن بشكل فردي بل كان ضمن جماعة - جمعتهم قوافل التجارة -، فأنى له - صلى الله عليه وسلم - أن يتعلم في هذه الظروف وفي تلك المدة؟
ولو افترضنا جدلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقى بالفعل عن هذين الراهبين أو عن أحدهما، فلماذا ضيع فترة الشباب - وفيها من القوة والثورة ما فيها - ليعلن عن نبوته بعد ثلاثين سنة من اللقاء الأول تقريبا، وبعد خمسة عشر عاما من اللقاء الثاني؟!
لو سلمنا لهؤلاء بأن لبعض رهبان النصارى من العلم ما يصح - منطلقا - أن يفرز مثل هذ القرآن؛ نتساءل: لماذا علموه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان أولى بهم أن ينسبوه لأنفسهم أصالة لعلمهم بما لهذا النبي من الشرف؟! أو ليس أحدهم أولى بهذا الشرف وتلك المكرمة من تلميذه؟!
على أننا لو تجاوزنا كل ما سبق وجدنا أنفسنا أمام حصن منيع لا نكاد نجد منه ملاذا ولا عنه محيدا، ذاك ما عرف من أميته - صلى الله عليه وسلم - من جهة، وعبرانية تلك الكتب من جهة أخرى، فلو تجوزنا في الأولى - نعني الأمية - ونفيناها جدلا فأنى لنا أن ننسب له - صلى الله عليه وسلم - قراءة واقتباسا وتلفيقا من مسطر بغير العربية [9]؟!
لم يعاصر بحيرا أو نسطورا الحوادث الواردة في القرآن الكريم، فأين هما من سؤال يسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - فنرى الإجابة تواتيه في أول وحي ينزل عليه؟!
ولو قلنا معهم بأن لبعض هؤلاء الرهبان من القرآن نصيبا؛ تساءلنا: أين نجد أنفسنا أمام قرآن متحد الأسلوب موحد النسق؟ ثم أنى لبحيرا أو لغيره أن يدرك من الأمور مالم يشاهده بعينه؟! إن هذا لا يكون ولا يستقيم.
ومما يهدم هذه الشبهة من أساسها حقيقة ملموسة فيما يتعلق بمسألة تعلم القرآن هذه، مؤداها أن اسم هذا المعلم المدعي كان يتغير باختلاف المصدر الذي تثار فيه هذه الفرية؛ فإن كان المصدر أو المرجع مسيحيا فالراهب هو سرجيوس أو بحيرا أو نسطورا أو ورقة، وإذا كان المصدر أو المرجع يهوديا، فصاحب القرآن حاخام إسرائيلي مجهول الاسم، وأمام هذا الاضطراب والاختلاف نتساءل: أليس هذا الاختلاف - في حد ذاته - دليلا قويا يكفي لرد هذه الفرية من أساسها [10]؟!
على أنه من البدهي - ونحن نثبت ما انفرد به القرآن عن سابقيه من الكتب موازاة لما اختص به الإسلام عامة عن غيره من الديانات - أن تقر حقيقة واقعة بالفعل، تتمثل في التقاء القرآن الكريم مع الكتب السابقة في قصصها العام باعتبار أن المشكاة التي خرجت منها و احدة، ولكن تفاصيل القصة في القرآن قد فضحت أهل الكتاب، وافتراءاتهم على الله ورسله.
ويحسن بنا أن نذكر كلمة للدكتور نظمي لوقا - وهو من الباحثين المنصفين من غير المسلمين - في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وبحيرا حيث يقول: "محمد بغير ذلك اللقاء في عرض الفلاة - يعني لقاءه ببحيرا - كان حريا أن يغدو بقضه وقضيضه، وفضله وعقله وهداه، أما بحيرا بغير هذا اللقاء فكان حريا به أن يذهب في التاريخ نسيا منسيا - كغيره من النساك، فأدخله لقاؤه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دولة التاريخ وأحدث له ذكرا باقيا"!
