الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
فمن حرم الأمانة حرم كمال الإيمان, ومن تلبس بالخيانة فبئس والله البطانة؛ وتلك علامة النفاق.. ومن كمل إيمانه كملت أمانته، وأداها على أتم الوجوه، إذا ضاعت الأمانة سفكت الدماء وانتهكت الأعراض، وقامت الثورات والفتن، وأكلت أموال الناس بالباطل وتفشت الخيانة واستمرأ الناس الفساد! فالمتضرر من ذلك البلاد بأكملها ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، ولي الصالحين، وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله، سيّد الأمناء أجمعين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
أمّا بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن المحافظة على حقوق الله وحقوق العباد تتطلب خُلقاً لا يتغير بتغيَّر الأيام وذلك هو جوهر الأمانة ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة يُلقَّبُ بين قومه بالصادق الأمين، وشُوهدت مخايلُ الأمانة والعفة على موسى -عليه السلام- حين سقى للبنتين فقالت إحداهما: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) [القصص: 26].
والأمانة في نظر الشرع واسعة الدلالة، لمعانٍ كثيرة فهي بإيجاز شعور المرء بمسؤوليته في كلِّ ما يُوكل إليه.
أَرعى الأَمانَةَ لا أَخونُ أَمانَتي | إنَّ الخَؤونَ عَلى الطَريقِ الأَنكَبِ |
ونحن نحتاج للتذكير بالأمانة كثيراً؛ لأن فقدها سببٌ لوقوع المصائب وتعاظم الأضرار التي تتكرر هنا وهناك فحين تفقد الأمانة في أمة فإنها تعبث بِهَا المحسوبيَاتُ ويطال الفساد مشاريعها؛ لأنها لا تَعي حَاضِرَهَا وَلا تُعَالِجُ مُشْكِلاتِهَا، والرجوع إلى مبدأ الأَمَانَةِ وإحيائه مهمٌ لتلافي هذه المشكلات التي بليت بها أمتنا؛ لأَنَهَا حِينَمَا أُضيعت ضَاعَ النَاسُ مَعَهَا وغرقوا في الخسائر التي طالت أرواحهم ودنياهم، وَخِيَانَةُ الأَمَانَةِ سَبَبٌ لِكُلِّ فَسَادٍ وَبَليةٍ، وَمَا تُؤُتَى البِلادُ وَتَخربُ إِلا بِخيَانَةِ الأَمَانة.
الأَمَانةُ -عِبَادَ اَللهِ- أُمرْنَا بِحِفظِهَا وَرِعَايَتِهَا وَالقَيَامِ بِهَا وَأَدَائِهَا إِلى أَصحَابِهَا وَهي مِن صِفَاتِ المؤُمنينَ (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون: 8].
أَخبَرَ -صلى الله عليه وسلم- أَن أَدَاءَهَا وَالقِيَامُ بِهَا إِيمان، وَأَن تَضَييعَهَا نِفَاق وَعِصيان فقَالَ: "لا إِيمانَ لِمَن لَا أَمَانَةَ لَه".
فَمَن حُرِمَ الأَمَانَةَ حُرِمَ كَمَالَ الإِيمانِ، وَمن تَلَبَّسَ بِالخيانَة فبئسَ -واللهِ- البِطَانة؛ وتلك علامة النفاق.
وَمَن كَمُلَ إِيمانُهُ كَمُلَت أَمانته، وأَدَّاهَا عَلى أَتم الوُجوهِ، إِذَا ضَاعتَ الأَمانة سُفِكت الدِمَاءِ وانَتُهِكَت الأَعراضُ، وَقَامت الثَوَرات والفتن، وأُكلت أَموال النَاس بِالبَاطِل وَتَفَشَت الخيَانة واستمرأ الناس الفساد! فالمتضرر من ذلك البلاد بأكملها.
وكما أن أداء الموظف النزيه لعمله يكون صدقات جاريةً له بحياته ومماته بشكر الناس له؛ فإن فساد العمل والمشاريع تستمر آثامها على صاحبها في حياته ومماته بدعاء الناس عليه؛ لتضررهم منها عياذاً بالله.
