البحث

عبارات مقترحة:

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

العظيم

كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

بنوك الحليب

فإن العلماء المعاصرين قد بحثوا حكم إنشاء بنوك الحليب، وحكم ما يترتب على إنشائها من حيث التعامل معها والانتفاع بها، وكانت آراؤهم في ذلك على وفق ما يأتي: القول الأول: الجواز. وهو قول أحمد هريدي، ود. يوسف القرضاوي، وغيرهم. القول الثاني: المنع. وهو قول ابن عثيمين، ومختار السلامي، ود. بكر أبو زيد، وغيرهم، وبه صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي. القول الثالث: يجوز بشرطين: الأول: مسيس الحاجة. الثاني: عدم الإخلال بالاحتياطات والضوابط؛ ككتابة اسم المتبرعة على كل قارورة، وتقييد ذلك في سجل. وهو رأي د. عمر الأشقر، وغيره. القول الرابع: التوقف. وهذا القيل إن لم يكن قولًا في حقيقته؛ إلا أنه قال به عبد العزيز عيسى، وعبد الحليم جندي. - الأدلة: أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول بما يأتي: 1 - قول الحق جل ذكره: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخْوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [ النساء: 23]؛ فحيث عني بالأمومة هنا محض إلقام الثدي وامتصاصه، لا مجرد الاغتذاء به بأي وسيلة؛ فلا أثر لبنوك الحليب في نشر الحرمة. ونوقش بما يأتي: أ- عدم التسليم؛ إذ العبرة بغذاء الجسم من اللبن في سن المجاعة الذي ينشز فيه العظم ويشد اللحم.. 2 - إن إنشاء بنوك الحليب لا يوقع في المحذور الشرعي إذا كان الرضاع منها لا يتحقق فيه نشر الحرمة؛ لعدم المص من الثدي، إلى جانب اختلاطها بغيرها، وعدم العلم بالمرضع، وعليه؛ فلا بأس من إنشائها. ونوقش بما يأتي: أ- إنه لا تأثير لخلط الحليب على ثبوت التحريم به. ب - إن أكثر الفقهاء على حصول لبن المرأة في جوف الصغير رضاعًا. كما يمكن أن يناقش هذا الدليل بما يأتي: ج - إن فيه مصادرة وهروبًا عن محل النزاع. 3 - إن مبنى الشريعة على جلب المصالح ودفع المضار، وفي إقامة هذه البنوك تحقيقٌ لمصالح الأطفال ممن يعوز أمهاتهن الحليب، ودفع مضار الحليب الصناعي؛ كالإصابة بفقر الدم، وأمراض الجهاز التنفسي، والإسهال، وأمراض المسالك البولية، وعسر الهضم، ونقص المناعة، والتخمة، والربو، والأمراض الجلدية، والسكري، والأضرار والأمراض الأخرى الناشئة من المعادن الموجودة بكميات مضاعفة؛ مثل: الكالسيوم، والفسفور، والصوديوم، والماغنسيوم، والبوتاسيوم؛ إلى جانب الآثار النفسية والخُلُقية الأخرى، وعلى هذا المنوال كا تقرير طائفة من القواعد الشرعية؛ مثل: المشقة تجلب التيسير، الضرورات تبيح المحظورات، الحاجة تنزل منزلة الضرورة، الحرج مرفوع. ونوقش بما يأتي: أ- إنه معارض بقاعدتي: الضرر لا يزال بالضرر، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح. ب - إنه لا ضرورة ولا مشقة ولا حرج يدعو لإنشاء بنوك الحليب واسترضاع الأطفال منها؛ إذ الألبان الصناعية اليوم تقو مقام حليب الأم في تغذية الطفل، وهي آمَن من الحليب المجموع في البنوك. 4 - إذا جاز الرضاع من النساء الأخريات غير الأم، فليكن جائزًا إقامةُ البنوك التي غاية ما فيها الرضاع من غير الأم. ونوقش بما يأتي: أ- عدم التسليم؛ لأن المحذورات المترتبة على الرضاع من البنوك غير موجودة في الرضاع من النساء المرضعات. 