إن الباحث يريد أن يقول بعبارة أخرى: إن بحيرا لم يكن سقراط عصره، ولا فيلسوف زمانه، ولم يعرف له ذكر قبل هذا اللقاء ولا بعده، فمن بحيرا هذا حتى ينسب القرآن له؟!
يقول أحد المستشرقين ردا على فرية تعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من بحيرا: "لا تسمح النصوص العربية التي عثر عليها ونشرت وبحثت منذ ذلك الوقت بأن نرى في الدور المسند إلى هذا الراهب النسطوري إلا مجرد نسج خيال" [11].
نحن لا ننكر أن في القرآن ألفاظا في أصلها يونانية ورومانية وفارسية مثل: القسطاس، [12] الفردوس، [13] قطران، [14] قسورة، [15]... وغيرها، لكن اشتمال القرآن الكريم على هذه الألفاظ لا يعد تأثرا بتلك الثقافات ولا اقتباسا منها؛ لأن مثل هذه الألفاظ قد عربت واندمجت في لغة العرب، وأجروها على قواعدهم، فأصبحت - بذلك - جزءا من لغتهم التي نزل القرآن بها، وقد وردت هذه الألفاظ كثيرا في الشعر العربي قبل الإسلام.
وهذا شأن كل لغة حية تتأثر بغيرها وتؤثر في غيرها، فليس ثمة لغة خالصة، ولو وجدت لدل ذلك على انعزال أهلها عن العلم وتقوقعهم على أنفسهم وبعدهم عن الحضارة.
هذا بشأن الثقافتين اليونانية والرومانية، أما قبول مثل هذا الكلام فيما يتعلق بالثقافة الهندية، ففيه كثير من التجوز المرفوض والتحامل غير المسوغ؛ ذاك أنه ليست في القرآن الكريم إشارة واحدة إلى الهند، ولا إلى ثقافتها، وإنما جاءت هذه الثقافة إلى بلاد العرب بعد الفتوحات الإسلامية، والاتصال الواسع مع العالم شرقه وغربه، وهذا نوع من التلاقح الثقافي بين الأمم والشعوب، أما نزول القرآن فقد كان أسبق من تلك المرحلة بكثير؛ وعليه فلا يستقيم أن نرده لتلك الثقافة خاصة أو لغيرها عامة.
وقريب من هذا - في تحامل الدعوى ورفض قبولها - أن ينسب القرآن للشعر الجاهلي بحجة ما بينهما من تلاق في الألفاظ، وإذا أحطنا هؤلاء علما بأن القرآن إنما أنزل بلغة العرب: مفردات، وأساليب، وتراكيب؛ جاز لنا أن نسأل ما وجه الاعتراض في ذلك ما دام القرآن نفسه منزل بلغتهم تلك؟! ثم أو ليس مرد القرآن والشعر إلى تلك اللغة العربية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل من المنطق أن نتجاهل الأصل المستقى منه ونتهم أحد أشكاله بأنه فرع عن شكل آخر مستقى من نفس الأصل؟!
ويندرج تحت هذا الباب أيضا ما يثار من أن أشعار الحنفاء [16] عامة، وأمية بن أبي الصلت خاصة ألهمت محمدا - صلى الله عليه وسلم - القرآن بما فيها من تنكر لعبادة الأصنام ونقد للمجتمع الجاهلي، لكننا لا نعمم الكلام على الحنفاء جملة، فمنهم من أسلم ثم تنصر - كعبيد الله بن جحش -، ومنهم من قدم على قيصر وتنصر - كعثمان بن الحويرث - حتى إن أمية نفسه لم يسلم؛ حنقا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما شهد له بأنه على الحق، ورثى قتلى بدر من المشركين، وأخذ يهجو الإسلام، ولا ندري من أي شعر أمية اقتبس النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن؟! أمن شعر الحنيفية الذي كتبه قبل البعثة؟! فلو كان لما سكت أمية على ذلك وهو الحانق على نبوته - صلى الله عليه وسلم - الحاسد له، ولم لا وقد قال: " إنما كنت أرجو أن أكونه" [17]، أم من هجائه للإسلام ونبيه وأصحابه، ونصرته المشركين ورثائه قتلاهم؟! ونعتقد أن موازنة يسيرة بين القرآن وتلك الأشعار خاصة تغنينا عن مزيد تفصيل وفضل بيان.
