المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | مجموعة مؤلفي بيان الإسلام |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | تحكيم الشريعة - شبهات حول الإسلام |
يدعي بعض المشككين أن النصرانية أكثر صلاحية للحياة وارتباطا بالواقع من الإسلام، ويزعمون أن المدنية الحديثة مدنية نصرانية ترعرعت في أحضان الكنيسة، وأن الإسلام دين انتهى زمنه ولا مستقبل له.
1) متى كان للنصرانية علاقة بواقع الحياة ومجرياتها من الأصل؟ وقد نظرت إلى الجانب الروحي فقط، وتحكمت الكنيسة في رقاب البلاد والعباد؛ فحاربت العلم وأعدمت العلماء وأحرقت المصلحين وسامت [1] الناس شتى صنوف الاضطهاد، حتى ضج [2] الناس وثاروا عليها وعزلوها عن واقع الحياة وحبسوها وراء جدران المعابد والكنائس.
2) شمولية الإسلام لأمر الدين والدنيا ووسطيته، أهلته للصلاحية لكل زمان ومكان، فهو دين المادة والروح والعقل والعلم والعبادات والمعاملات، وما تخلف المسلمون عن الصدارة والقيادة إلا بعد أن فرطوا في دينهم.
3) الحضارة الإسلامية ذات نزعة إنسانية؛ لأنها تميزت بالمزج بين الرقي المادي والمعنوي على حد سواء، وقامت على مبدأ العدالة والحرية والمساواة.
4) العلمانية في بلادنا زرع شيطاني.
5) حضارة الغرب تتسم [3] بقدر كبير من التوحش خصوصا في علاقتها بالآخر.
6) المستقبل للإسلام بشرط تحقيق المسلمين له وتطبيقه، والتجديد والإحياء الحضاري.
المسيحية ديانة يغلب عليها - في أصلها السماوي - الجانب الروحي الأخلاقي المثالي، وتعاليمها لم تهتم كثيرا بمسيرة الإنسان، ومعاملاته، وتفاعلات الحياة الإنسانية العملية في المجالات المختلفة على وجه الأرض.
فإنجيل متى يورد على لسان المسيح - عليه السلام - قوله: "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات. طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يشبعون. طوبى للرحماء، لأنهم يرحمون. طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله. طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون. طوبى للمطرودين من أجل البر، لأن لهم ملكوت السماوات ". (متى 5: 3 - 10).
وفي إنجيل لوقا يجيب المسيح عن سؤال السائل: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ بقوله: "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك. فقال له: بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا". (لوقا 10: 27، 28)، فهذا اللون من المبادئ والتعاليم يمثل لب ما ينسب للمسيح وجوهره، وعليه كان مدار رسالته، ومع هذا فبدافع شهوة التسلط والتحكم والسيطرة، والمصالح الدنيوية للباباوات، تحكمت الكنيسة - خلال العصور الوسطى - في رقاب البلاد والعباد في الغرب، وتدخلت في أخص خصوصياتهم وأمسكت بخناقهم.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "اشتد ضغط الكنيسة الكاثوليكية على المسيحيين، وبالغت في فرض آرائها عليهم مبالغة تجاوزت حد الغلو، ولم تسلك في ذلك سبيل الموعظة الحسنة، والدعوة الصالحة والإرشاد القويم، ومخاطبة الأرواح والنفوس، وتمكينها من أن تتبعها وهي حرة مريدة مختارة، بل سلكت سبيل العنف، وركبت متن الشدة، فجعلت كل رأي في العلوم الكونية يخالف رأيها كفرا، ولا تدعو معتنقيه إلى الهداية، وترشده إلى الرشاد، كما يليق برجال الدين مع من يرونه ضالا، بل تكفر لأوهى الأسباب، وتحرق أو تعذب من تراه كافرا بلا رفق ولا هوادة.
فهذا المجمع الثاني عشر من مجامع الكنيسة هو المجمع المسمى باللاتيراني الرابع المنعقد سنة 1251م، يقرر استئصال الهراطقة [4]، ويعنون بذلك كل من يرى رأيا مخالفا للكنيسة، ولو كان رأيا في الكون أو طبائع الأشياء، ولم تكتف الكنيسة بقتل من يجهرون بآراء تخالف آراءها، بل أخذت تنقب على القلوب وتستكنه خبايا النفوس، وتكشف عن سرائر الناس، بما أسماه التاريخ محاكم التفتيش، التي دنست تاريخ الأديان بما ارتكبت من آثام، وما أزهقت من أرواح، وما سفكت من دماء، وما عذبت من أحياء، وإن جهر رجل من رجال الدين بالدعوة إلى الإصلاح، داعيا رجال الكنيسة إلى أخذ الناس بالرفق، وحاثا رجال الدين على الأخذ بهديه، كان عقابه الحرمان والقتل.
