الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | محمد بو سنه |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الذكر هو المنزلة الكبرى التّي يتزوّد منها العارفون، وفيها يُتاجرون، وإليها دائماً يتردّدون، وهو قوت قلوبهم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً، وهو عمارة ديارهم التي إذا تعطّلت عنه صارت بوراً، وهو سِلاحهم الذي يُقاتلون به قُطّاع الطريق، وهو دواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، وهو...
الخطبة الأولى:
اعلم -أيها العبد- أن حياة قلبك أولى بالاهتمام من حياة جسدك، ذلك لأن حياة القلب تؤهّلك، لئن تعيش حياة طيبة، طاهرة في الدنيا، وسعادة أبديّة في الآخرة، بينما حياة الجسد حياة مؤقتة، سُرعان ما تزول وتنقضي، ولا سبيل لعلاج حياة القلب وزيادة الإيمان فيه إلا بالطاعات، فهي كلّها لازمة لحياة القلب كما يلزم الطعام والشراب لحياة الجسد.
ومن أعظم ما يحتاجه قلب العبد من الأغذية النافعة: ذكر الله -عزّ وجل-، فالذكر هو المنزلة الكبرى التّي يتزوّد منها العارفون، وفيها يُتاجرون، وإليها دائماً يتردّدون، وهو قوت قلوبهم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً، وهو عمارة ديارهم التي إذا تعطّلت عنه صارت بوراً، وهو سِلاحهم الذي يُقاتلون به قُطّاع الطريق، وهو دواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، وهو السبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علاّم الغيوب.
فبذكر الله تُدفع الآفات، وتُكشف الكُرُبات، وتهون المصيبات.
كان السلف إذا أظَلّهم البلاء، فإلى ذكر الله ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مَفزعُهم، فهو رياض جنّتهم التي فيها يتقلّبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتَّجِرون.
الذكر يَجعل القلب الحزين ضاحكاً مسروراً، ويوصل الذاكر إلى المذكور -أي إلى ربّه-، والذكر عبودية القلب واللسان، وهي عبادة غير مؤقتة، بل يُؤمر العبد بذكر مَعبوده ومحبوبه في كل حال قياماً وقعوداً وعلى جنبه.
ذكر الله -عزّ وجل- هو جلاء القلوب وصفاؤها ودواؤها إذا مرِضت، وكلّما ازداد الذاكر في ذكره ازداد محبة إلى لقاء ربه.
وإذا واطئ في ذكره قلبه للسانه نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عِوَضاً من كل شيء.
به يزول الوقر عن الأسماع، والبَكم عن الألسنة، وبه تنقشع الظلمة عن الأبصار، فالذكر هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يُغلقه العبد بغفلته، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "تَفقّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذِّكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مُغلق".
وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- للذكر فوائد كثيرة، أقتَصر على بعضٍ منها، فمن فوائده: أنه يطرد الشيطان ويَقمعه ويَكسره، ويُرضي الرحمن -عزّ وجل-، ويُزيل الغمّ والحُزن، ويجلب للقلب الفرَح والسرور والبَسْط.
ومن فوائده: أنّه يُقوّي القلب والبدن، ويُنوِّر الوجه والقلب، ويَجلِب الرزق.
ومنها: أنه يكسو الذاكر الحلاوة والمهابة، ويورثه محبّة الله.
ومنها: أنه يُكسِب العبد مراقبة ربّه، فيدخل في باب الإحسان، فيُصبح يعبد الله كأنّه يراه.
ومن فوائده: أنّه سبب ذكر الله -عزّ وجل- لعبده الذاكر، كما قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152].
وفي الحديث القُدسي الذي أخرجه البخاري ومسلم: "فإن ذكرني في نفسه ذكَرتُه في نفسي، وإن ذكرني في مَلأ ذكرته في ملأ خير منهم".
ومنها أيضاً: أنه يورث حياة للقلب، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "الذكر للقلب كالماء للسمك، فكيف يكون حال السّمك إذا فارق الماء".
ومنها أيضاً: أنّه يورث جلاء القلب من صَدَئه، إذ كل شيء له صدأ، وصدأ القلب: الغفلة والهوى، وجلاؤه وصفاؤه: الذكر والتوبة والاستغفار.
ومنها: أن الذكر يَحُطّ الخطايا ويُذهِبُها، فإنّه من أعظم الحسَنات، والله -تعالى- يقول: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114].
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال في يوم وليلة سبحان الله وبحمده، مائة مرّة، حُطّت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبَد البحر".
ولا شكّ أن حضور حِلَق الذكر يؤدي إلى زيادة الإيمان، وذلك لعدة أسباب منها: ما يحصل فيها من ذكر الله، ونزول الرحمة والسّكينة، وحَفّ الملائكة للذاكرين، كما جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويَتَدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشِيَتهم الرحمة، وحَفّتهم الملائكة، وذَكَرهم الله فيمن عنده".
ومما يدلّكم على أن مجالس الذكر تزيد الإيمان، ما أخرجه مُسلم في صحيحه، عن حنظلة الأسيدي قال: لقِيَني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله يُذكِّرُنا بالنار والجنّة، حتى كأننا نراها، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عُدنا إلى أزواجنا وأولادنا ومعاشنا فنسينا كثيراً.
قال أبو بكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخَلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: نافَق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما ذاك؟" قلت: يا رسول الله نكون عندك تُذكِّرُنا بالنار والجنة حتى كأنّا نراهما بأعيننا، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده إنكم لو تَدومون على ما تكونون عندي وفي الذّكر لصافحتكم الملائكة على فرُشِكم وفي طُرُقِكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة".