وإذا علمنا أن كثيرا من آيات القرآن نزلت مرتبطة بوقائع وأحداث معروفة، وأن هذه الأحداث وتلك الوقائع وقعت بعد زمن من خلوته - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء؛ نتساءل: كيف نظم محمد - صلى الله عليه وسلم - هذه الأحداث وتلك الوقائع في خلوته قرآنا قبل وقوعها أصلا؟!
كما أن الاختلاء بالنفس قد يتولد عنه خواطر وتأملات. أما أن يتولد عنه دستور ينظم حياة الناس تنظيما أبديا فلا، ولنا أن نسأل هؤلاء: إذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - قد ألف القرآن في فترة تعبده واختلائه في غار حراء، فلماذا انتظر كل هذا الوقت حتى يعلن أنه مرسل من ربه؟ ثم أليس ثمة تناقض بين ما يستلزمه ادعاؤهم من خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومه بالقرآن جملة واحدة، وبين ما استدلوا به على بشرية القرآن في مضمون هذه الشبهة من نزوله منجما؟!
ويحسن بنا - بعد الوقوف على ما وقع فيه أولئك من خلط واضطراب - أن نقرر جملة حقائق مشفوعة بتساؤلات تحتاج إلى إجابة شافية من قبل هؤلاء الأدعياء المتقولين، ومن تلك الحقائق ما يأتي:
• كانت خلوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحنثه [18] في غار حراء من جملة ما من به الله - عز وجل - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - حين حبب - له دون غيره من قومه - تلك الخلوة؛ هروبا به - صلى الله عليه وسلم - مما كانوا عليه من عبادة الأصنام؛ ليتناسى بذلك المألوف من عاداتهم، ويستمر على هجران ما لا يحمد من أخلاقهم، وألزمه شعار التقوى وأقامه في مقام العبودية بين يديه، فيخشع قلبه، وتلين عريكته لورود الوحي [19]، وهنا نتساءل: ألم يكن من الإنصاف أن يستدل بتلك الخلوة على نبوته - إذ هي من إرهاصاتها - وبالتالي إلهية رسالته صلى الله عليه وسلم؟! ثم، أمن المنطق أن يؤلف النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن في غار حراء، ثم يخرج على قومه مدعيا النبوة من المكان ذاته؟! ألم يكن من الأولى - لو كان كما قالوا - أن ينفي خلوته أو يخفيها، وحينما يؤلف قرآنها الدال على نبوته يخرج عليهم به من مكان غيره؟!
• يشهد التاريخ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بدعا من الرسل في اعتزاله مساوئ قومه، وتجنبه منكراتهم ومفاسدهم، وخلوته للتأمل في بديع صنع الله - سبحانه وتعالى - ومن هؤلاء زكريا - عليه السلام - مريم الصديقة [20]، وإذا ثبت هذا، فلماذا غض أولئك الطرف عن هاتين العزلتين ونالوا من خلوته صلى الله عليه وسلم؟
• إذا علمنا أن غار حراء هذا اكتنف في جنباته قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - جده عبد المطلب، وبعض قريش؛ تساءلنا: لماذا لم يخرج إلينا أحد هؤلاء بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بقريب منه، إن كان للخلوة أن تصنع نبوة أو تفرز قرآنا؟!
إن الوحي [21] ليس نوعا من الهوس، وإنما هو ظاهرة روحية خص الله بها من اصطفاهم للنبوة، وبه يكون اتصالهم بالله من غير حلول ولا اتحاد؛ ليكلفهم [22] إبلاغ تعاليمه للناس.
وليس ما كان يحدث لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلهاما فائضا من استعداد النفس العالية، حتى يمكن القول بأن معلوماته وأفكاره وآماله ولدت له إلهاما فاض من عقله الباطن أو نفسه الروحانية على مخيلته، ثم انعكس اعتقاده على بصره، فرأى الملك ماثلا له أو على سمعه، فوعى ما حدثه به الملك.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الوحي أنواع مختلفة؛ فمنه ما يكون مناما، بأن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه رؤيا؛ فتتحقق بعد في اليقظة كما رآها في نومه تماما،
ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم:
«إن رؤيا الأنبياء وحي».