وَأَعظَمُ الخيانة إِذَا كَانت خِيَانَةً للهِ وَالرسُولِ وللمسلمين وللأمة والوطن ومسؤولياته ومشاريعه، وَهَكَذا تَضيعِ الأَمَانة مِن قِبل مَن وُكِلت إِليهم المسؤولياتِ، فَإِذَا بهم خَونةٌ للأَمَانةِ وَغَششةٌ للراعي وَالرَعيةِ، ولذلك فأول ما تراه عند تولية ولاة أمرنا مقاليد الأمور أنهم يذكّرون الجميع بهذا المبدأ المهم؛ لأنهم علموا أن الأمانة تُنَظِّمُ شُؤُونَ الحياةِ كُلِّهَا؛ مِن عَقيدةٍ وعِبادَةٍ وَدَولَةٍ وأَدَبٍ وَمُعَامَلَةٍ.
والأَمَانَةُ بِهَذا المعنى سِرُّ سَعَادَة الأُمَمِ وَيَومَ كَانت أُمتُنَا أَصدقِ الشُعُوبِ وَالأُمَمِ فِي حَملِ الأَمَانة وَالوَفَاءِ أصبحت خَيرَ أُمَةٍ أُخرجت للنَاس ونشرت قيم الصدق والعدل التي لا زال الغرب يشهد بهذا التاريخ ويتحدث عنه.
اِستدانَ اِبنُ عُمرِ بِن الخَطَابِ -رضي الله عنه- مِن أَبِي مُوسى الأشعريِّ حِينَ كَانَ وَالياً عَلى الكُوفَةِ أَموالاً مِن خَزينةِ الدَولةِ؛ لِيُتاجر بها على أن يرَّدها بعد ذلك كاملةً غيرَ منقوصة، واتَجر وَلدُ عُمرٍ فَربح، فَبلغَ ذلكَ عُمر فَقالَ لهُ: "إِنكَ حِينَ اشتريتَ أَنقصَ لكَ البَائِعونَ فِي الثمنِ، ولما بِعتَ زادَ لكَ المشترونَ في الثمنِ لأنكَ وَلد أَمير المؤمنين، فَلا جَرمَ أَن كانَ للمسلمينَ نَصيبٌ فِيما رَبحت"، فَقَاسمه نِصفَ الرِبحِ أن يرده إلى بيت المال واستردَ مِنهُ القَرضَ وَعَنفه عَلى مَا فَعلَ، وَعَاقَبَ أَبا مُوسى لِتَصرُفِهِ رَضيَ اللهُ عنهم أجمعين.
وهذهِ أَمانةُ الحَاكِمِ الذي يَسهرُ عَلى مَالِ الأُمةِ؛ فَلا يُحَابي بِهَا صَديقاً ولا قَريباً ولا حِزباً.
الأمانةُ هيَ شعورُ المرءِ بِمسؤُوليَتِهِ فِي كُلِّ أَمرٍ يُوكلُ إِليهِ، وبعضهم يقصر معناها بحفظ الودائع والأموال، وحقيقتُها في دين الله أضخم وأجل؛ فهي فريضة يتواصى المسلمون برعايتها ويستعينون بالله على حفظها، عند السفر "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك"، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ما خطبنا -صلى الله عليه وسلم- إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (رواه أحمد)، بل كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من ضياعها "اللهم إني أعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة".
من معاني الأمانة وضع الشيء في المكان الجدير به واللائق له، والمنصب لصاحبهِ الحقيقِ بِهِ، الكُفء له، والمشروع الذي يُسلم لغير المؤهل لتنفيذه مجاملةً ليفسد في تنفيذه خيانة للأمة؛ فَلا اعتبارَ للمُجَامَلاتِ أوَ المحسوبياتِ أو القرابَاتِ.
يقول أبي ذرٍ -رضي الله عنه- قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضربَ يَده على منكبي، ثم قَالَ: "يا أَبا ذَرٍ إِنكَ ضَعيفٌ، وَإِنَهَا أَمَانة، وَإِنَهَا يَومَ القَيامِةِ خِزيٌ ونَدامةٌ، إِلا مَن أَخذَهَا بِحَقِهَا وَأَدى الذي عَليهِ فِيهَا" (رواه مسلم).