5 - قول النبي فيما رواه غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم: "يسروا ولا تعسروا" متفق عليه، وهذه البنوك ضرب من التيسير على المسلمين. 6 - إن المعاصرين اتفقوا على جواز إقامة بنوك الدم مع نجاسته، وسرعة الفساد إليه والجراثيم والفيروسات والإنتانات، وخباثة كسبه للحجام، واقترانه بالفرث في كتاب الله تعالى، وذلك على عكس اللبن؛ فكان أولى بالإباحة، وأحرى للانتفاع. 7 - إن مقدار اللبن من كل امرأة غير معلوم؛ فحيث وجد الشك في تمام الرضعات الخمس، لم تنتشر الحرمة. 8 - إن جاز استئجار المرضع؛ جاز بيع لبنها. ونوقش بما يأتي: أ- إن جواز المعاوضة بالكل؛ لا يلزم منه جواز المعاوضة بالبعض 9 - إن ضابط الرضعة التامة المشبعة لا يتصور تحققه من لبن امرأة واحدة في هذه البنوك؛ لأنه خليط من لبن نساء لا يدرى أي لبن منهن غلب على الآخر حتى تنتشر به الحرمة. ونوقش بما يأتي: أ- إن من أهل العلم من يرى مطلق التحريم بالرضاع، واتقاء الشبهات أصل شرعي. 10 - إن من طرق حفظ اللبن في هذه البنوك تعريضه للنار - فيما يعرف بنظام البسترة -، والمعروف عند الفقهاء أن لبن الرضاع إذا مسته النار؛ فإنه يفقد صفته، ولا يحرم. أدلة القول الثاني: استدل أصحاب القول الثاني بما يأتي: 1 - إن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب؛ يحرم به ما يحرم من النسب؛ بإجماع المسلمين، ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط والريبة والفتنة؛ فتسد الذريعة أخذًا للحيطة والحذر، وبخاصة أن البلوى لم تعم بها في الأمة الإسلامية، وإلى ذلك يشير السرخسي في قوله: وفي تجويز ما يحلب بالقوارير فساد؛ لأنه يوجر به الصبيان فتثبت به حرمة الرضاع بينهم وبين من كان اللبن منها، ولا يعلم ذلك ا. هـ بتصرف يسير. ونوقش بما يأتي: أ- لا وجه لاعتبار سد الذريعة، ولا الحيطة والحذر؛ إذا كان المحذور الشرعي عندنا منتفيًا. ب - إذا وجد الشك والريبة رجع إلى الأصل، وهو عدم ثبوت التحريم بالرضاع، وهو يقين؛ فلا يزول بالشك ج - ينبغي أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع؛ لأن الذرائع الخاصة لا يفيد في الحكم بسدها الاستدلال بالأدلة العامة؛ لأن مفادها محل إجماع؛ فلا يستصحب إلى محل النزاع. وأجيب عنه: بأن الشك والجهالة لا يبرران إنشاء بنوك الحليب، ولا يبيحان الاسترضاع منها؛ لأنها جاءت لا عن صدفة، بل بقصد، وثَمَّ فرق بين الأمرين؛ فالتقصير في ضبط الأمور والتهاون في التثبت والاحتياط مع القدرة، واقتحام الشبهات في أمر لا ضرورة تدعو إليه مع إمكان التحرز؛ لا يصح في نفسه، ولا أن يبنى عليه - إن فعل - حكم شرعي في مسألة ما؛ لأن ما بني على باطل، فهو باطل. 2 - إن بنوك الحليب تساهم في قتل عاطفة الأمومة بين المرأة وطفلها. 3 - إن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج، أو ناقص الوزن، أو المحتاج للبن البشري في الحالات الخاصة؛ ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبَعي؛ الأمر الذي أغنى عن بنوك الحليب. ويمكن أن يناقش بما يأتي: أ- إن ظروف الناس تغيرت في كثير من المجتمعات الإسلامية في ظل الحياة المدنية الحديثة، وإلى جانبه فقِلة وفيات الرُّضَّع بالنسبة إلى ما مضى هو السبب الآخر لندرة المراضع. 