[23]
ومن الوحي ما يكون إلهاما يلقيه الله في قلب نبيه؛ فيجد من نفسه علما ضروريا بأن هذا من عند الله سبحانه وتعالى... ومنه ما يكون تكليما من الله لنبيه بكلام يسمعه ويدرك معناه، مع يقينه بأنه كلام الله وليس كلام أحد سواه، كما حدث لموسى، وآخر صور الوحي ما يكون بواسطة أمين الوحي جبريل - عليه السلام - هذا أغلب أنواع الوحي لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الرسل، والقرآن كله من هذا القبيل [24].
نخلص من هذا إلى أن ما كان يصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - حال تلقيه الوحي ليس هوسا ولا صرعا وما ينبغي له أن يكون كذلك، ومعلوم أن الوحي كان يأتيه - صلى الله عليه وسلم - مثل صلصلة الجرس، وأحيانا يأتيه جبريل في صورته الملائكية، وأحيانا أخرى كان يتشكل في صورة بشرية [25].
فالوحي من خارج نفسه - صلى الله عليه وسلم - وليس نابعا من داخله كما يزعمون، إضافة إلى أن رؤى النائم أو المضطرب ذهنيا - بصرع أو هوس أو غيره - لا يمكن أن تبلغ هذه الدرجة العالية من الدقة والنظامية والتناسق البديع الذي نجده في القرآن الكريم.
لعل في تلك الحكم - لو فطنها هؤلاء - ما يدل على إلهية القرآن لا على بشريته المزعومة، ومن تلك الحكم ما يأتي:
• تثبيت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما أشار إليه الحق - سبحانه وتعالى - في رده على المكذبين في
* قوله سبحانه وتعالى: (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا (32)) [الفرقان.]
• التدرج في تربية الأمة دينيا، وخلقيا، واجتماعيا، وعقائديا، وعلميا، وعمليا، وهذه الحكمة هي التي أشار إليها - سبحانه وتعالى -
* بقوله: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (106)) [الإسراء.]
• مجاراة الحوادث والنوازل والأحوال والملابسات - في تتابعها وتجددها - وهذا ما نلمحه في
* قوله سبحانه وتعالى: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا (33)) [الفرقان.]
• إثبات إعجاز القرآن على أبلغ وجه؛ لأنه لو نزل جملة واحدة؛ لقال المشككون: "شيء جاءنا مرة واحدة، فلا نستطيع أن نعارضه، ولو أنه جاءنا قطعا قطعا لعارضناه". فالقرآن بنزوله مفرقا، على تباعد أزمان النزول جاء في سلسلة ذهبية مترابطة الحلقات منسجمة الشكل، لا تنبو كلمة عن كلمة، أوتنفر آية من آية، بل كله غاية في الفصاحة، والبلاغة، والإعجاز، والإحكام.
معلوم أن القرآن تحدى فصحاء العرب وبلغاءهم أن يأتوا بمثل هذا الكلام الذي نزل بلغتهم في غير ما موضع، متبعا التدريج العددي في التحدي بدءا من التحدي بالقرآن كله ومرورا بعشر سور وانتهاء بسورة واحدة - إنها قمة التحدي وغاية الاستنفار وذروة التعجيز - والأكثر من هذا أن القرآن قرن ذاك التحدي بالجزم بفشلهم فيه؛ ومن ذلك
* قوله سبحانه وتعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)) [الإسراء.]
فإذا علم أن فصحاء العرب قاطبة فشلوا في ذاك التحدي مع شدة حاجتهم للنجاح فيه، مع ما لهم من الفصاحة والبيان؛ علم بذلك أن غيرهم بذاك الفشل أولى. ولو ثبت أنه قد جيء بسورة من مثله - كما يدعون ـ؛ لوصلت إلينا، ولذاعت بين الناس، بل لو عرف المكذبون المعاندون أنهم سينجحون في الإتيان بمثل ما تحداهم به القرآن؛ لحسموا الأمر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من البداية، ولما لجئوا للحرب، وفيها فناء الأنفس وضياع الأموال، لو كانوا يملكون ما يوفر عليهم ذلك كله - وهو الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه، وما أيسرها لو استطاعوا.