رغم ورعِ وعبادة أبي ذرٍ -رضي الله عنه- وصحبته إلا أن العبادة لَيست لازِمَةً لصلاحِ تولّي الإنسان مصباً فقد يَكونُ الرجلُ حَسنَ السيرةِ، كثير العبادة لكنهُ لا ينفع للعمل انظر ليوسف الصَديق -عليه السلام- حين طلب المنصب، لم يذكر نبوته وتقواهُ، ولم يذكر نسبه الذي يرجع فيه إلى إبراهيم -عليه السلام- بَلَ طَلبه بإدارته وأمانته (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55].
فالأَمَانة تَعني أَن نَختَار للأَعمَالِ أَحسنَ النَاسِ قِيَامًا بِهَا فِإذَا مِلنا عنه إِلى غَيرهِ لِهوىً أَو لرَشوةٍ أَو لقرابة فقد ارتكبنا بتنحية القادر وتولية العاجز خيانةً فَادِحَةً، والأمةُ التي لا أَمَانَةَ فِيهَا هِي َمن تَعبثُ فِيهَا الشفَاعَاتُ بِالمصَالِحِ وَتَطيشُ بأَقدَارِ الرِجَالِ الأَكفَاءِ لتُهمَلهم، وتُقدِّم من دونَهم عليهم، وَقد يَتَسَبَبُ ذَلكَ بِالفِتَنِ والفساد الذي إذا وقع عم الضرر به.
الأمانةُ -عباد الله- حِرصُ المرءِ على أَداءِ العَملِ المنوطِ بِهِ بإحسان؛ فيَسهرُ على حقوقِ النَاسِ التي وُضِعَت بَينَ يَديهِ بإنجاز عمله وعدم التخلف عنه؛ أما استِهَانةُ الفردِ بِمَا كُلِّفَ به وتعطيل المعاملات فهو من الفَسَادِ.
وَخِيَانَةُ الواجبات وتقديمُ القراباتِ والمحسوبياتِ تتفاوت إثماً وأشدّها شنَاعَةً مَا أَصابَ الدينَ وَجمهورَ المسلمينَ وَتَعَرضت البِلادُ لأَذاه وَمَن وَلي مِن أَمرِ المسلمينَ شَيئَاً فَهو أَمينٌ عَليهِ صغرت تلك المسؤولية أم كبرت. هو أمين عليه يَجِبُ أَن يُؤَّدي الأَمانةَ فيهِ؛ فَالقَاضِي أَمينٌ، والأميرُ أمينٌ، وَأَئِمَةُ المسَاجِدِ وَخُطَبَاؤُهَا أُمَنَاء فِي أَقوَالِهِم وأفعَالِهم في الحكمة والعدل.. يَجِبُ على هؤلاء جميعاً أَن يَتَصَرَّفوا في أعمالهم بِالتي هِيَ أَحسن حَسبمَا يَستَطِيعُونَ، وَأوَليَاءُ اليَتَامَى وَنَاظِروا الأَوقَافِ كُلُّ هَؤلاءِ أُمنَاء عليها. قال عليه الصلاة والسلام: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِواء يُرفعُ لَهُ بِقدرِ غَدرتِهِ يوم القيامة، أَلا وَلا غَادِرَ أَعظم مِن أَمير عامة" (رواه البخاري)، أي تولى أمور الناس ومشاريعهم فنام عنها حتى أضاعها.
مِن خِيَانَةِ الأَماَنةِ أَن تُستغلَّ المَناصِبُ لِجَرِّ مَنفَعَةٍ؛ فَإِنَ التَشَّبُعَ مِن المالِ العَامِ جَريمةٌ قاَل -صلى الله عليه وسلم-: "من استعملناهُ عَلى عَملٍ فَرزقنَاهُ رِزقًا فَمَا أَخذَ بعدَ ذَلك فهو غلول" (رواه أبو داود)، بينما اليوم ترى البعض وهو موظف يأخذ رشاوى؛ لترسية المشاريع ويسميها عمولات مستحقة له!!
والإسلام شددّ على ضرورة التعفف عن استغلال المنصب، ورفض المكاسب المشبوهة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوق كان غلولاً يأتي به يوم القيامة" (رواه مسلم).