وحدث في أوائل القرن الخامس عشر أن أحس أساقفة فرنسا بوجوب إصلاح الباباوات، فانعقد لذلك مجمع مؤلف من 150 أسقفا، و 1800 من رجال الدين، ولكن هذا المجمع انتهى في قراراته بالأمر بإحراق يوحنا هوس مصلح كنيسة بوهيميا ورفيقه جيروم. ولقد حرق وعذب في هذا السبيل علماء قتلوا في سبيل العلم، بسبب مظالم تلك الكنيسة، وضيق صدر القوامين عليها، ومما يذكر في هذا أن أحد العلماء واسمه أبيلارد كان له رأي في تكفير المسيح عن خطيئة آدم، خالف به رأي الكنيسة، فقال: ليست حياة المسيح وصلبه، وما لاقى في ذلك من تعذيب سبيلا لإرضاء الله، وإنزال عفوه عن خطيئة الإنسان، فعفو الله أيسر من ذلك وأقرب، وإنما لاقى المسيح ما لاقى إعلانا لما يكنه قلبه من حب الله. وعسى أن يثير في الناس عاطفة الشكر، وعرفان الجميل، فيعيدهم إلى طاعة الله، ولكنه ما إن قال ذلك القول حتى انعقد مجلس لمحاكمته، فكان نصيب كتبه التحريق، ونصيبه السجن الدائم حتى وافته منيته، وجاليليو يرى رأيا في الكون فيسجن لذلك الرأي، مع أن رأيه ليس من أمور الدين في شيء.
بالغت الكنيسة في شدتها، كما رأيت، ولم ينج حتى الملوك من طغيانها، فقد كان انقسام الدولة الرومانية الغربية إلى ممالك مختلفة، واعتبار كل مملكة وحدة سياسية، لا تتصل بالأخرى إلا اتصال محبة وسلام، أو حرب وخصام، كان ذلك سببا في أن صار البابا لا سلطان لأحد من ولاة الأمر عليه، وقد تقرر هذا من بعد، كما صار تعيين الباباوات باختيار المجامع، لا بتعيين ملك أو أمير، مهما تكن قوته وسطوته.
وصار الباباوات بعد تعيينهم غير خاضعين بأي نوع من أنواع الخضوع لأي ملك من الملوك، وعلى النقيض من ذلك لهم هم السلطان الذي لا يرد على كل مسيحي، مهما تكن مكانته، يستوي في ذلك الأمير والخفير، والراعي والرعية، فليس لأي ملك سلطان على البابا، والبابا له سلطان على كل ملك؛ لأنه مسيحي، وله السلطان الكامل على كل المسيحيين. ولأن البابا خليفة لبطرس الرسول، وبطرس الرسول أقامه المسيح رئيسا على الحواريين من بعده، فالبابا على هذا الأساس خليفة للمسيح ينطق باسمه، ويتكلم بخلافته، وينفذ بسلطانه، ومن خرج عن طاعته فقد خرج عن طاعة المسيح وحارب دينه.
وبهذا المنطق فرضوا أوامرهم على الملوك، كما فرضوها على سائر الناس، ولذا لم ينج بعض الملوك من قرارات المجامع بحرمانهم، وطردهم من حظيرة المسيحية، ولعنهم، فقد جاء في كتاب "سوسنة سليمان": "المجمع الثالث عشر انعقد في ليون من أعمال فرنسا سنة 1245م بأمر البابا إينوسنت الرابع لأجل عزل فردريك ملك فرنسا وحرمانه، وهذا المجمع لم تسلم كنيسة فرنسا حتى الآن بصحته أو بسلطانه، مطلقا.
لم ينج إذن الملوك من قرارات الحرمان والطرد، وإن لذلك أثره في نفوس شعوبهم، كما أنه يحفز الملوك على العمل من جانبهم على حماية أنفسهم، وهم في ذلك لا يمتنعون عن أن يثيروا القالة [5] في رجال الكهنوت، ويكبروا صغائرهم، ويروجوا عنهم ما يحط من قداستهم، حتى ينفردوا بالاحترام، ولا يكون سلطان لأحد غيرهم.
هذه هي الكنيسة في معاملتها للناس، عنف، وزجر، وقسوة، لا إرشاد وهداية وإصلاح، وهي تضرب كل من يعترض طريقها، لا تفرق بين سائس ومسوس، وحاكم ومحكوم، وراع ورعية، وقد احتكمت لهذا بذوي السلطان، فكان لا بد من مغالبة بينهما، ولم يكن الأمر مقصورا على الأذى البدني تنزله بمن يخالفها، ولو فيما ليس بينه وبين الدين نسب، ولا يتصل به بسبب، بل تعدى ذلك إلى إرهاق المسيحيين بإتاوات مالية يفرضونها، وضرائب كبيرة يأخذونها، وعلى ذلك صار المسيحيون قاطبة يئنون تحت نير [6] ثقيل، سواء في ذلك من خالف ومن وافق.
فالمخالف بالعذاب يهرأ [7] به جسمه، والموافق بالمال يوثق به، وتفرض عليه ضرائب لأسباب غير معقولة وغير مقبولة أحيانا، وما يجمع من أموال الفقراء والمجدودين التي حصلوا عليها بالكد واللغوب [8] يتوزعه رجال الدين بينهم، وينفقونه إسرافا وبدارا [9] في سبيل تحقيق رغباتهم، وبذلك كانوا يجمعون المال من غير حله وينفقونه في غير حله أيضا، وبذلك انغمسوا في شر ما في هذه الدنيا، وتركوا لب الدين.
