البحث

عبارات مقترحة:

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

الشافي

كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...

الأعلى

كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...

صور الجرح غير المؤثر

اعلم أنه ليس كل جرح في الراوي مقبولاً، فلا يعتد إلا بجرح من أهله، ولا يعتد بجرح إلا بصيغة بينة واضحة أن علة جرحه كذا كذا، وكانت تلك الجرحة قادحة، وسلمت من المعارض الراجح. وقد وقع في هذا الباب القدح في الرواة بأسباب غير معتبرة في التحقيق، أقدم بيانها ليخلص القول بعدها في تحرير القول في الأسباب المؤثرة، وذلك في صور: ‌ ‌ الصور الأولى: استعمال المباحات، أو ما يختلف فيه الاجتهاد حلاًّ وحرمة. فوقع الراوي في الشيء من ذلك لا يجوز أن يعد قادحاً، إذ استعمال المباح مشروع، ولا يقدح في العدالة استعمال المشروعات، ولا يصح أن تكون مفسقات، وإن جرى العرف بتركها على التحقيق، فإن العرف لا يصلح دليلاً على المنع مما أباحه الله عز وجل ورسوله . وما يختلف فيه الاجتهاد، فهذا إن فعله الراوي فلا يقدح فيه من جهة ما يكون له معه من عذر المخالفة، وخلاف العلماء في الأحكام كثير بينهم. وقد جاوز بعض النقاد فجرح الراوي أو تركه لمثل ذلك، فمن أمثلته: 1 _ قال شعبة بن الحجاج: " لقيت ناجية الذي روى عنه أبو إسحاق، فرأيته يلعب بالشطرنح، فتركته، فلم أكتب عنه، ثم كتبت عن رجل عنه. قال الخطيب: " ألا ترى أن شعبة في الابتداء جعل لعبه بالشطرنج مما يجرحه، فتركه، ثم استبان له صدقه في الرواية وسلامته من الكبائر، فكتب حديثه نازلاً ". قلت: ومعروف عن شعبة تشديده في ترك حديث الراوي لشيء رآه منه في غير الحديث، مما يحتمل التأويل أو الخطأ. عن ورقاء بن عمر، قال: قلت لشعبة: ما لك تركت حديث فلان؟ قال: " رأيته يزن إذا وزن فيرجح في الميزان، فتركت حديثه "، وقلت لشعبة: ما لك تركت حديث فلان؟ قال: " رأيته يركض دابته، فتركت حديثه ". وكان شعبة يقع في (الخصيب بن جحدر) يقول: " رأيته في الحمام يغير مئزر ". وقال يحيى القطان: أتى شعبة المنهال بن عمرو، فسمع صوتاً، فتركه، يعني الغناء. 2 _ وقال جرير بن عبد الحميد: " أتيت سماك بن حرب، فرأيته يبول قائماً، فرجعت ولم أسأله عن شيء، قلت: قد خرف ". 3 _ وقصة شرب الكوفيين للنبيذ معروفة، وقولهم فيه مشهور في عصر النقل والرواية، وكانت استباحتهم حاصلة بالتأويل، فالقدح على راو رأى ذلك الرأي أو فعل ذلك الفعل بمجرد ذلك جرح مردود غير معتبر. قال يحيى بن معين: " وكيع وابن نمير كانوا يشربون النبيذ، وإنما كان نبيذهم يجعلونه في التنور، يشربونه اليوم واليومين والثلاثة، ويهريقونه، ولا يشربون كلا نبيذ يزداد على الترك جودة ". وقال: " شريك وسفيان ووكيع وكل من رخص فيه كلهم يكرهون المعتق ". وقال أيضاً: " ومن رخص فيه فيما أسكر كثيره: شريك وسفيان وحسن بن حي ووكيع وابن نمير، وهؤلاء، وهم مع ذلك ينهون عن الخليطين، وعن المنادمة والمعاقره والجلوس عليه، والنقيع عندهم خمر، والبصريون يرخصون في النقيع ويقولون: هو حلال، وكل نبيذ يجوز ثلاثة أيام فلا خير فيه عندهم وعند سفيان وشريك وابن حي وابن نمير ووكيع وأبي معاوية، كلهم يكرهه ". وقال يحيى بن معين أيضاً: " تحريم النبيذ صحيح، وأقف عنده لا أحرمه، قد شربه قوم صالحون بأحاديث صحاح، وحرمه قوم آخرون بأحاديث صحاح ". وأحسن ما قيل فيمن واقع مثل هذه المخالفة متأولاً: قول أبي حاتم الرازي: جاريت أحمد بن حنبل من شرب النبيذ من محدثي الكوفة، وسميت له عدداً منهم، فقال: " هذه زلات لهم، ولا تسقط بزلاتهم عدالتهم ". 