على أن جميع ما أثر من محاولات في القديم والحديث - إن هي إلا محاولات فاشلة مضحكة؛ لأنها مجرد محاكاة شكلية هزيلة لبعض ألفاظ القرآن الحق، مجردة من مضمون القرآن، ومن أقل صور الإعجاز التي يحملها.
وفي التاريخ الغابر أناس كثيرون زعموا أن بوسعهم أن يأتوا بمثل القرآن الكريم، فإذا ما بحثنا وفتشنا في طوايا التاريخ؛ لن نجد وراء دعاواهم شيئا. وما أكثر الدعاوى التي من هذا القبيل، على أنها جميعا تفتقد شاهد صدق واحد عليها.
ولعل سبب ذلك - كما يشير المعري - أن أحد أولئك الأدعياء يستنجد بما يملك من البيان؛ ليأتي بشيء من مثل القرآن، فتخونه سليقته العربية، وتغيب عنه ملكته، فلا يأتي إلا بمرذول الكلام وسخيفه؛ فيتكتم على عمله ويطويه عن فكره؛ حذرا من التشنيع عليه، وتضاحك الناس منه، أو يلصقه بأديب ذاع صيته، ليجعل من ذلك أحدوثة المجالس، ومادة فكاهة لهم فيها.
على أن باب التحدي لمن يريد أن ينكر سمة الإعجاز في القرآن - ما يزال مفتوحا لكل من آنس من نفسه قدرة على كسر طوق هذا المتحدى به - القرآن -، وهل في الناس من يملك أن يغلق باب التحدي بعد أن فتحه الله على مصراعيه؛ دليلا على إعجاز القرآن وخلوده؟! إن هذا الإعجاز وذاك الخلود الإلهي للقرآن باقيان طالما بقي باب التحدي مفتوحا، يعجز عن وصده الأدعياء [26].
نقر في البدء بأن القرآن نزل بقراءات متعددة، لكننا في الوقت ذاته نقر بحقيقة أخرى تتمثل في أن هذا التعدد لا يشمل القرآن كله، وإنما هو مقتصر على كلمات محددة، ثم إن هذا التعدد في القراءات أمر توقيفي قليلا كان أو كثيرا؟!
ولعل حقيقة ربانية القراءات القرآنية - وأنها وحي لا يختلف عن جملة القرآن - تدفعنا لمحاولة الوقوف على حكمة اختلاف تلك القراءات وما يقتضيه ذاك التنوع في طرق أداء القرآن - بقراءة الكلمة القرآنية على وجهين أو أكثر - من إثراء المعنى، وتوسيع الدلالة، والتيسير على الأمة العربية ذات اللهجات المتعددة والألسنة المتباينة؛ كي لا يشق عليها التزام وجه واحد في القراءة.
نضيف إلى كل ما سبق أن أغلب اختلاف القراءات في القرآن صوتي لا يوقع المعاني في تضاد، ولا المدلولات في تناقض، ولا الأحكام في تضارب؛ إذ إنها لا تمس من التشريع أصلا ولا فرعا، ولا تحلل حراما، ولا تحرم حلالا.
وعليه فليس معنى نزول القرآن بقراءات متعددة أن فيه اضطرابا، وأن اختلاف القراءات فيه بمعنى تناقض الأحكام وتدافع معانيه وتعاليمه؛ بل هي - كما أشرنا - من قبيل إثراء المعنى، وتوسيع الدلالة، والتيسير.
ويؤكد هذا المعنى أحاديث عدة؛
منها ما جاء عن أبي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال:
"إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف"، قال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، إن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم أتاه ثانية فذكر نحو هذا حتى بلغ سبعة أحرف، قال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف، وأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا»
[27].