واستعمل -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزد على الصدقة فلما قدم بالصدقة إلى المدينة قال: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ! فقام -صلى الله عليه وسلم- خطيباً ثم قال: "وأما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليه؛ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً؟ والله لا يأخذ أحدٌ منكم شيءً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة" ثم رفع عليه الصلاة والسلام يديه حتى رُئي بياض أبطيه يقول: "اللهم هل بلغت" (رواه مسلم).
الله أكبر إنها الأمانة والمسؤولية في أسمى معانيها التي ينبغي تحقيقها وتربية نفوسنا ومن حولنا عليها ليست خاصةً بالدين بل تشمل الدنيا والمعاملة مع الناس.
أَمَا من يَلتزمُ حُدودَ اللهِ بوَظيفتهِ، وَيَقومُ بِواجبه، فهو عند الله من مجاهد لنصرة دينه قال صلى الله عليه وسلم: "العامل إذا اسْتُعْمِل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته" (رواه الطبراني).
ومن الأمانةِ حمايةُ الدينِ وَتَعاليمهِ ونبذُ مبادئ التغريبِ وسوء الأخلاق التي تُفسِدُ الأُمةَ وَتُسبِّبُ لها العقوبات الماحقة.
إن معاني الأمانة إخوتي نحتاج لإحيائها واستحضارها بمجتمعاتنا ومسؤولياتنا وأن ندرب النشء وأولادنا على تحمل مسؤوليتها وإدراك أهميتها بإسناد بعض الأمور إليهم ليعتادوا على ممارستها نسأل الله الإعانة على أداء الأمانة والقيام بها.
يقول حذيفة -رضي الله عنه-: "حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم حدّثنا عليه الصلاة السلام عن رفع الأمانة وكيف ترفع في آخر الزمان فقال: "ينامُ الرجلُ النومةَ فتقبضُ الأمانةُ من قلبه فيظلُّ أثرها مثل الوكت، ثم ينامُ الرجلُ النومةَ فتقبضُ الأمانةُ من قلبه فيظلُّ أثرُها مثل أثرَ المجْل -أي أقلَّ- فيصبحُ الناسُ يتبايعون لا يكادُ أحدٌ يؤدِّي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وحتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله!وما في قلبه مثقال حبةٍ من خردل من إيمان" (متفق عليه).
هذه أهمية الأمانة التي حملها الإنسان؛ فلنهتم باختيار الأمناء على الدين والأخلاق والأمة ومشاريعها ولنتجنب أولئك الذين يتخذون من صيغِ المدائحِ الفارغةِ والمجاملاتِ المذمومةِ والمزاعمِ المكذوبةِ حِيلاً؛ لإثراءِ جيوبهم ومَلأ خَزائِنهم وغشٍ للمسئولين على حسابِ حَياةِ الناسِ وَصلاحِ البُلدانِ وقلة الإنجاز والجودة في أعمالهم فينتج من ذلك فساد وإفساد عظيمين وهذا إضاعةٌ للأمانة.
جاء أعرابيٌّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: متى الساعة؟ فمضى عليه الصلاة والسلام يحدِّثُ فقال بعضُ القوم: سمعَ ما قال، فكره ما قال، وقال بعضُهم: بل لم يسمعْ، حتى إذا قضى حديثه، قال: "أين السائلُ عن الساعة؟" قال: ها أنا يا رسول الله قال: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وُسِدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة" (رواه البخاري).
فالمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد تتطلب خُلُقا لا يتغير بتغير الأيام، ونظاماً يعاقب المخطئ ولا يحابي وذلك هو جوهر الأمانة.. وما يُحافَظُ عليه ويجعله شعاراً لمن يريده وهذا ما يؤكد عليه ولاة أمرنا دوماً.
عباد الله: من معاني الأمانة أن نحسن في نعم الله التي بين أيدينا من أولادٍ وأموال انظروا حين قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، جاء بعدها (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 27- 28].
ومن معانيها أن تُحفظ حقوق المجالس والبيوت فلا تُفشى أسرارها وتسرد أخبارها؛ فكم من حبالٍ للقرابات تقطعت ومصالح تعطلت للتهاون بأمانة المجلس قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حدَّث الرجل بالحديث ثم التفت عنه صاحبه فهي أمانة" (رواه أبو داود).