4 - القاعدة الفقهية: الضرر لا يزال بالضرر؛ فحيث وجد الضرر بالأطفال المحتاجين للحليب الطبَعي، فلا ينبغي أن يزال بإيقاع ضرر آخر، وهو الكائن في محاذير هذه البنوك، والتي منها إلى جانب ما ذكر: الاطلاع على عورات النساء بلا ضرورة بكشف أثدائهن للرجال غالبًا عند حلبها، وحصول العدوى، وإهدار كرامة المرضعات، وفساد الأخلاق، والأضرار الاجتماعية الأخرى ويمكن أن يناقش بما يأتي: أ- إن الشريعة المحمدية جارية في أحكامها على ارتكاب أخف الضررين، ودفع أكبر المفسدتين، والقاعدة المذكورة محلها تساوي الضررين، أو كون الضرر البدل أعظم ضررًا من المبدل منه. 5 - القاعدة الفقهية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فدرء المفاسد المترتبة على إنشاء هذه البنوك مقدم على جلب المصالح المظنونة. ونوقش بما يأتي: أ- إن المحذور المتوهم دائر بين أمرين: الأول: كونه منتفيًا. الثاني: كونه متلافًا؛ بأخذ التدابير اللازمة. ولو وجد المحذور، فهو مغتفر في سبيل المصالح المجتلبة؛ إلا أن يتساوى الجانبان فدرؤ المفاسد مقدم. 6 - إنه لا ضرورة ملجئة إلى إنشاء هذه البنوك؛ لوجود الحليب المجفف الذي يستطيع الاستغناء به عن أمه. ونوقش بما يأتي: أ- لا يمكن في بعض الحالات أن يعطى الطفل شيئًا غير الحليب الطبعي، كما أن فوائد الحليب الطبعي لا يصل إليها الحليب المجفف مهما كانت جودته. كما يمكن أن يناقش بما يأتي: ب- إذا كان الأصل في الأشياء الإباحة، فدعوى تقييد الإباحة بالضرورة؛ تشبيه له بالمحرم الذي يحل للضرورة، وتبديل لحكم الله. 7 - إن بيع الحليب المخزن في البنوك محرم؛ لأن جزء آدمي مكرم، ومقتضى ذلك صيانته عن الابتذال بالبيع، إلى جانب كونه ليس بمال ويمكن أن يناقش بما يأتي: أ- إن الإجماع منعقد على جواز استئجار الظئر، وإذا كان المعقود عليه هو اللبن؛ فإن الإجارة لا تختلف عن البيع في معنى المعاوضة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَأَحَلَ الله البَيْعَ﴾ [ البقرة: 275]، ولبن الآدمية داخل في عموم الإباحة، وقد فصل الله تعالى لنا ما حرم علينا، ولم يأتِ تدليل صحيح أو يَقْوَ تعليل صريح على إلغاء الأصل المبيح. 8 - كون الحليب المجموع في البنك من نساء شتى لا تعرف أخلاقهن؛ بل قد تكون منهن الكافرة، وبخاصة عندالاستيراد، ومثلها لا يحتمي من الأشياء الضارة للولد. ويمكن أن يناقش بما يأتي: أ- إن لأولياء الرضيع أن يسترضعوا من شاؤوا؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ [ البقرة: 233]، وقوله: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [ الطلاق: 6]؛ لأن منفعة حليب الآدمية مقدمة على أي مضرة جانبية محتملة، وإذا ثبت كون الرضاع يغير الطباع؛ فالأولى للمولود له أن يتخير الأفضل؛ بطلب السيرة الذاتية للمتبرعة، وعلى البنك توفير ذلك. 9 - إن الاعتماد على بنوك الحليب يفقد الأم فوائد الرضاعة، ويفقد الطفل أيضًا فوائد المص من الثدي على الفك وغيره، والفوائد النفسية. 