ولقد احتجزت الكنيسة لنفسها الحق في فهم الكتب المقدسة عندهم، واستبدت بتفسيرها دون سائر الناس، ولا معقب لما تقول في هذا التفسير، أو في رأي تبديه أو أمر تعلنه، وعلى الناس أن يتلقوا قولها بالقبول، وافق العقل أو خالفه، وعلى المسيحي إذا لم يستسغ عقله قولا قالته أو مبدأ دينيا أعلنته، أن يروض [10] عقله على قبوله، فإن لم يستطع، فعليه أن يشك في العقل، ولا يشك في قول البابا؛ لأن البابا خليفة لسلسلة الخلافة التي بيناها.
ولقد كانت تعلن - أي الكنيسة - أمورا ما جاء بها الكتاب المقدس عندهم، وما تعرض له المسيحيون الأولون، ولا المجامع الأولى، وهي أمور غريبة جد الغرابة، بعيدة عن القبول في أحكام العقل جد البعد، وتلزم المسيحيين بها، وتفرضها عليهم فرضا، ومن قال كلمة فيها فالويل له، ينزلونه به في الدنيا ولا ينتظرون حساب الديان في الآخرة.
ونذكر القارئ على سبيل المثال، بمسألتين كان لهما أثر في الفكر المسيحي، وبسببهما هما وغيرهما تقدم المصلحون في جرأة، داعين إلى إصلاح الكنيسة بالحسنى أو بغير الحسنى، هاتان المسألتان هما مسألة الاستحالة، ومسألة الغفران.
أما مسألة الاستحالة، فالأساس فيها ما علمت في الشعائر النصرانية، من أن المسيحيين يأكلون يوم الفصح خبزا، ويشربون خمرا، ويسمون ذلك بالعشاء الرباني، ولقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح، وذلك الخمر يستحيل إلى دم المسيح المسفوك، فمن أكلهما وقد استحالا هذه الاستحالة فقد أدخل المسيح في جسده بلحمه ودمه.
وذلك أمر غريب في العقل، لا يستطيع أن يستسيغه أحد بيسر وسهولة، بل لا يستطيع أن يستسيغه قط، إذ كيف يتحول الخبز لحما؟ وكيف يصير لحم شخص معين معروف؟ وكيف تتحول الخمر دما، وتصير دم شخص معين معروف؟ ذلك غريب بل مستحيل التصور والقبول في العقل، ولكن الكنيسة فرضت على الناس قبوله ومنعتهم من مناقشته، وإلا عرضوا للطرد والحرمان. وهل ورد هذا الأمر في الكتب المقدسة، حتى يجب الأخذ به من غير تفسير أو تأويل؟ إنه أمر استقلت به الكنيسة وأعلنته وأيدته في أحد مجامعها، غير معتمدة في ذلك على نص صريح من الكتب المقدسة عندهم.
ولقد خالفت في بعض شأنه الكنيسة الكاثوليكية غيرها من الكنائس، فالكنيسة الشرقية ترى أن العشاء الرباني لا يكون بالفطير، بينما تراه الكنيسة اللاتينية، ووجد من رجال الفكر من ينكرون هذه الاستحالة، ويعتقدون أنها غير ممكنة في العقل ولا سائغة في الفكر.
أما المسألة الثانية: فهي مسألة امتلاك الكنيسة حق الغفران للمسيء في الدنيا، فقد قررته الكنيسة حقا لنفسها، في المجتمع الثاني عشر أيضا. وقد جاء في كتاب "تاريخ الكنيسة" في بيان قرار المجمع في هذا الشأن: "أنهى المجمع تعليمه فيما يتعلق بأمر الغفران" فقال: "إن يسوع المسيح ما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجتمع المقدس، وأمر بأن تحفظ للكنيسة في الكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي، المثبتة بسلطان المجامع. ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة، أو ينكرون على الكنيسة سلطان منحها، غير أنه قد رغب في أن يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراس، بسبب العادة المحفوظة قديما، والمثبتة في الكنيسة، لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل".
هذا قرار المجمع، وفيه تمكين للكنيسة من سلطان قوي جبار، وهو سلطان مسح الذنوب وغفرانها مهما يكن مقدارها، ومهما تكن قد دنست النفس، وأرهقت القلب، ولكنه قد أوصى الكنيسة بالاعتدال والاحتراس؛ حتى لا يؤدي الإفراط في منح الغفران إلى ترك التهذيب الديني، وهجر تعاليم الكنيسة، والعبث بهدي الدين، فهل أخذت الكنيسة بما أعطاها المجمع، وراعت حق الرعاية ما أوصاها به من عدم الإفراط في الإعطاء والمنح؟ لقد أتى حين من الدهر من بعد أن أعطى رجال الدين أنفسهم ذلك الحق، أن أفرطوا في إعطائه إفراطا شديدا، وأنشأوا له صكوكا تباع وتشتري، فباعوها كأنها عرض من أعراض الدنيا، ومتعة من متعها، وبذل العصاة في سبيلها المال، وما كان عليهم من حرج في أن يرتكبوا ما شاءوا من الموبقات، وينالوا ما تهوى الأنفس من معاص، ما دام ذلك يفتدى بمال قل أو جل، وهذا نص صك الغفران الذي يباع بيع السلعة: "ربنا يسوع المسيح يرحمك يا فلان، ويحلك باستحقاقات آلامه الكلية القداسة، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضا من جميع الإفراط والخطايا، والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة، وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا، والكرسي الرسول، وأمحو جميع أقذار المذنب وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها [11] في المطهر، وأردك حديثا إلى الشركة في أسرار الكنيسة وأقرنك في شركة القديسين، وأردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا عند معموديتك، حتى إنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي دخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، وإن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة، حتى تأتي ساعتك الأخيرة، باسم الآب، والابن، والروح القدس".