4 _ وقال الإمام أحمد بن حنبل: " كان يحيى _ يعني القطان _ لا يرضى إبراهيم بن سعد "، قال المروذي: قلت: أيش كان حاله عنده؟ قال: " كان على بيت المال ". قال يحيى بن سعيد القطان: " لو لم أرو إلا عن كل من أرضى، ما رويت إلا عن خمسة ". وفسر ذلك الحاكم فقال: " يحيى بن سعيد في إتقانه وكثرة شيوخه يقول مثل هذا القول، ويعني بالخمسة الشيوخ: الأئمة الحفاظ الثقات الأثبات ". قلت: بل والجامعين لأوصاف الورع والعفة حتى المباح المستحسن تركه، كما يدل عليه رأيه في إبراهيم بن سعد، فإبراهيم لم يكن ليعاب في حفظه، إنما عيبه قربه من الحاكم. 5 _ وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول: " كان وكيع لا يحدث عن هشيم؛ لأنه كان يخالط السلطان، ولا يحدث عن إبرهيم بن سعد، ولا ابن علية، وضرب على حديث ابن عيينة ". وقال أبو داود: سمعت رجلاً قال لأحمد: لأيش ترك وكيع إبراهيم بن سعد؟ قال: " ما أدري، كان إبراهيم ثقة ". 6 _ وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأبي مسهر (يعني عبد الأعلى بن مسهر حافظ الشاميين): إنه _ يعني سليمان بن عتبة _ يسند أحاديث عن أبي الدرداء؟ قال: " هي يسيرة، وهو ثقة، ولم يكن له عيب إلا لصوقه بالسلطان ". 7 _ وقال أبو الحسن الميموني: قلت لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، أحمد بن عبد الملك بن واقد؟ فقال لي: " قد مات عندنا، ورأيته كيساً، وما رأيت بأساً، رأيته حافظاً لحديثه "، قلت: ضبطه؟ قال: " هي أحاديث زهير، وما رأيت إلا خيراً، وصاحب السنة، قد كتبنا عنه "، قلت: أهل حران يسيئون الثناء عليه، قال لي: " أهل حران قلما يرضون عن إنسان، هو يغشى السلطان بسبب ضيعة له "، فرأيت أمره عند أبي عبد الله حسناً، يتكلم فيه بكلام حسن. 8 _ ومن هذا القدح على المحدث بأخذ الأجرة على التحديث، وممن عيب به: أبو نعيم الفضل بن دكين، وهشام بن عمار، وعلي بن عبد العزيز المكي. وعلل بعضهم القدح بمثل هذه الصورة بأن أخذ الأجرة ربما أغرى المحدث بالزيادة في الحديث من أجل المال، كما قد يغريه بذلك لصوقه بالسلطان؛ لما يجره إلى محاباته. والصواب في جميع ذلك: أن القدح فيها ليس معتبراً، من جهة أننا اشترطنا الصدق لقبول روايته، فإذا ثبت اندفعت به مثل هذه الظنون. وكذلك فإن المخطىء المتأول بمعصية إذا عرف بالصدق فحديثه مقبولاً مطلقاً، لأن التأويل متضمن إرادة صاحبه للصواب، وعدم قصده للخطأ، وقد وقع التأويل للمخالفة الشرعية من جماعة من الصحابة فلم يمنع ذلك من قبول ما حملوه من العلم عن رسول الله ، كأهل الشام الذين قاتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. فأولى من ذلك أن يقبل حديث من واقع مختلفاً في منعه، أو ترك مختلفاً في فرضه. قال الشافعي: " والمستحل لنكاح المتعة، والمفتي بها، والعامل بها، ممن لا ترد شهادته، وكذلك لو كان موسراً فنكاح أمة مستحلاً لنكاحها، مسلمة أو مشركة؛ لأنا نجد من مفتي الناس