وكان نزول القرآن على قراءات متعددة - أيضا - لإثبات إعجازه للفطرة اللغوية عند العرب قاطبة، فتعددت مناحي التنزيل للقرآن تعددا يكافئ الفروع اللسانية التي عليها فطرة اللغة في العرب، حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه، ومع بقاء الإعجاز الذي تحدى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - العرب، ومع اليأس من معارضته لا يكون القرآن إعجازا للسان دون آخر، وإنما يكون إعجازا للفطرة اللغوية نفسها عند العرب.
إن المتأمل في آيات القرآن يقف على كثير من الأمثلة الدالة على تلك الوجوه، من ذلك: الإخبار بالغيب - من ماض ومستقبل وكشف خفايا النفوس -، والإعجاز العلمي، والبياني، والتشريعي. ولمزيد من الإيضاح نفصل كل جانب من تلك الجوانب بما يشكل في النهاية حقيقة الإقرار بربانية المصدر المشتمل على تلك الجوانب جميعها، وبيان ذلك على التفصيل الآتي:
وهذا من أدل الوجوه على أن القرآن كلام الله وليس من صنع بشر، ولما كان الغيب لله وحده مستأثر به دون سائر خلقه، لا يطلع أحد منهم - حتى الأنبياء والرسل والملائكة - على شيء منه إلا إذا أطلعه الله عليه، وصدق القرآن فيما أخبر به من ذاك - علم يقينا أن هذا القرآن إنما هو من عند الله الذي أخبر فيه - بما صدقه الواقع وشاهده الناس - بما لا علم لأحد به إلا هو - سبحانه وتعالى - ومن صور الإخبار بالغيب ما يأتي:
• الإخبار عن الغيوب الماضية: ومن ذلك ما ورد في القرآن من أخبار القرون كقصة هود وصالح ونوح وشعيب وغير ذلك من الأخبار الماضية التي لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم بها، لا هو ولا قومه من قبل أن ينزل بها القرآن.
• الإخبار عن الغيوب المستقبلية: وقد أخبر القرآن بأخبار لم تكن وقعت بعد، وثم وقعت في المستقبل طبقا لما أخبر، من ذلك:
o الإخبار بغلبة الروم على الفرس: وذلك في
* قوله سبحانه وتعالى: (الم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4)) [الروم.]
o الإخبار بهزيمة قريش:
* في قوله سبحانه وتعالى: (سيهزم الجمع ويولون الدبر (45)) [القمر]
* ، وقوله سبحانه وتعالى: (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب (11)) [ص،]
وهذا ما وقع في بدر.
o الإخبار بدخول النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام البيت الحرام:
* في قوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 27]
وهو ما كان في فتح مكة.
o الإخبار بموت أبي لهب والوليد بن المغيرة على الكفر: فقال في شأن أبي لهب:
* (تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) سيصلى نارا ذات لهب (3)) [المسد،]
وقال في شأن الوليد:
* (سأصليه سقر (26)) [المدثر،]
ولم يسلما، وهذا دليل على كونه من لدن حكيم خبير.
والأمثلة في هذا الجانب في القرآن كثيرة تند عن الحصر في مثل هذا المقام [28].
• كشف خفايا النفوس: وهو أمر ليس بمقدور البشر، إلا إذا حدث به صاحبه وكشف عما يخالج نفسه ويخطر في قلبه، فإذا أخبر القرآن عن هذا الجانب بما لم ينكره أولئك الذين كشف طواياهم علم بذلك أنه كلام خارج مضمونه عن مقدور البشر، فلو لم يكن وحيا إلهيا لما كان لأحد سبيل إلى معرفته، ومن ذلك ما يأتي:
o الكشف عن حقيقة المنافقين وموالاتهم لليهود؛ وذلك في
* قوله سبحانه وتعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون (11) لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون (12)) [الحشر.]
وهذا ما أكده عبد الله بن أبي حين لم يخرج مع يهود بني النضير لما أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من ديارهم.
o الكشف عما أراده المنافقون يوم الأحزاب؛ وذلك في
* قوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل (1)) [الممتحنة،]
وهو ما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.
o إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن زوجته أفشت سره؛ وذلك في ق
* قوله سبحانه وتعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير (3)) [التحريم.]