هذه صورة من صور صك الغفران تذكر أنها تمحو الآثام، وتغفر ذنوب العاصي، ما تقدم منها وما تأخر، تغسله من ذنوبه الماضية حتى يصير طاهرا، ثم لا يصير قابلا لأن تؤثر فيه الذنوب، مهما يرتكب من خطايا، ومهما ينغمس في المعاصي، كأن ذلك الصك جواز المرور إلى النعيم المقيم، لا يعوق حامله عائق، ولا يرده عن الوصول خازن أو حارس، هذا ما يدل عليه الصك، وهذا ما كانت تحاول الكنيسة أن تلقيه في روع الناس تمكينا لسلطانها، ورغبة في نقودهم التي يبذلونها للكنيسة في سبيل الحصول على ذلك الصك الذي يكون سر الأمان وطريق الوصول إلى الغاية.
لقد ابتدأت الكنيسة صك الغفران بمسألة الاعتراف بالذنوب عند الموت والتوبة، ثم تولى القسيس مسح هذه الذنوب، والشخص لم يودع الدنيا، ثم انتقلت من ذلك إلى أن جعلت لنفسها الحق في الغفران، ولشخص قوي يستقبل الحياة، ولا يودعها، ويقبل على متعها ولا يدبر عنها، وغالت فجعلت لنفسها غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب، ثم أغرقت في المغالاة فاتخذها رجال الدين بابا من أبواب الكسب للكنيسة، ثم إنهم ينفقون ما يجمعونه من مال فيما يحله الدين والأخلاق، وما قد يحرمانه، وبذلك طم السيل [12] حتى جاوز الحزام الطبيين [13].
وهل كان رجال الدين في سلوكهم الشخصي، وفي استمساكهم بعروة الأخلاق وهدى الدين، يستحقون أن يبذل الناس في طاعتهم ما يبذلون ويروضوا أنفسهم على الخضوع لآرائهم وقبولها بقبول حسن، متهمين العقول إن حاولت التمرد والعصيان؛ لأن حال رجال الدين بعيدة عن الظنة [14] منزهة عن الريبة، قد سموا بأنفسهم حتى ساموا في علو القديسين، والشهداء، والصالحين، وجعلوا أنفسهم عنوان العفة، ونجع النفس عن الشر، وافتدوا الفضيلة بأنفسهم، أو عرضوا أنفسهم للفداء، كما كانوا يرون أن المسيح قد فعل من قبل؟
لقد كانت حال رجال الدين تحوطها الريبة من كل جانب وتأخذهم الأنظار المتعقبة من كل ناحية من نواحي الحياة، حرموا على أنفسهم الزواج إذ سادت الرهبانية [15] وسيطرت على نفوسهم، فجعلوا زواجهم حراما؛ لينصرفوا لخدمة كنيسة الرب، ويقوموا على سدانتها، ويرعوها حق رعايتها، ولكن ما إن توردت عليهم الأموال، وكثرت أمامهم أسباب النعيم، حتى فكهوا فيها مترفين، وانغمسوا في الملاذ يستطيبون أطيبها ويطلبون أشدها، ولما مكنوا لأنفسهم من السلطان، اندفع بعضهم في طلبها اندفاعا، ومنهم من استهتر في سبيلها استهتارا، وخرجت حال بعض أولئك المنغمسين في الخطايا من السر إلى الجهر، ومن التستر إلى التفحش ومن الخفية إلى الإعلان.
واتصل بعضهم بالنساء اتصال سفاح، بعد أن حرموا على أنفسهم النكاح، ولم تتمنع النساء المتصلات بهم من أن يعلن ذلك مفاخرات به، وجاء من ذلك الاتصال الآثم أولاد لا آباء لهم، ولكن لهم حظوة؛ لأن بعض رجال الدين يعرفون آباءهم، كما يعرفون أبناءهم، فيمكنون لهم بسلطانهم الديني سلطانا دنيويا.
ولقد كانت تلك الحياة اللاهية العابثة الفاسقة ميزة اختص بها بعض رجال الطبقة الدينية أنفسهم، أما التحوت من رجال الدين ففي فقر مدقع [16]، وفي حياة هي أقرب إلى الدين المسيحي من حياة كبرائهم، وذوي السلطان فيهم وفي الشعب" [17].
فلما أخذت أوربا في النهوض في مطالع العصور الحديثة، كان أول ما سعت إليه هو التخلص من ربقة [18] الكنيسة، وتحكم الباباوات، بل عادي رجال الفكر ورموز النهضة أكثر ما عادوا الكنيسة وما ترمز إليه من دين، فأوغلوا [19] في الإلحاد والمروق من الدين [20] كما أوغلت الكنيسة في الغلو باسم الدين، ومن هنا نشأت العلمانية اللادينية.