وأعلامهم من يستحل هذا، وهكذا المستحل الدينار بالدينارين، والدرهم بالدرهمين يداً بيد، والعامل به؛ لأنا نجد من أعلام الناس من يفتي به ويعمل به ويرويه، وكذلك المستحل لإتيان النساء في أدبارهن، فهذا كله عندنا مكروه محرم، وإن خالفنا الناس فيه فرغبنا عن قولهم، ولم يدعنا هذا إلى أن نحرجهم ونقول لهم: إنكم حللتم ما حرم الله وأخطأتم؛ لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم، وينسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله عز وجل ". قلت: والقول في البدعة من هذا على التحقيق، وسيأتي في أسباب سلب العدالة. ‌ ‌ الصورة الثانية: ما يعود الجرح فيه إلى طريق التلقي، والجارح اعتمد فيه المذهب المرجوح. وذلك في حالتين: الأولى: في رواية الراوي عرضاً. وهي الرواية قراءة على الشيخ، لا سماعاً من لفظه، وتقدم أنها: متصلة بمنزلة السماع عند أكثر أئمة الحديث. وربما رأيت من بعض النقاد الطعن في رواية بعض الثقات عن بعض شيوخهم أنها كانت عرضاً، ويكون مرجع الأمر إلى شيء زائد على مجرد العرض، وهو أن الذي كان يعرض على الشيخ راو مجروح، ويكون ذلك الثقة قد حضر ذلك العرض. مثل من طعن في روايته عن مالك؛ لكونه أخذ عنه بعرض حبيب كاتبه. ومنه قول يحيى بن معين في (حفص بن ميسرة): " سمع عرضاً، كان عباد بن كثير يعرض لهم على زيد بن أسلم وغيره، قال أبو جعفر السويدي: ذهبت إلى حفص بن ميسرة فسألته أن يخرج إلي كتاباً، فقال لي: إنما كان عباد بن كثير يعرض لنا ". قلت: والرواية بمثل هذا في الأصل صحيحة؛ لأن العبرة بإقرار الشيخ ما يقرأ عليه، والقارئ ليس واسطة بين التلميذ وشيخه، ولذلك فلا تضر جهالته ولا كونه مجروحاً. ولوا افترضنا صحة القدح على ما يروي بهذا الطريق، فإن ورود القدح على الشيخ أولى من وروده على التلميذ، فإنما حدث التلميذ بما أقر به الشيخ مما قرئ عليه. وأما أن يكون حفص بن ميسرة اتقى التحديث عن زيد بن أسلم من أجل أنه سمع بعرض مجروح، فذلك جائز أن يكون من أجل شكه في ضبطه لرواية نفسه عن شيخه. والمقصود: أن من تكلم فيه من الرواة المعروفين بالثقة بسبب مثل هذا السماع، فليس ذلك بقادح فيهم. والحالة الثانية: القدح في الراوي من جهة أنه روى وجادة. قال علي بن المديني: سألت سفيان (يعني ابن عيينة) عن جعفر بن محمد بن عباد بن جعفر، وكان قدم اليمن، فحملوا عنه شيئاً، قلت لسفيان: روى معمر عنه أحاديث يحيى بن سعيد، فقال سفيان: " إنما وجد ذاك كتاباً، ولم يكن صاحب حديث، أنا أعرف بهم، إنما جمع كتباً فذهب بها ". وقال شعبة بن الحجاج وسفيان بن عيينة: " حديث أبي سفيان عن جابر، إنما هي صحيفة ". وفي لفظ لشعبة: " إنما هو كتاب ". وقال أبو حاتم الرازي: " فأما جابر فإن شعبة يقول: لم يسمع أبو سفيان من جابر إلا أربعة أحاديث ". وقال: " ويقال: إن أبا سفيان أخذ صحيفة جابر عن سليمان اليشكري ". وقال عبد الرحمن بن مهدي: " كان شعبة يرى أن أحاديث أبي سفيان عن جابر إنما هو كتاب سليمان اليشكري ". وقال أبو حاتم الرازي: " جالس سليمان اليشكري جابراً، فسمع منه، وكتب عنه صحيفة، فتوفي وبقيت الصحيفة عند امرأته، فروى أبو الزبير وأبو سفيان والشعبي عن جابر، وهم قد سمعوا من جابر، وأكثره من الصحيفة، وكذلك قتادة ". وقال همام بن يحيى: " قدمت