10 إن حليب المرأة المحفوظ في بنوك الحليب معرض للتلوث؛ إما عند جمعه بسبب عملية التعقيم - في الغالب - التي لا تكون مجدية أو كافية، أو عند تخزينه؛ إذا كان يحفظ في بنوك لا تتوافر فيها المقاييس المطلوبة للحفظ طيلة فترة التخزين مما يعرضه للفساد، أو عند تناوله؛ إذ يعطى في قوارير قد تحتاج إلى تعقيم شديد، وهذا أمر قد يهمل فيه من يعطي الطفل الحليب 11 - إن إنشاء هذه البنوك في البلاد النامية قد يتحول مع الوقت إلى تجارة، وتضطر المعدمات الفقيرات إلى بيع لبنهن وترك أولادهن للمسغبة أو لمستحضرات الألبان الصناعية؛ بل إن واقع بنوك الحليب في بلاد الغرب قائم على شراء الحليب من الأمهات. 12 - إذا انتشرت هذه البنوك فيحتمل أن تتقاعس الأمهات المترفات السليمات والقادرات على الرضاعة عنها لأسباب تافهة؛ كالمحافظة على الجمال أو العمل، واستبدال ذلك بالحليب الإنساني المأخوذ من بنوك الحليب؛ على اعتبار أنه يمثل اللبن الإنساني المطلوب، والأفضل بكثير من لبن الأبقار والجواميس والغنم. ويمكن أن يناقش بما يأتي: أ- إن ذلك في المقابل قد يفتح لمن مات ولدها بابًا لنفع أطفال المسلمين، مع التخلص من أضرار بقاء الحليب في الثدي، وكذلك من فاض حليب ثديها على أطفالها. ب - إن الكلام هنا ينبغي أن يكون جاريًا على الأصل في حكم المسألة، وأما ما يعرض لها من صور وجزئيات ومستثنيات فخارج عن التقرير الحُكمي الأصلي؛ لأن أصل تقرير الفقهاء لأحكام المسائل مبني على الأحوال الظاهرة والمعتادة، وأمّا ما ينتابها من العوارض؛ فلا يلزم الفقيه أن يقيَّد بها تصريحًا؛ لأنها غير متناهية، وتفصيلكم هذا يشابه قول بعض أنصاف المتعلمين في حكم القيام على المصلي: الصحيح أنَّ القيام ركنٌ إن قدر عليه، وليس بركن إن لم يقدر عليه! ولو أجري الخلاف بهذه الطريقة لقلبت المسألة تقليبًا لا وجه له ولا معنى، وإذا ذكر الفقهاء في فتاويهم بعض العوارض في المسائل فربما تُوُهِّم أنها قولٌ جديد في المسألة، وليس الأمر كذلك، وإنما يحوج إليها لأنه يذكرها غالبًا في الفتوى لعوام المسلمين، وقد يخفى عليهم مثل ذلك، وهذا هو المعنى الذي نبه عليه تقي الدين ابن تيمية في قوله: مِن فصيح الكلامِ وجيِّدِه الإطلاقُ والتعميمُ عند ظهور قصد التخصيص والتقييد، وعلى هذه الطريقة الخطابُ الواردُ في الكتاب والسنة وكلام العلماء؛ بل وكلِّ كلامٍ فصيح، بل وجميع كلام الأمم؛ فإن التعرُّضَ عند كلِّ مسألةٍ لقيودها وشروطها تَعَجْرُف وتكلُّف، وخروج عن سَنَن البيان، وإضاعةٌ للمقصود، وهو يُعَكِّر على مقصود البيان بالعكس؛ فإنه إذا قيل: تجب الزكاة في الحُليِّ، فقال: إن كان لامرأةٍ مسلمة ليس عليها دين حالٌّ لآدمي يُنْقِصُ زكاةَ المال عن أن يكون نصابًا، وحالَ عليه حولٌ لم يخرج عن ملكها ويدُها ثابتةٌ عليه؛ وجَبَتْ فيه الزكاة = كان ذلك لُكْنَةً وعِيًّا ا. هـ أدلة القول الثالث: استدل أصحاب القول الثالث بما يأتي: 1 - إن الإجراءات المذكورة تزيل عامل الجهالة في اللبن المحذور، وبذلك ينتفي المحذور. ونوقش بما يأتي: أ- إن هذا الضبط وإن كان يحصل به نشر الحرمة، إلا أنه لا يبرر إنشاء هذه البنوك وسقاية الأطفال منها؛ للمحاذير الأخرى المتنوعة. ونوقش بما يأتي: أ- إن الوثائق المقيدة عرضة للتلف والضياع. ويمكن أن يجاب: بأن الله تعالى ما جعل علينا في الدين من حرج؛ فقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [ البقرة: 286]، وقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [ التغابن: 16]، وفرض مثل هذه الاحتمالات الشاذة مما يعسر الجواب عنه؛ لفسادها في موطن