وهذا قليل من كثير من الأمثلة الواردة في القرآن، والتي تتضمن نمادج بينة تؤكد أن هذا القرآن الإلهي معجزة حية ناطقة أبد الدهر [29].
وهذا الجانب من جوانب الإعجاز لا يقبل مجالا للشك - أو التشكيك - من قبل أعداء الإسلام؛ فمن من البشر بوسعه أن يحيط علما بكل الحقائق العلمية التي وردت في القرآن في هذا الوقت المبكر من تاريخ البشرية، هذه الحقائق التي لم يدرك الإنسان بعضها إلا منذ عهد قريب جدا بعد أن فتح الله عليه ببعض العلم، ولا يزال القرآن عامرا بالأسرار والمعجزات التي لم يعرفها الإنسان بعد، وسنكتفي بضرب الأمثلة عليه فيما يأتي:
• ذكر القرآن الكريـم أن الفضـاء الخارجـي مظلـم تماما، وأن من يريد الصعـود لهذا الفضـاء لا بد أن يصعـد في خطـوط متعرجة لا في خـط مستقيـم، وهذا ما نقـرؤه في
* قولـه سبحانـه وتعالـى: (ولو فتحنا عليهم بابا مـن السمـاء فظلـوا فيـه يعرجــون (14) لقالــوا إنمـا سكــرت أبصارنـــا بــل نحـن قــوم مسحــورون (15)) [الحجر]
، وهذا لم يعرفه العلم الحديث إلا بعد انطلاق رحلات الفضاء الخارجي، فجاء رواد الفضاء الذين اشتركوا في هذه الرحلات الحديثة ليؤكدوا هذه الحقيقة التي أقرها القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.
• تحدث القرآن عن نشأة السماوات والأرض
* فقال: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30)) [الأنبياء]
فالسماوات والأرض كانتا رتقا، أي: متلاصقتين، ففتقهما الله - سبحانه وتعالى - أي: فصلهما عن بعضهما، وهذا ما توصلت إليه الأبحاث العلمية الحديثة.
• قال الله - سبحانه وتعالى - عن الأرض:
* (والأرض بعد ذلك دحاها (30) أخرج منها ماءها ومرعاها (31)) [النازعات]
، وقد أثبت العلم الحديث - فيما ذكره د. زغلول النجار" تعليقا على هذه الآية - أن الثورات البركانية وما ألقته حول الأرض من غازات وأبخرة، وعلى سطحها من حمم ورماد بركاني، قد لعبت دورا أساسيا في بناء اليابسة، وفي تكون كل من الغلافين الغازي والمائي للأرض.
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن غالبية ما يتصاعد من فوهات البراكين أثناء ثورانها هو بخار الماء؛ إذ يتصاعد بنسبة 70%، ويليه أكسيد الكربون، وبعض الغازات الأخرى، وأن البخار المتصاعد من فوهات البراكين سرعان ما يتكثف ويعود إلى الأرض مطرا، وقد أدى ذلك إلى إثبات أن جميع الماء على سطح الأرض وفي غلافها الغازي قد أخرج أصلا من داخلها مع ثورات البراكين، وهذه حقيقة لم يعرفها الإنسان إلا منذ سنوات قليلة.
كذلك أدرك العلماء أن "ثاني أكسيد الكربون" يلعب دورا مهما في عملية التمثيل الضوئي التي يقوم النبات بها من أجل تمثيل غذائه وتحويله إلى المواد البانية لخلاياه والمنتجة لثماره وأعشابه وأوراقه، والتي بغيرها لا يمكن للأرض أن تنبت.
فخروج الماء من داخل الأرض هو تعبير عن حقيقة واقعة، مؤداها: أن كل ماء الأرض - على كثرته - قد أخرج أصلا من داخلها، وأن ثاني أكسيد الكربون اللازم لحياة كل نبات يقوم بعملية التمثيل الضوئي وإنتاج المادة الخضراء فيه (اليخضور) قد أخرج أيضا من داخل الأرض [30].
• نقرأ في القرآن الكريم