الأمانة يتصف بها البر والفاجر وهي تؤدى للمؤمن والكافر ولو اعتدى عليك كما فعل -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة حين استخلف علياً -رضي الله عنه- لإرجاع الأمانات لأهل مكة وهم كانوا ينوون قتله.
قال ميمون بن مهران: "ثلاثة يؤدين إلى البرّ والفاجر: الأمانة والعهد وصلة الرحم" حتى القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ"، أَوْ قَالَ: " يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلا الأَمَانَةَ، يُؤْتَى بِصَاحِبِ الأَمَانَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: أَنَّى يَا رَبِّ وَقَدَ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا، فَيُقَالُ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيُذْهَبُ بِهِ إِلَيْهَا فَيَهْوِي فِيهَا حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى قَعْرِهَا، فَيَجِدُهَا هُنَاكَ كَهَيْئَتِهَا فَيَحْمِلُهَا، فَيَضَعُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، فَيَصْعَدُ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ ذَلَّتْ فَهَوَتْ، وَهَوَى فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الآبِدِينَ، قَالَ: وَالأَمَانَةُ فِي الصَّلاةِ، وَالأَمَانَةُ فِي الصَّوْمِ، وَالأَمَانَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ "، قَالَ: فَلَقِيتُ الْبَرَاءَ، فَقُلْتُ: أَلا تَسْمَعُ إِلَى مَا يَقُولُ أَخُوكَ عَبْدُ اللَّهِ ؟ قَالَ: صَدَقَ. قَالَ شَرِيكٌ: وَثنا عَيَّاشٌ الْعَامِرِيُّ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِنَحْو مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الأَمَانَةَ فِي الصَّلاةِ، وَالأَمَانَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ. (أخرجه الطبراني).
من معاني الأمانة: ضمان العدل وحقوق الناس ومصالحهم ومعاشهم ومعادهم والحذرَ من العبث بمصالحهم وهدم منجزات الوطن، وإثارة الفتن بالغلو والإرجاف والتعدِّي على الأراضي والحقوق وانتهاك النظام كائناً من كان فهذه خيانةٌ للأمانة الملقاة تستلزمُ المحاسبةَ والتشهيرَ بمن خانَها للعبرة والعظة.
الأمانة إخوتي فضيلةٌ ضخمةٌ ثقيلةٌ تحملها الإنسان من جهله (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب: 72].
اللهم أصلح قلوبنا وزكّ أعمالنا وارزقَنا الصدقَ والأمانةَ وطهرنا من الكذبِ والخيانةِ أقولُ قولي هذا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ وبعد:
عباد الله: إن معايير الأمانة في هذا الزمن قلّت وتقلّبت وتغيّرت حتى أن كثيراً من الناس يستغربها إذا رآها تُطبق، فصار الاعتداء على المال العام والنيل منه ذكاءً وبطولة، وأصبحت الرشوة سائدة وتغيّر مسماها إلى عمولة، وأصبح الخروج أثناء الدوام أو الانشغال عن معاملات الناس وممارسة عدم الإنجاز ينفذ بسهولة، وأصبح الكذب وأكل مال الناس وبعض سوء الأخلاق ومخالفة النظام رجولة، ثم ندّعي بعد كل تلك الممارسات وقلّة المسؤوليات أن الأمانة موجودة.
كنا نستغرب الرشوة ونتهم بها مجتمعاتٍ أخرى غيرنا ويخافها الكثير منا فأصبحت اليوم أمراً عادياً وممارساً لدى البعض -عياذاً بالله- رغم لعن الله للراشي والمرتشي.
انظروا إلى الغش التجاري الذي يمارس اليوم صغر أم كبر حتى على مستوى الشركات يمارس هذا الغش عبر الكذب بالإعلانات والدعاية وهو خيانة للأمانة وإضاعة لها.
فلنتعاون جميعاً لتحقيق مبدأ الأمانة والقيام به في مجتمعنا وبين أولادنا وفي بيوتنا وأوطاننا.
نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا ممن يحكم بالعدل والأمانة، وأن ينجينا من حقوق العباد والخيانة للأمانة، وأن نكون أمناء على الحق والدين إنه سميع مجيب.