الاحتجاج والاستدلال، وحال المناقش لا يختلف عن حال من يحرم بيع العنب أو زراعته مطلقًا؛ خشية تعرضه للتخمير، وهذه الذريعة حكي الإجماع على فتحها. - الترجيح: يتوجه كون الخلاف لفظيًّا؛ لأن الذي حمل المانع - فيما يظهر - على عدم الحكم بالجواز ليس هو أنه - مثلًا - لا يشترط التقام الثدي لثبوت التحريم بالرضاع، ولا أنهم لا يقرون بحليب الآدمية المخلوط ناشرًا للتحريم ما دام إطلاق الحليب عليه باقيًا، بل هو التطبيق الواقعي في البلاد الكافرة، ومعلوم أنه لا يمكن تأصيل الحكم على عموم فكرة البنوك الحليبية من خلال تطبيق مؤسسة أو أخرى لا تدين بالإسلام حاكمًا؛ بل ينبغي أن يكون الحكم على حدة في كل حالة عرض لها ما يخالف الحكم الأصلي، وإذا بات اختلال الشرط ظاهرة؛ فلا ينبغي أن يحكم على أصل الفكرة بذلك لمن أراد نمذجتها على نحو ما جاءت به الشريعة في البلاد أو المؤسسات التي تحكم بالإسلام، ولذلك؛ لا يمكن لواحد من المانعين أن يمنع طفلًا من مائة امرأة - أو أكثر - في قرية؛ أردن إرضاعه القدر المجزئ في ثبوت التحريم، وهذا ما جعل الخلاف يتجه نحو اللفظية في نوعه، والدليل على ذلك أن عامة الأدلة المؤثرة لأصحاب الأقوال في المسألة دائرة حول مصالح يراد تحقيقها، ومنافع يُبتغى فتح أسبابها وإتاحة سبلِها، أو ذرائع يُبتغى سدُّها، ومفاسد وأضرار يراد درؤها ودفعها أمام المصالح المرجوحة؛ ثابتة كانت، أو متوَهَّمة. وباستقراء بعض النوازل - على مرِّ العصور - التي تكون جديدة من نوعها غير مسبوقة بمثيل، فإنه يُلحظ أنها تواجه بالرفض والشجب من قبل القلة من الفقهاء، وخصوصًا إذا لم يكن للفقيه ملامسة لتلك النازلة أو معاينة، وإذا لم يكن ذلك مستنكرًا على بعض النفوس البشرية التي لا تستوعب غير المألوف حتى يمضي الزمن الذي يمكنها معه أن تدرك مكان النازلة من الشريعة؛ فإنه مستنكر في الشريعة؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين إطلاق القول بالتحريم، أو بالتحليل؛ في قوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [ النحل: 116]، وليس من السائغ أن تتأثر الأحكام الشرعية بالطبائع الشخصية، وخصوصًا إذا اقترن ذلك بمفهوم محدث ما أنزل الله به من سلطان، وهو أن الانحياز إلى عُدوة الحرام وسلوك جادة المنع هو مقتضى الورع وغاية الصدق وأمارة الديانة، والتحقيق أن التحريم ليس بأولى من التحليل، بل الإباحة في ميزان الشريعة هي الأصل؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [ الأعراف: 32]؟ ، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [ البقرة: 29]، وما أخبر الله بذلك إلا لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع سوى ما ورد في الشرع المنع منه لضرره، وبنوك الحليب من خلقه وفي المقابل؛ يفتح الله تعالى على من يشاء مَن عباده مِن التحقيقات العلمية التي يجتمع فيها من الكَلِمِ ما تُختصر به المسافات الطوال؛ مما يكون مردَّ العلماء إليه بعْدُ، وموضعًا لاتفاقهم، وانظر إلى السعدي ت 1376 هـ حين قال: المخترعات الحديثة النافعة للناس في أمور دينهم ودنياهم؛ هي مما أمر الله تعالى به ورسوله ، ومما يحبه الله ورسوله، ومن نِعَم الله على العباد؛ بما فيها من المنافع الضرورية والكمالية.. . ، فبعضها يدخل في الواجبات، وبعضها في