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يحرصون على الجلوس للذكر ويسمّونه إيماناً، قال معاذ -رضي الله عنه- لرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة".
ومن فوائد الذكر: أنه سبب لاشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفُحش، فمن عوَّد لسانه ذكر الله حفِظه عن الباطل واللغو، ومن يَبِس لسانه عن ذكر الله -تعالى- ترطّب بكل باطل ولغو وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الخطبة الثانية:
ومن فوائد ذكر الله -عزّ وجل-: أنه يوجب الضمان والأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في دُنياه وأُخراه، فإنّ من نَسِيَ الله -سبحانه وتعالى- نسي نفسه ومصالحها كما قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19].
وإذا نسي العبد نفسه أعرض عن مصالحها ونسيَها، واشتغل عنها، فهَلَكت وفسَدت كمن له زرع أو بستان، فلم يُصلِحه، ولم يقم عليه وأهمله، ونسيَه واشتغل عنه بغيره، فإنه يَفسُد ولا بد.
ومن فوائد الذكر أيضاً: أن جميع الأعمال إنما شُرِعت لإقامة ذكر الله -عزّ وجل-، ومن أعظمها: الصلاة، قال جلّ وعلا: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طـه: 14] أي لإقامة ذكري.
وقال عزّ وجل: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : 45].
أي أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وما فيها من ذكر الله أعظم من نَهيِها عن الفحشاء والمنكر.
ومن فوائد الذكر: أن المُداومة عليه ينوب عن كثير من الطاعات ويقوم مقامها، كما جاء ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن فُقراء المهاجرين أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور -أي الأغنياء- بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، يُصلُّون كما نُصلّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم يحجّون بها ويعتمرون ويجاهدون، فقال عليه الصلاة والسلام: "ألا أعلِّمُكم شيئاً تُدركون به من سَبَقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا أحَدَ يكون أفضل منكم إلا من صَنَع مثل ما صنعتم؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تُسبّحون وتحمدون وتُكبّرون خلف كلّ صلاة" [رواه البخاري].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لئن أسبِّح الله -تعالى- تسبيحات أحبّ إليّ من أن أنفِق عَددهنّ دنانير في سبيل الله -عزّ وجل-".
ومن فوائد ذكر الله أيضاً: أنّه يُعطي الذاكر قوة في قلبه وبدنه، فقد أخرج البخاري، عن فاطمة -رضي الله عنها-: أنها شَكَت ما تلقى في يدها من الرحى أي مِما تطْحنن فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- تسأله خادماً، فلم تجِدْه، فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته، قال علي -رضي الله عنه-: فجاءنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أخذنا مضاجعنا، أي أرادا أن يناما، فذهبت فاطمة لتقوم، فقال لها: "مكانك" فجلس بيننا، ثم قال: "ألا أدلّكُما على ما هو خيرٌ لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فِراشكما أو أخذتما مضاجعكما، فكبِّرا الله أربعاً وثلاثين، وسبِّحاه ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، فهذا خيرٌ لكما من خادم".
ومن فوائد الذكر: أن كثرته أمان من النفاق فقد وصَف الله المنافقين بأنّهم قليلو الذكر لله -عزّ وجل، فقال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 142].
فمَن أكثر من ذكر الله -عزّ وجل- برئ من النفاق، ولهذا ختَم الله -تعالى- سورة المنافقين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون: 9].
ومن فوائده أيضاً: ما يَحصُل للذاكر من لذة لا يُشبِهُها شيء، فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة من الذكر والنعيم الذي يُحسّ به الذاكر في قلبه لكفى به، ولهذا سُمِّيت مجالس الذكر: "رياض الجنّة".
قال مالك بن دينار: "ما تلذّذ المُتَلذّذون بمثل ذكر الله -عزّ وجل-".
ومن فوائد الذكر: أن الله -عزّ وجل- يقبل الدعاء الذي يُقَدّم صاحبه بين يديه ذكر الله، إذِ الذكر أفضل من الدعاء؛ لأن الذكر ثناء على الله -عزّ وجل-، والدعاء سؤال العبد حاجته، فالدعاء الذي تَقَدَّمه الذكر أفضلُ وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المُجَرَّد عن الذكر.
فاتقوا الله -أيها الناس- وأديموا ذكر ربّكم بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم وفي كل أحوالكم، فأمّا ذكرَكم ربَّكم بقلوبكم، فإنّ معناه: أن يكون القلب متعلّقاً بالله مُعظِّماً له دائماً في قلبه مُستحضِراً نِعَمه التي لا تُحصى، وأما ذكرَكم ربكم بألسِنتكم فهو النُّطق بكلّ ما يُقرِّب إلى الله من تهليل وتكبير، وتحميد وتسبيح، وقراءة القرآن، وقراءة العلوم الشرعية، ونُصح العباد للقيام بأوامر الله.
وأما ذكرَكم ربّكم بجوارحِكم، فهو كل فِعل يُقرِّب إلى الله -عزّ وجل- من طهارة وصلاة وزكاة، وصوم وحج، وبرِ الوالدين، وصِلَة الأرحام.
فلازموا -عباد الله- ذكر ربكم في جميع أوقاتكم وأحوالكم، فإنّ الله مع الذاكرين، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: "أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكَرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خير منهم".
فاللهم اجعلنا من عبادك الذاكرين.
وسُبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفِرك وأتوب إليك.
الخطبة الثانية:
لم ترد.