أم سليمان اليشكري بكتاب سليمان، فقرئ على ثابت، وقتادة، وأبي بشر، والحسن، ومطرف، فرووها كلها، وأما ثابت فروى منها حديثاً واحداً ". وقال سليمان التيمي: " ذهبوا بصحيفة جابر إلى الحسن، فرواها، أو قال: فأخذها، وأتوني بها فلم أروها ". وقال عبد الرحمن بن مهدي: حدثت سفيان (يعني الثوري) أحاديث إسرائيل عن عبد الأعلى عن ابن الحنفية، قال: " كانت من كتاب " يعني أنها ليست بسماع. وقال شعبة: " أحاديث الحكم عن مجاهد كتاب، إلا ما قال سمعت ". وقال يحيى القطان: قال شعبة: " عامر الشعبي عن علي، وعطاء _ يعني ابن أبي رباح _ عن علي، إنما هي من كتاب " قال يحيى: فاسترجعت أنا. والتحرير كما بينته في (شرط اتصال السند): أن قبول الوجادة والعمل بها صحيح معتبر، بشرط حصول الثقة بالموجود، وعليه فلا تعد الرواية بها مما يقدح في الراوي لأجله. ‌ ‌ الصورة الثالثة: الجرح بسبب التحمل في الصغر. تقدم في الفصل السابق بيان صحة تحمل الصغير إذا كان مميزاً، وضبط ما تحمله، فالقدح في الراوي بسبب صغر السن لا أثر له بمجرده، ولا يصلح أن يكون سبباً للجرح، وإنما إذا ثبت أن السن لم يكن سن ضبط، والراوي حدث بالشيء مما لم يضبطه لذلك، كان ذلك مؤثراً، لكنا لم نجد في التحقيق له مثالاً صالحاً ترجع علته إلى مجرد هذا. وقد تكلم في بعض الرواة لهذه العلة، كما ذكرت بعض مثاله حيث أشرت. قال أحمد بن أبي الحواري (وهو ثقة): قلت للفريابي: رأيت قبيصة عند سفيان؟ قال: " نعم، رأيته صغيراً ". قال أبو زرعة الدمشقي: فذكرته لمحمد بن عبد الله بن نمير، فقال: " لو حدثنا قبيصة عن النخعي لقبلنا منه ". قلت: يعني أنه لم يضره أن كان صغيراً حين سمع من الثوري. ‌ ‌ الصورة الرابعة: ما يعود إلى جحد الشيخ أن يكون حدث بالحديث، أو تركه القول بمقتضاه. فهاتان حالتان: الأولى: الراوي يروي عن رجل حديثاً، فيسأل المروي عنه فينكره، أو ينكر أن يكون ذلك الراوي قد سمع منه، فذلك الخبر لا يقبل من ذلك الطريق، ولكن لا يعد هذا سبباً للطعن على ذلك إذا كان ثقة ضابطاً؛ لجواز النسيان على المحدث، إلا أن يعتضد الجرح بذلك بما يشهد له، أو أن يكون التلميذ لم تستقر ثقته. قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يضعف الحديث عندك بمثل هذا: أن يحدث الرجل الثقة بالحديث عن الرجل، فيسأله عنه، فينكره ولا يعرفه؟ فقال: " لا، ما يضعف عندي بهذا ". والعلة في ذلك كما ذكرت: أن النسيان غير مأمون على الراوي، وإن كان ثقة، وإنما العبرة بإتقان من حفظه عنه. ووقوعه في رواية الثقات نادر قليل. مثاله: ما رواه أحمد بن حنبل، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، أن النبي كره يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها. قال وكيع: سألت ابن جريج؟ فأنكره، ولم يعرفه. قلت: فمن ذا يجرؤ أن يطعن بهذا على سفيان الثوري؟! إنما يحمل على نسيان ابن جريج له. وتأول البيهقي إنكار ابن جريج أنه كانَ على اللفظ، وفيه نظرٌ، إنما ظاهرهُ أنه أنكر أن يكون حدَّث به. ومن مثاله: ما حدث به حماد بن زيد، قال: قلت لأيوب: هل تعلم أحداً قال بقول الحسن في: (أمرك بيدك)؟ قال: لا، إلا شيء حدثناه قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي بنحوه. قال أيوب: فقدم علينا كثير، فسألته؟ فقال: ما حدثت بهذا قط، فذكرته لقتادة، فقال: بلى، ولكنه نسي. قلت: وهل يقبل ذلك الحديث بعينه؟ على قولين: الأول: يقبل، والعمدة فيه على الحفظ الثقة، والشيخ قد نسي. والثاني: لا يقبل، من أجل الشبة، وهو قول متأخري الحنفية. والأول هو الصحيح، وهو قول أهل الحديث، وعامة الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، وصححه الخطيب. فإذا كان الراوي جازماً أن الشيخ حدثه، والشيخ يقول: لم أحدثك، فالقول قول الراوي المعروف بالثقة والإتقان، والشيخ قد نسي. قال الترمذي: " لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد، وسألت مُحمداً (يعني البخاري) عن هذا الحديث؟ فقال: حدثنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد بهذا، وإنما هو عن أبي هريرة موقوف. ولم يعرف مُحمدٌ حديث أبي هريرة مرفوعاً ". وقال النسائي: " حديث منْكرٌ ". وقال البيهقي: " كثيرٌ هذا لم يَثبت من معرفته ما يوجب قبول روايته ". لكن قال الحاكم: " حديث غريب صحيح ". والذي يبدو لي أن من ردَّه ولم يُفصَّل فجائزٌ أن يكون من أجْل إنكار كثيرٍ أنه حدَّث به. وأولى من ذلك بالقبول حين يكون الشيخ متردداً غير جازم بالإنكار، فيكون حفظ الثقة مرجحاً، ومن هذا لو أن الشيخ قال لراويه عنه: لم أحدثك، فرد وقال، : بل حدثتني، فأقره الشيخ. مثل: ما حدث به محمد بن جعفر غندر، قال: حدثنا شعبة، عن صدقة، قال: سمعت ابن عمر، وسأله رجل، فقال: إني أهللت بهما جميعاً، قال: " لو كنت اعتمرت كان أحب إلي "، ثم أمره فطاف بالبيت وبالصفا وبالمروة، وقال: " لا يحل منك شيء دون يوم النحر ". ثم إن شعبة نسي هذا الحديث، فقلت له: إنك حدثتني به، قال: إن كنت حدثتك به فهو كما حدثتك. وربما وقع من الشيخ من بعد أن يحدث بذلك الحديث عن راويه عنه عن نفسه. مثل: ما حدث به عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه: أن رسول الله قضى باليمين مع الشاهد. قال عبد العزيز: فذكرت ذلك لسهيل، قال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة، أني حدثته إياه ولا أحفظه. قال عبد العزيز: وقد كان أصاب سهيلاً علة أذهبت ببعض حفظه، ونسي بعض حديثه، فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه. قلت: وهذه المسألة غير تراجع الشيخ عما حدث به مبيناً عن خطئه، فإنه لو فعل ذلك فالقول قوله. والحالة الثانية، وهي عمل الإمام بخلاف رواية راو حدث هو عنه بتلك الرواية وقال بخلافها. فهذا لا يقدح به على الراوي ولا على الحديث، فمعلوم أن لترك العمل بالحديث أسباباً عدة، فقد يكون تركه لمعارض أقوى عنده، أو قياس أو احتمال نسخه، أو غير ذلك. فهذا مالك روى عن نافع وهو الثقة الحافظ عنده، عن ابن عمر حديث البيعين بالخيار، ولم يقل به مالك؛ لأنه رأى عمل أهل المدينة على خلافه. قال الخطيب: " إذا روى رجل عن شيخ حديثاً يقتضي حكماً من الأحكام، فلم يعمل به، لم يكن ذلك جرحاً منه للشيخ؛ لأنه يحتمل أن يكون ترك العمل بالخبر لخبر آخر يعارضه، أو عموم، أو قياس، أو لكونه منسوخاً عنده، أو لأنه يرى أن العمل بالقياس أولى منه، وإذا احتملت ذلك لم يجعله قدحاً في راويه ". ‌ ‌ الصورة الخامسة: الرواية عن المجروحين والمجهولين. وقع هذا من نفر كثير من الثقات، بل حفاظ الناس ومتقنيهم. قال