يقول الشيخ أبو زهرة: "هذا سلطان الكنيسة، وتلك حال رجالها، يتدخلون في كل شيء، ينقبون عن القلوب، وقد سترها علام الغيوب، ويرهقون من يتهمونهم بأقسى أنواع العذاب، ويفرضون سلطانهم على الراعي والرعية، حتى يتململ [21] من تحكمهم الملوك والأمراء، وذوو الفكر من الشعوب، ويجبون [22] الإتاوات ويفرضون الضرائب حتى كأنهم الجباة العشارون لا رجال الدين المهذبون، ويعطون أنفسهم حق مسح الخطايا بعد اعتراف المذنب في آخر أيامه في الدنيا، وأول أيامه في الآخرة.
ثم يغالون فيمنحون أنفسهم حق غفران الذنوب السابقة واللاحقة للقوي الصحيح، ويكتبون في ذلك صكوكا يبيعونها بثمن قليل أو كثير، ثم يقضون أو بعضهم حياة كلها لهو، وحولهم الناس ينظرون.
ولقد بلغ السيل الزبى [23] في العصر المشهور في التاريخ الأوربي بعصر النهضة، وفيه نهضت الإرادة الإنسانية، والعقل الإنساني يفرضان وجودهما، وفيه استطاع الأوربيون أن يروا الله في الإسلام، والتدين الحقيقي فيما يدعو إليه هذا الدين، إذ اتصل الشرق بالغرب، فيما قبس الغرب من دراسات تلقاها على أساتذة من المسلمين بشكل خاص، ومن الشرقيين بشكل عام، وفيه علم أنه لا سلطان لأحد من رجال الدين على القلب، وأن لا وساطة بين الله والعبد، وأن الله قريب ممن يدعوه، ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
حينئذ أخذت الأنظار المتربصة تحصي على رجال الدين ما يفعلونه، ووجد من بينهم من استنكروا حالهم، وأخذوا يدعون زملاءهم إلى إصلاح حالهم، ليردوهم إلى حكم دينهم قبل أن يفوت الوقت، وقبل أن ينفض الناس، وقبل أن يحملهم العامة على الإصلاح، ولقد جاهر بذلك جيروم وهوس، ولكن كان نصيبهما أن أعدما تحريقا بالنيران، وكان ذلك بقرار من مجمع كونستانس الذي انعقد من سنة 1414م إلى سنة 1418م، ولقد قرر ذلك المجمع قتل هذين العالمين حرقا بالنار؛ لأنهما دعوا الكنيسة إلى عدم الأخذ بما يسمى سر الاعتراف، مبينين أن الكنيسة ليس لها سلطان في محو الإثم أو تقريره، وإنما التوبة مع رحمة الله هي التي تمحو الآثام، وتطهر النفس من الخطايا، ولقد تقدم إلى المجتمع يوحنا هوس ليدافع عن آرائه، وهذا ما قاله كاتب متعصب للكاثوليك في ذلك الدفاع:
"لدى دخوله أخذ يعلن غواياته قبل انتظاره حكم المجمع على تعاليمه، فقر الرأي إلى إلقاء القبض عليه، وفوض المجمع إلى بعض أعضائه أن يفحصوا مؤلفاته وألحوا عليه أن يقلع عنها، ولكنهم لم يستفيدوا شيئا، ووجدوا في مؤلفاته فصولا كثيرة تتضمن أضاليل، وقد خولوه [24]الحرية ليوضح أقواله في كل منها، وحرضوه على الخضوع لحكم المجمع، وعرضوا عليه صورة الرجوع عن ضلاله، فأبى أن يمضيها، وبقي مصرا على غيه، ولم يشأ المجمع أن يتوصل معه إلى المضايقة الأخيرة، بل حاول مرارا أن يرده عن عناده فحكموا أولا على كتبه بالتحريق رجاء أن يخيفوه بذلك، لكنه لبث مصرا على عناده، فحينئذ حطوه عن الدرجات المقدسة حطا احتفاليا، وأسلموه لحكومته فحكمت عليه بالحرق حيا، بمقتضى نواميس المملكة، ثم نال جيروم تلميذه وقرينه في العناد، هذا العقاب نفسه.
أما المجمع فلم يطلب قط هذا العقاب، بل ترك للقضاء المدني أن يعمل بموجب شرائع المملكة التي كانت تعطي للملك حقا في أن يعاقب من يفسدون النظام المدني بينهم بتعاليم سيئة تقلق راحة الجمهور.
هذا ما يقوله الكتاب المدافعون عن الكنيسة، ومهما يكن قولهم في براءتها من دم أولئك الذين حاولوا من رجال الدين إصلاحا، فمما لا شك فيه أنها لم تصغ إلى أقوالهم، بل عاقبتهم عليها بالحرمان، فسلبتهم المنصب الديني، ثم عاونت بذلك على قتلهم أفظع قتلة، إن لم تكن هي الفاعلة [25].