المستحبات، وشيء منها في المباحات؛ بحسب ما تثمره، وينتج عنها من الأعمال ا. هـ وقال: العادات كلها؛ كالمآكل، والمشارب، والملابس كلها، والأعمال، والصنائع، والمعاملات، والعادات كلها؛ فالأصل فيها الإباحة والإطلاق، فمن حرَّم شيئًا منها لم يحرمه الله تعالى ولا رسوله؛ فهو مبتدع، كما حرم المشركون بعض الأنعام التي أحلها الله ورسوله، وكمن يريد بجهله أن يحرم بعض أنواع اللباس، أو الصنائع، أو المخترعات الحادثة بغير دليل شرعي يحرمها، فمن سلك هذا المسلك؛ فهو ضال جاهل، والمحرمات من هذه الأمور قد فصلت في الكتاب والسنة؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [ الأنعام: 119]، ولم يحرم الله علينا إلا كل ضار خبيث، ومن تتبع المحرمات وجدها تشتمل على الخبث والمضار القلبية، أو البدنية، أو الدينية، أو الدنيوية؛ لا تخرج عن ذلك، ولهذا من أكبر نعمة الله علينا تحريمه ومنعه لنا مما يضرنا، كما أن من نعمه إباحته لنا ما ينفعنا ا. هـ وليس ذلك مقصورًا على القضايا النازلة، بل حتى في إحياء مذاهب السلف؛ فإن تقي الدين ابن تيمية حين أفتى بقول طاوس وغيره في أن تعليق الطلاق - مثل: إن خرجت من الدار فأنت طالق - يوجبُ كفارة اليمين دون الطلاق؛ إن أراد الزوج محض الزجر والتخويف، لا إيقاع الطلاق؛ لأن التقدير حينئذ عند العربي: ولله إن خرجت.. . حورب وعودي من قبل المتعصبين من أتباع بعض المذاهب، حتى أودع السجن، وكانت معاملتهم له على نحو ما يقتضيه معنى البراءة الذي جاءت به الشريعة إزاء أهل الكفر من المشركين، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والذي يجب التنبُّه له هنا هو أن من أفتى بتحريم إنشاء بنوك الحليب أو التعامل معها أفرادًا كانوا أو مجامعَ بناء على حال المحكوم عليه آنذاك؛ من إهمال تمييز حليب المرأة المؤدي إلى نكاح من حرم الله تعالى، أو كشف عورات المراضع أمام من لا تحل له، أو غير ذلك مما تمنعه الشريعة، ثم هو أفتى أو غيره فيما بعد بالجواز بناءً على معطيات لا شيء فيها يوجب الحظر؛ سواء أكانت المعطيات التي جاءت الفتيا إزاءها على صيغة مشاريعَ ورقية أو مؤسساتٍ على أرض الواقع؛ فإن فتوييه جارية على وفق مقصود الشارع؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا؛ فبنك الحليب يكون التعامل معه محرمًا إذا استلزم ما حرَّم الله، وحلالًا إذا سلم من ذلك على الأصل، وقس على هذا كثيرًا من النوازل التي حكم الفقهاء بتحريمها حين لم يمكن تناولها على وجه مباح، ثم تغير الحكم مع انتفاء العلة المحرِّمة، تمامًا كالعنب؛ يحرم بيعه لمن يتخذه خمرًا، ويجوز لمن يتفكَّه به أكلًا، وإذا احتُمل الأمران؛ كان الحكم للغالب، ومن هنا يُعلم أن بعض الدعاوي التي تقذِف الفقهاء بالتناقض، أو التقلب بماجريات الزمن؛ واهية؛ لأنها قائمة على تشخيص سطحي خالٍ من الفحص والتمييز، وهذا بطبيعة الحال لا يمنع الفقهاء أن يكتسبوا روية وأناة قبل إطلاق الفتاوي، حتى تكون وافية الفحص، مستوفية التوصيف؛ لاتنطلق من برج عاجٍ، أو تنبثق عن ارتجال نازٍ؛ بلفظ فضفاض، غير محرر المعالم. وحيث كانت هذه النازلة من أقدم مسائل هذا البحث وقوعًا وأكثرها بحثًا؛ استدعى تراكمُ الفتاوي واختلافُ منازعها هذا التوضيحَ، والله تعالى أعلم. "النوازل في الرضاع" عبد الله بن يوسف الأحمد.