بندار (محمد بن بشار): " ضرب عبد الرحمن بن مهدي على نيف وثمانين شيخاً عنهم الثوري ". وقال عبد الرحمن بن مهدي: " اتقوا هؤلاء الشيوخ، واتقوا شيوخ أبي عامر العقدي المدنيين ". وهذا الأعمش أنكروا عليه التحديث ببعض الحديث الذي يكون من طريق المجروحين، فيبين وجه ذلك فيقول: " كنت أحدثهم بأحاديث يقولها الرجل لأخيه في الغضب، فاتخذوها ديناً، لا والله لا أعود إليها أبداً ". وكان حدث عن موسى بن طريف عن أبيه عن علي: " أنا قسيم النار "، فقيل له: لم رويت هذا؟ فقال: " إنما رويته على الاستهزاء ". وذكرت في الكلام عن أصل (هل رواية الثقة عن رجل تعديل له؟) جماعة من الثقات عرفوا بالرواية عن المجهولين حتى أكثروا، ومع ذلك فلم يسقط حديثهم. فمثل هذا لا يكون الحمل فيه على الثقة، ولا يصح أن يعد بمجرده سبباً للقدح في الراوي. فتأمل ذلك واعلم أن كثيراً من النقلة تكلم فيهم بسبب ذلك، وهم في أنفسهم وحديثهم ثقات. مثل: (عيسى بن موسى غنجار)، قال الحاكم: " لم يؤخذ عليه إلا كثرة روايته عن الكذابين ". وقال: " يحدث عن أكثر من مئة شيخ من المجهولين لا يعرفون، بأحاديث مناكير، وربما توهم طالب هذا العلم أنه يجرح فيه، وليس كذلك ". وإنما كان من حال بعض النقلة أنهم لم يعرف لحديثهم مخارج إلا من جهة روايتهم عن المجروحين، فهؤلاء لو افترضنا ثقة أحدهم في نفسه، فما هو بثقة في حديثه، وإن كان الحمل فيه على من فوقه، بل التحقيق أنه لا معنى لوصف هذا الراوي بالثقة؛ لما في ذلك من التغرير بروايته. مثل (خالد بن الحسين أبي الجنيد الضرير)، قال ابن عدي: " عامة حديثه عن الضعفاء أو قوم لا يعرفون، فإذا كان سبيله هذا السبيل إذا وقع لحديثه نكرة؛ يكون البلاء منه، أو من غيره لا منه ". ومثل (يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي)، فقد قال فيه أبو حاتم: " منكر الحديث، لا أدري منه أو من أبيه، لا ترى في حديثه حديثاً مستقيماً "، وقال أبو زرعة الرازي: " لا بأس به، إنما الشأن في أبيه، بلغني عن أحمد بن حنبل أنه قال: يحيى بن يزيد لا بأس به ولم يكن عنده إلا حديث أبيه، ولو كان عنده غير حديث أبيه لتبين أمره ". ومنه قول الدارقطني في (محمد بن مَروان القطان): " شيخٌ من الشيعة، حاطب ليل، لا يكاد يُحدث عن ثقة، متروك ". فالدارقطني جرحه من جهة أنه لا يكاد يحدث عن ثقة. وكقول ابن حبان في (مطرح بن يزيد): " لا يحتج بروايته بحال من الأحوال؛ لما روى عن الضعفاء " يعني وأن عامة ما روى فهو عن عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد، وهما مجروحان. ومن هذا أيضاً قوله (محمد بن عطية بن سعد العوفي): " منكر فائدة: قال سفيان بن عيينة: قال لي عبد الكريم الجزري: يا أبا محمد، تدري ما حاطبُ ليْل؟ قال: قلت: لا، إلا أن تخبرنيه، قال: هوَ الرجل يخرج من الليل فيتحطب، فتقع يده على أفعى فتقتله. هذا مثلٌ ضربتْه لك لطالب العلم، إن طالبَ العلم إذا حمل من العلم ما لا يُطيقه، قتله علْمه، كما قتلت الأفعى حاطب ليْل. أخرجه البغوي في " الجعديات " (رقم: 1048) بإسناد صحيح. الحديث جداً، مشتبه الأمر، لا يوجد الاتضاح في إطلاق الجرح عليه؛ لأنه لا يروي إلا عن أبيه، وأبوه ليس بشيء في الحديث "، كما علله أيضاً بأنه لم يعرف حديثه إلا من رواية مجروح