يفهم مما سبق - وهو أمر معروف في تاريخ أوربا في ذلك الوقت - أن النهضة ثم التقدم الحضاري المعاصر في الغرب قد قام على أنقاض الدين والنظام الكنسي، ولم ينبن عليه، ويتكأ إليه وينطلق منه، ومن ثم فلا سبيل إلى القول بأن المسيحية ما زالت حية، وأن تعاليمها ما زالت تواكب الحياة في تدفقها المستمر.
بالمقابل - وهذا أيضا من البدهيات، المفروغ منها - فإن الإسلام دين كامل عام شامل وسطى، دين مادة وروح، عبادات ومعاملات، أخلاق وممارسات، فكر وسلوك، علم وعمل، نقل وعقل. ومن ثم فتعاليمه على علاقة ماسة بواقع حياة البشر، بل إنه يمتلك منظومة تشريعية وتوجيهية لهذه الحياة الدنيا استعدادا للآخرة، يقول مراد هوفمان: "فبلفظ المسلم للقسم الأول من الشهادة (أشهد أن لا إله إلا الله) يؤكد اعترافه يقينا بوحدانية الله المطلقة.
الوحدانية أو التوحيد، كما يعرفه الإسلام، ينسحب على العلاقة بين الفكر والمادة، وبين الروح والجسد، والعلم والدين، والإنسان والطبيعة، وبين أعضاء الأمة الإسلامية التي خلقها الله
* فقال سبحانه وتعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92)) [الأنبياء،]
كذلك يعتقد المسلم أنه لا يمكنه أن يهتدي لولا هداية الله، إذا ترك للطبيعة وحدها يستهديها؛ لذا يؤمن بضرورة الوحي لمعرفة الهدى من الضلال، والحق في جانب المسلم استنادا إلى دراستنا لقوانين الطبيعة.
ثم إن المسلمين يؤمنون أن الله بين لعبيده حقا طريق الهدى، وذلك عن طريق أنبياء التوحيد المرسلين، مثل إبراهيم، وموسى، وعيسى، وختم الله هذه الرسالات بالقرآن
* (هدى للناس) []
والذي نزله على محمد خاتم النبيين والمرسلين، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في
* قوله سبحانه وتعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (40)) [الأحزاب؛]
لهذا يؤكد الشطر الثاني من الشهادة أن محمدا رسول الله، وهذا الشطر لازم كل اللزوم لإتمام الشهادة، أما ختم شيء أو أمر فمعناه عند الحديث عن الوحي أنه تم واكتمل.
هذا الكمال لم يكن متوافرا قبل محمد، بالرغم من إبلاغ موسى لرسالة الله، وبالرغم من إبلاغ عيسى كذلك، فبقيت الحاجة بعد عهدهما ماسة إلى الإكمال، وكانت هناك إمكانية - في عهد الرسول - لتحقيق ذلك الإكمال، أما الحاجة إلى الإكمال والتقويم فلزمت لخروج اليهود والنصارى على الطريق المستقيم في اعتقاد المسلمين، فاليهود زعموا أن بينهم وبين الله عهدا، فهم شعبه المختار، الذي لن تمسه النار إلا أياما معدودة، وأما النصارى فقد زعموا أن عيسى ابن الله المماثل له في طبيعته الإلهية.
وأما توافر الإمكانية، فذلك أن التطور البشري في القرن السابع، سمح بنسخ المعايير السابقة غير المناسبة نسخا نهائيا، لتحل محلها المعايير الشرعية التي نزل بها الوحي من عند الله.
في ضوء هذا نتبين المغزى العميق للآية الثالثة من سورة المائدة، فقد نزلت تلك الآية الكريمة في اليوم التاسع من ذي الحجة للعام العاشر الهجري الموافق عام 632 الميلادي، أي قبل وفاة الرسول بواحد، أو اثنين وثمانين يوما، والمؤذنة بانتهاء مهمة الرسول في أداء الأمانة، وإبلاغ الرسالة:
* حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 3]
أما اليوم، فتصف كلمة "مسلم" الإنسان الذي يلتمس سلامته بإسلامه أموره لله، ويجد هذه السلامة في هدى القرآن الذي يبين له حدود الله، والذي يحوي غير المنسوخ من الكتب السماوية السابقة على الإسلام. هكذا يلتزم المسلم الحق بالوصايا العشر الواردة في التوراة، وبالإيثار وحب الآخرين الذي ألح عليه وأوصى به الإنجيل في العهد الجديد، وهو بعد ذلك يؤمن بالأصول الست التي يؤمن بها اليهودي والمسيحي الملتزمان.
وذلك كما بينها القرآن لنا في سورتي: (البقرة: 285)، و(النساء: 136):
• وجود الله.
• وجود مخلوقات غير مرئية لنا (الملائكة).
• نزول كتب سماوية على بعض الأنبياء.
• إرسال الله رسله وأنبياءه إلى الأمم.
• القيامة والبعث يوم الحساب.
• القضاء والقدر.
بعد ذلك ينفرد الإسلام بأنماط سلوكية تتمثل في الفرائض والعبادات، وقواعد الإسلام الخمس إلى جانب الشهادة:
• شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
• إقامة الصلاة (الصلوات المفروضة).
• إيتاء الزكاة.
• صوم رمضان.
• حج البيت من استطاع إليه سبيلا.
هذه القواعد الخمس وحدها كافية لبيان أن الإسلام دين وعمل، عبادة وأفعال، حتى الصلاة نفسها، وهي صلة روحية مصحوبة بالعمل، أو الفعل المتجلي في المشاركة الجسدية لأداء هذا الفرض، الإسلام يلح على الإيمان والعمل معا،
* كما في سورة العصر المكية: (والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)) [العصر.]
في هذه السورة الكريمة تصوير موجز مصغر، واضح أشد الوضوح للمسلم البر التقي، فهو يعبد الله ويتوكل عليه، يعمل الصالحات ويوصي نفسه وغيره بها، دون تظاهر ورياء، أو من أو اتباع العنف، مدلا بما يفعل [26].
ويقول: "أما إن الإسلام دين ودولة، فحقيقة يثبتها الإسلام، وإن لم تكن هذه الصيغة قد وردت في القرآن حرفيا، لكن القرآن يصور المسلم مخلوقا ملتزما بمبادئ خلقية، دون تقييد، بحيث ينبغي له أن يكون مواطنا حرا، وينبغي عليه في الوقت نفسه أن يصدر في أقواله وأفعاله عن إيمان بالله، فيكون الله - عز وجل - محور حياته أولا وآخرا. بهذا يملأ الإسلام حياة الإنسان أو يحتويها بكافة نواحيها [27].
حول هذه الخصيصة "شمولية الإسلام ووسطيته" يقول د. عبد القادر محمود: "من هنا لم يذهب الإسلام مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر، فلم تنفصل فيه الدولة عن الشريعة؛ لأن الأمر كله لله، لله الأمر جميعا، ولله المشرق والمغرب، إنما كانت التفرقة بين ما لله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لا يقبلها المتدين، وهو قادر على تطويع قيصر بأمر الله، وهذا التطويع ولا شك هو الذي أوجبته العقيدة الشاملة، وكان له الفضل في صمود الأمم الإسلامية أمام سطوة الاستعمار والحركات الهدامة، كما كان له الفضل في إيمانها الراسخ بأن هذه الأباطيل والضلالات لا بد أنها زاهقة زائلة.
أمر آخر هو أن هذه العقيدة قد أبت على المسلم أن يطيع الحاكم بجزء منه ويطيع الله بغيره، كما أبت على المرأة المسلمة أن تعطي بدنها في الزواج لصاحبها، وتنأى عنه بروحها وسريرتها، وأبت على الإنسان جملة أن يستريح إلى الفصام الوجداني، ويحسبه حلا لمشكلة الحكم والطاعة، قابلا للدوام.
هذا الشأن، والشأن العظيم للعقيدة الإسلامية كما يصفها العقاد، بها وبمنهجها هو الذي جعل المسلم وحدة متكاملة، لا يتجلى واضحا قويا كما يتجلى من عمل الفرد في نشر العقيدة، ودليل ذلك إسلام عشرات الملايين في الصحاري الإفريقية وغيرها على يدي تاجر فرد، أو متصوف صاحب طريقة، أو مذهب أو اتجاه، منفرد في خلوة واعية، يحيا فيها أحيانا ليعود إلى رسالته مع الناس، والأحياء والحياة، غير معتصم بسلطان هيكل ولا بمراسم كهانة، وإنما هو مع الله متخلق بأخلاق الله الذي ليس كمثله شيء. ولا شك أن قدرة الفرد المسلم هنا تعمل، وتصنع ما لم تصنعه جموع التبشير والمبشرين من سدنة الاستعمار والاستشراق، وتصنع ما لم تصنعه سطوة الفتح والغلبة.
قوام الأمر كله هو شمول العقيدة، وشمول الدعوة، ولا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد، كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح، وما كان الشمول في العقيدة ليذهب فيها إفراط في ملكة من الملكات، وليس في الإسلام على الإطلاق أن الخطيئة موروثة في الإنسان قبل ولادته، ولا أنه يحتاج في التوبة عنها - دون جريرة [28] - إلى كفارة من غيره، فالإسلام عقيدة شمول؛ لأنها تشمل النفس الإنسانية بجملتها من عقل وروح وضمير وجسد مطمئن متوافق مع عقله وروحه وضميره.
أمر آخر خطير يمس عقيدة الإسلام، هو أن شمولها أفرد لها مزايا لم تعهد في دين آخر من الأديان الكتابية، فإن تاريخ التحول إلى هذه الأديان لم يسجل لنا قط تحولا اجتماعيا إليها من دين كتابي آخر بمحض الرضا والاقتناع، إذ كان المتحولون إلى المسيحية واليهودية قبلها في أول نشأتها أمما وثنية لا تدين بكتاب، ولم تعرف قبل ذلك عقيدة التوحيد السليم، أو الإله المحيط بكل شيء، ولم يحدث قط في أمة من الأمم ذات الحضارة العريقة، أنها تركت عقيدتها لتتحول إلى دين غير الإسلام، إنما تفرد الإسلام بهذه المزية دون سائر العقائد، فتحولت إليه الشعوب فيما بين النهرين، في أرض الهلال الخصيب، وفي مصر وفي فارس، وتحول إليه أناس من أهل الأندلس، وصقلية، كما تحول إليه أناس من أهل النوبة في السودان القديم، عاشوا مع المسيحية أكثر من قرنين كاملين.