عنه. فهذا الصنف من الرواة ليسوا معدودين في جملة الثقات أصلاً، ولهذا جاز أن تلحقهم التهمة. ومن هذا الصورة: تخريج أحاديث المجروحين. وقد طعن به على بعض أئمة الحديث أنهم خرجوا أحاديث الضعفاء والمتروكين والكذابين في كتبهم دون بيان لعللها، كما طعن به مثلاً على الحافظ أبي نعيم الأصبهاني. وليس هذا في التحقيق مما يجرح به، وإن كان خلاف الأولى، وذلك من أجل أن الواحد من هؤلاء المخرجين يسند أحاديثه تلك، ومن أسند فقد أحال. فإن قلت: فلم كانوا يكتبون أصلاً أحاديث المجروحين، أو يروون عنهم؟ قلت: يغلب على من كان يفعل ذلك عدم العلم بمنازل الرواة، ومن كان يعلم ذلك فكان يرويه تارة على سبيل اعتقاد عدالة المحدث بها عند ذلك الراوي عنه، وتارة على سبيل الاستهزاء كما تقدم عن الأعمش فيتلقفه من كان همه الإكثار والإغراب في الرواية، أو من أجل تمييزها عن أحاديث الثقات، كما كان يفعله بعض النقاد، أو لغير ذلك. لكن ليس من سبب ذلك غش الأمة، فهذا إن ورد على الراوي طعن على عدالته في نفسه. والكتابة عنهم بقصد تمييز حديثهم، منهج جرى عليه عامة النقاد، يكتب أحدهم أحاديث المجروحين ويعتني بجمعها كما يعتني بأحاديث الثقات، وذلك لما يوجبه تحرير حال النقلة من تمييز محفوظ حديثهم من غيره)، أو لمصلحة الاعتبار به إذا كان المجروح ممن يصلح حديثه لذلك، وليس هذا من قبيل ما يذم ويؤخذ على الراوي فعله في الرواية عن الضعفاء. قال يحيى بن معين: " كتبنا عن الكذابين، وسجرنا به التنور، فأخرجنا به خبزاً نضيجاً ". وقال أبو بكر الأثرم: رأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين بصنعاء في زاوية وهو يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه، فقال له أحمد: تكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس، وتعلم أنها موضوعة، فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه على الوجه! فقال: " رحمك الله يا أبا عبد الله، أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة؛ حتى لا يجيء بعده إنسان فيجعل بدل أبان ثابتاً، ويرويها عن معمر عن ثابت عن أنس، فأقوله له: كذبت، إنما هي عن أبان لا عن ثابت ". فهذا فيه كتابة أحاديث من لا يعتبر به أصلاً، وإنما يقايس بحديثه لكشف الكذب والكذابين. ومثال الكتابة للاعتبار، قول أحمد بن حنبل في (عبد الله بن لهيعة): " ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع غيره يشده، لا أنه حجة إذا نفرد ". فهذه العلة التي كانوا يكتبون لأجلها أحاديث المجروحين، موجودة كذلك فيما يخرج من الحديث في الكتب التي لا تشترط الصحة، دون بيان في أكثرها لعلة الحديث ولا لضعف أو وهاء راويه. والمفترض أن لا يرد الإنسان من هذه الموارد إلا وهو يفهم ويميز ما يقبل وما لا يقبل. والمراد أن يعلم هنا أن هذا ليس من أسباب الطعن المعتبرة على أحد من الرواة. ‌ ‌ الصورة السادسة: الجرح والتدليس. التدليس جرح نسبي يقدح فيما حدث به الراوي مدلساً، أو مترجحاً فيه مظنة التدليس، على ما ستعلمه في مبحث (الحديث المدلس) من ألقاب (الحديث المردود). ولا يكون وصف الراوي به مما يقدح في عدالته بمجرده، كما لا يكون منافياً لثقته، لأسباب بينتها في المبحث المشار إليه. لذلك تجد أكثر من واقعه كانوا من الثقات