ما الذي رغبهم وحبب إليهم التحول، والإنابة إلى دين الفطرة؟! إنه الشمول، الشمول الحي النابض بأعظم دفقات ونبضات الدنيا والآخرة جميعا على استواء واعتدال. إنه الشمول الذي يجمع بين النفس والضمير، ويعم بني الإنسان على تعدد الأقوام والأوطان، ويحقق المقصد الأكبر من العقيدة الدينية فيما امتازت به من عقائد الشرائع وعقائد الأخلاق وآداب الاجتماع [29].
لم تتوقف ميزات رسالة الإسلام وخصائصها على وقت نزولها فقط، بل صاحبتها في مسيرة التاريخ بحيوية مدهشة في تجاوبها مع واقع الحياة، ومتطلباتها وتقلباتها، وذلك أنها تضم نوعين من التعاليم، الأولى: ثوابت راسخة لا تتبدل بتبدل الزمان والمكان، وهي الأصول، وأخرى مرنة قابلة للتكيف مع متغيرات الزمان والمكان دون أن يمرق الإنسان أو يتفلت من إطار الأصول السابقة، وهذا هو ميدان الاجتهاد في الإسلام لإنزال الأحكام الشرعية على أرض الواقع، لضبط سلوك الإنسان، وظروف حياته المتغيرة، بضابط الشرع.
يقول د. محمد عمارة في هذا الشأن: "لا وحي بعد القرآن، ولا نبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، هذه هي شريعة الرسالة الإسلامية، ختام كل الرسالات، فقد احتفظت هذه الشريعة بالثبات في كل الأحكام، ولكنها أتاحت الفرصة لكل ما هو متغير في شئون الدنيا، بحيث فتحت باب الاجتهاد أمام العقل المؤمن.
لقد وقفت الشريعة الإسلامية عند التفصيل في الأحكام لما هو ثابت، والإجمال في الأحكام لما هو متغير، فاكتفت إزاء المتغيرات من شئون الدنيا بما يمثل فلسفة للتشريع والتقنين، وذلك حتى لا ينسخ التطور الأحكام الإلهية إن هي فصلت وقننت لهذه المتغيرات، وأيضا حتى لا تحدث قطيعة معرفية في فلسفة بين الفقه المتطور وبين ثوابت الشريعة وروحها المتميزة، فاحتفظت الشريعة الإلهية بالثبات الذي حقق لها التواصل في حضارة الأمة وفقه فقهائها عبر الزمان والمكان.
وواكب الفقه كل المستجدات مع التزامه بفلسفة التشريع الإسلامية وهو يقنن لكل جديد. فكان كالفروع النامية التي تظلل المساحات الجديدة في الواقع المتطور مع استمدادها روح التشريع الإسلامي من المنابع والجذور.
ولهذه الحقيقة من حقائق الوسطية الجامعة بين الثوابت والمتغيرات، بين الشريعة التي هي وضع إلهي ثابت وبين الفقه الذي هو اجتهاد الفقهاء في إطار الشريعة الثابتة - لهذه الحقيقة كان الاجتهاد فريضة كفائية من فرائض الإسلام، يجب على الأمة أن تخصص له من علمائها من ينهض بفريضته، وإلا وقع عليها الإثم بكاملها.
وغير آيات التدبر والتعقل والتفكر والنظر، ففي القرآن الكريم أيضا:
* وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 83]
* (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (122)) [التوبة،]
وحتى في عصر البعثة النبوية عندما كان البلاغ القرآني، والبيان النبوي - يجيبان عن علامات استفهام المجتمع المسلم، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسي قواعد الاجتهاد الإسلامي، ليس بمجرد السماح به، بل بالحث عليه والترغيب فيه. فهو القائل: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» [30].
ومن نعم الإسلام على العقل المسلم أنه لم يحظر عليه الاجتهاد في ميدان يستطيع الاجتهاد فيه، فباستثناء الغيب، وما لا يستطيع العقل أن يفقه كنهه، أو يستقل بإدراكه، فتح الإسلام أمام العقل المسلم آفاق الاجتهاد، ففي النصوص قطعية الثبوت والدلالة هناك اجتهاد في فهمها، وفي تقعيد وتقنين أحكامها، وفي تنزيل هذه الأحكام، وفي النصوص ظنية الدلالة هناك اجتهاد في دلالتها، وفي النصوص ظنية الثبوت هناك اجتهاد في ثبوتها، أما ما لا نص فيه، فأبواب الاجتهاد فيه مفتوحة لقياس أحكامه على غيره مما فيه أحكام نصية، وبينهما علاقات؛ ولأن الاجتهاد الإسلامي فريضة إسلامية، تحولت في الحضارة الإسلامية إلى علم من علوم الإسلام، فإن قواعدها وضوابطها وشروطها قد صانتها، ويجب أن تصونها دائما وأبدا، عن الأدعياء وعن الأعداء.
فهذا العلم ككل العلوم الشرعية مؤسس على الكتاب والسنة، والغاية منه تحقيق إسلامية المعرفة في كل ميادين الاجتهاد [31].