المعروفين. ولو جعلنا التدليس قادحاً، فإنه سيكون قادحاً في العدالة؛ لما فيه من معنى الغش، ولكن التأويل عند من فعله حال دون الجرح به. ومن النقاد من جعل الإكثار من التدليس، وفحش ما يأتي به الراوي المدلس من المنكرات مما يكون قد سمعه من كذاب أو مجهول فدلسه، ملحقاً الضرر بذلك المدلس، فيجعل علة جرحه عنده تلك المنكرات التي رواها. كما جرح بقية بن الوليد عند طائفة من العلماء بذلك، حتى أسقط بعضهم عامة حديثه. وكما قال محمد بن عبد الله بن نمير في (أبي جناب يحيى بن أبي حية الكلبي): " صدوق، كان صاحب تدليس، أفسد حديثه بالتدليس، كان يحدث بما لم يسمع ". قلت: وهذا وافقه فيه كثيرون، لكن أبو جناب، في تتبعي، وجدت عامة ما يفسرون به ضعفه هو التدليس، ووصفه بالصدق جماعة من النقاد، والقول فيه ما قاله أبو نعيم الفضل بن دكين وقد أدركه وروى عنه: " ما كان به بأس، إلا أنه كان يدلس، وما سمعت منه شيئاً إلا شيئاً قال فيه: حدثنا "، وقال أبو زرعة الرازي: " صدوق، غير أنه كان يدلس ". وأدخل ابن عدي جماعة من الرواة في " الكامل " ليس فيهم قادح سوى التدليس، ولم يورد آخرين عرفوا به، وكأنه حين رأى أولئك الذين أو دعهم كتابه قد جرحهم بعض من تقدمه تبعهم في ذكرهم في المجروحين. ومن أمثلتهم (ميمون بن موسى المرئي البصري) يروي عن الحسن البصري، وقد روى عنه يحيى القطان وغيره، لم يجرح بشيء غير التدليس مع قلة حديثه، وخشية أن يظن رد حديثه مطلقاً قال ابن عدي: " إذا قال: حدثنا، فهو صدوق؛ لأنه كان متهماً في التدليس ". والوقوف على تحرير هذا السبب من الجرح في الموصوف به، يدفع التهمة عن بعض الرواة ممن اختلف فيهم، يعود الجرح فيهم إلى هذا السبب، فإذا تبين لم يصلح معه رد قول المعدل في حال بيان هذا الراوي سماعه للخبر. وليس من ذلك ما علل به ابن حبان مجيء الموضوعات في روايات الحسن بن عمارة، إذ حمله على مجرد التدليس، وأن شعبة طعن عليه لأنه لم يتبين ذلك، حيث قال ابن حبان: " كان بلية الحسن بن عمارة أنه كان يدلس عن الثقات ما وضع عليهم الضعفاء، كان يسمع من موسى بن مطير، وأبي العطوف، وأبان بن أبي عياش، وأضرابهم، ثم يسقط أسماءهم ويرويها عن مشايخهم الثقات، فلما رأى شعبة تلك الأحاديث الموضوعة التي يرويها عن أقوام ثقات أنكرها عليه، وأطلق عليه الجرح، ولم يعلم أن بينه وبينهم هؤلاء الكذابين، فكان الحسن بن عمارة هو الجاني على نفسه بتدليس عن هؤلاء وإسقاطهم من الأخبار، حتى التزق الموضوعات به ". فهذا الذي أعاد إليه ابن حبان جرح شعبة للحسن وأن شعبة لم يتفطن له، غير صحيح، إلا أن يكون الحسن بن عمارة كان يقول في تلك الأحاديث المدلسة (سمعت)، كما يوجد بعض ذلك فيما أثر عن شعبة أنه طعن على الحسن بسببه. والتحقيق أن عبارات النقاد في ابن عمارة لم تبن على ما ذكره ابن حبان، فإنه يوجد في الموصوفين بالثقة من كان يدلس المتهمين ويعنعن عن شيوخهم، ولم يطعن عليه بمثل ما طعن على ابن عمارة وفيهم من روى عنه شعبة نفسه، وإنما قام الطعن على ابن عمار على وهائه في نفسه من جهته، وقد قال علي بن المديني: " ما أحتاج إلى شعبة فيه، أمر الحسن بن عمارة أبين من ذلك "، قيل: أكان يغلط؟ فقال: كان يغلط؟! أي شيء يغلط؟ " وذهب إلى أنه كان يضع الحديث. "تحرير علوم الحديث" للجديع.