البحث

عبارات مقترحة:

اللطيف

كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...

القهار

كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...

أصول في جرح الرواة

الأصل الأول: يثبت الجرح بقول ناقد واحد. لا يطلب فيه أكثر من كفاءة الناقد. الأصل الثاني: هل يشترط لقبول الجرح أن يكون مفسراً قادحاً؟ الراوي لا يخلو إما أن يكون معدلا، أو مجروحاً، أو مختلفاً فيه، أو مسكوتاً عنه. فمن ليس فيه غير التعديل فهو عدل ما دام وصفه صادراً من أهل لذلك، وتقدم أن التعديل يكتفى فيه بالقول المجمل من عارف بالتزكية، ولا يطلب فيه التفسير لتعذر حصر أسبابه. ومن ليس فيه غير الجرح فهو مجروح بقدر ما ذكر به من الجرح إن كان بين السبب، أو كان للعبارة دلالة ظاهرة يمكن حمله عليها. والجرح ربما قدح في الراوي بسبب واحد وقف عليه الناقد، فيمكن حصره، وبهذا فارق التعديل. ولما كان قد يقع بما ليس بجارح على التحقيق، أو يكون جرحاً نسبياً يرد على بعض حديث الراوي لا على شخصه، كما تقدم في (المبحث الأول) من هذا الفصل، كما لا يمكن ادعاء سلامة أحد من النقاد من الوقوع في جرح الراوي بما لا يعد جارحاً في التحقيق. لذا؛ فإنه لا يجوز تأصيلاً تسليم كون الراوي مجروحاً حتى يوقف على سبب الجرح، فيتبين أنه قادح فيه أو في حديثه. فإن قلت: فماذا إذا لم يأت في الراوي إلا جرح مجمل، ولم يعدل، فهل يستعمل ذلك الجرح أم لا؟ قلت: نعم، يستعمل ذلك الجرح ما دام استعماله في حق ذلك الراوي ممكناً، بل إعماله أولى من إهماله، لصدوره من ناقد عارف، لكن لا على تسليم صحة جرح الراوي بمجرد ذلك، ولكنا حيث اشترطنا ثبوت عدالة الراوي لقبول حديثه، وأن غير ثابت العدالة لا يخلو من أن يكون مجروحاً بسبب من أسباب الجرح، أو مجهولاً، فأدنى ما ننزل عليه حال هذا الراوي أن يكون مجهولاً غير محتج به، فيكون وجه رد حديثه عدم ثبوت العدالة. وقال ابن حجر: " من جل حاله، ولم يعلم فيه سوى قول إمام من أئمة الحديث: إنه (ضعيف)، أو (متروك)، أو (ساقط)، أو (لا يحتج به)، ونحو ذلك، فإن القول قوله ولا نطالبه بتفسير ذلك، إذ لو فسره وكان غير قادح، لمنعنا جهالة حال ذلك الرجل من الاحتجاج به، كيف وقد ضعف؟ ". وقد ذهب بعض العلماء، كابن حزم، إلى اشتراط تفسير الجرح مطلقاً، حتى في مثل هذه الحالة، وهو الأوفق للأصول. الأصل الثالث: درجات المجروحين متفاوتة. وهذا واقع بالنظر إلى اعتبار العدالة أو الحفظ جميعاً. لكن ما رجع الجرح فيه إلى العدالة بما يتلخص لنا تحريره مما تقدم في هذا الفصل، وهو الفسق والكذب والتهمة فيه وسرقة الحديث، فهذا لا يفيد فيه تفاوت درجات المجروحين، فالجميع ساقط لا اعتبار به، وإن كان الكذب أشد من مجرد التهمة به مثلاً. أما ما رجع الجرح فيه إلى الحفظ، فتفاوت درجات المجروحين فيه مؤثر، إذ منهم من هو مطروح ساقط، ومنهم من هو صالح يعتبر به، ومنهم من ناله الوصفان بحسب حديثه، ومنهم من يحتج به في حال ويرد في حال. فهذه أربع درجات أذكرها بحسب القوة: الأولى: من يحتج به في حال، وهو سيىء الحفظ في حال أخرى. والثانية: من لا يحتج لسوء حفظه، مع ثبوت وصف الصدق له في الجملة، وهو الأكثر في الضعفاء. والثالثة: من غلب عليه الخطأ في طرف من رواياته فصار في حد من لا يعتبر به، وكان أحسن حالاً في طرف آخر، فكان فيه صالحاً للاعتبار، كما سأذكره مثاله في (الأصل الرابع). والرابعة: من بلغ به سوء الحفظ إلى أن غلب عليه الخطأ، فترك حديثه، فهذا لا يعتبر به. وكل من كان سوء حفظه لم يبلغ به حد الترك، فهو صالح الحديث للاعتبار، وإنما يسقط من حديثه في تلك الحال ما تفرد به. الأصل الرابع: الراوي يكون مجروحاً، يعتبر ببعض حديثه دون بعض. وهذا كالفرع عن الأصل السابق. وفي الضعفاء جماعة حديثهم في بعض الأحوال صالح يعتبر به، وفي بعضها مطروح منكر، يجب على المشتغل بهذا الفن أن يلاحظ ذلك، لئلا ينزل الجرح فيهم منزلة واحدة، فيعتبر بكل حديثهم، أو يترك كل حديثهم. مثل (أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن)، قال علي بن المديني: " كان شيخاً ضعيفاً ضعيفاً، وكان يحدث عن محمد بن قيس ويحدث عن محمد بن كعب بأحاديث صالحة، وكان يحدث عن المقبري وعن نافع بأحاديث منكرة ". وقال عمرو بن علي الفلاس: " ضعيف، ما روى عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب ومشايخه، فهو صالح. وما روى عن المقبري وهشام بن عروة ونافع وابن المنكدر، فهي رديئة لا تكتب ". الأصل الخامس: الكتب المؤلفة في الضعفاء. اعتنى أئمة الحديث بتمييز المجروحين من الرواة، واختصهم طائفة كثيرة بالتصنيف، كالبخاري والجوزجاني والنسائي والعقيلي وابن عدي وابن حبان والدارقطني، ممن وصلتنا كتبهم، وفي المتأخرين: ابن الجوزي، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم. وهي مصنفات تمثل مرجعية ضرورية لمعرفة هذا الصنف من الرواة. فأما كتب البخاري والجوزجاني والنسائي والدارقطني فمختصرة. وكان أبو حاتم الرازي قد قال في عدد من الرواة ذكرهم البخاري في " الضعفاء ": " يحول "، ولا يوجد ذلك في كتاب البخاري الذي بين أيدينا، والعلة: أن الذي وصلنا للبخاري إنما هو " الضعفاء الصغير "، وله " الكبير "، والظاهر أنه محل تلك الأسماء المنتقدة من قبل أبي حاتم، وكذلك ابن عدي عن البخاري من الجرح ما لا يوجد في هذا " الصغير ". وأما كتاب الجوزجاني فهو معروف بـ (أحوال الرجال)، وقد اتهم بالتحيز لأهل الشام، والخصومة لأهل العراق، لذلك طعن في هذا الكتاب على جماعة من ثقات الكوفيين وأئمتهم، كما بينته في (صفة الناقد). وكتاب العقيلي كتاب نافع جداً، يذكر الراوي ويعتني بالنقل لألفاظ الجرح فيه عمن تقدمه كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري، كما يجرح من جهة نفسه، ويسوق من منكرات الراوي ما يستدل به لضعفه، لكن أخذ عليه إيراد بعض الثقات فيه، مما يوجب التحوط عند الأخذ منه. أما كتاب ابن عدي " الكامل في ضعفاء الرجال "، فهو قرة عين لكل معتن بهذا الفن، رسم فيه للنقد طريق السلف فأتى به ظاهر اً بيناً في أحسن صورة، وكاد أن تكون كل ترجمة من تراجمه بمنزلة مثل تطبيقي في نقد الرواة، يحتذيه من قصد أن يفهم منهج القوم. وقال منهجه في جمع الضعفاء: " ذاكر في كتابي هذا كل من ذكر بضرب من الضعف، ومن اختلف فيهم: فجرحه البعض، وعدله البعض الآخر، ومرجح قول أحدهما مبلغ علمي من غير محاباة، فلعل من قبح أمره أو حسنه تحامل عليه أو مال إليه، وذاكر لكل رجل منهم مما رواه ما يضعف من أجله، أو يلحقه بروايته له اسم الضعف ". وضمن كتابه هذا ما جاوز ألفين ومئتي ترجمة. وفي كتابه طائفة كبيرة من الثقات المتقنين، ذكرهم فيه لأن بعض من سبقه ذكرهم بالضعف، فحرر القول، وذب عنهم، فليس ذكره لأحدهم في هذا الكتاب بمنقص من قدر المذكور، بل هو رافع لشأنه؛ لأنه إنما أورده للدفاع منه. مع أنه ربما وجد الحرج من ذكر الثقة الحافظ في هذا الكتاب، فتراه يقول مثلاً في ترجمة (أحمد بن صالح المصري): " لولا أني شرطت في كتابي هذا أن أذكر فيه كل من تكلم فيه متكلم، لكنت أجل أحمد بن صالح أن أذكره ". وذكر الحافظ (أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن عقدة)، وقال: " ولم أجد بداً من ذكره؛ لأني شرطت في أول كتابي هذا أن أذكر فيه كل من تلكم فيه متكلم ولا أحابي، ولولا ذاك لم أذكره؛ للذي كان فيه من الفضل والمعرفة ". لكن أخذ على ابن عدي في كتابه أمور: أولها: ذكر رواة ثقات لم يذكرهم بطعن لا عن متقدم ولا عن نفسه. مثل (ثابت بن الوليد بن عبد الله بن جميع)، قال الذهبي: " ذكره ابن عدي في الكامل، ولكن ما غمزه بكلمة، وساق له حديثاً واحداً محفوظ المتن. و (حازم بن إبراهيم البجلي)، ساق له أحاديث، ولم يذكر فيه مطعناً عن أحد، ولم يجرحه بشيء، بل قال: " أرجو أنه لا بأس به ". وكان الذهبي يتعقبه بمثل ذلك، وذلك في الجملة في شيء يسير. ثانياً: ذكره الراوي الثقة بسبب كلمة لمتقدم، أجراها على معنى القدح فيه وليس الأمر كما فهم ابن عدي. وهذا نادر، مثاله (حنظلة بن أبي سفيان الجمحي)، ذكره من أجل كلمة نقلها عن علي بن المديني، وقيل له: كيف رواية حنظلة عن سالم؟ فقال: " رواية حنظلة عن سالم واد، ورواية موسى بن عقبة واد آخر، وأحاديث الزهري عن سالم كأنها أحاديث نافع "، فقال رجل: يدل على أن حديث سالم كثير، قال: " أجل ". فتعقبه الذهبي بقوله: " هذا القول من ابن المديني لا يدل على غمز في حنظلة بوجه، بل هو دال على جلالته، وأنه نظير موسى وابن شهاب في حديثه عن سالم ". ثالثا: ربما وقع في " الكامل " كذلك ذكر الراوي ألصقت به بعض المنكرات، والنكارة فيها من جهة غيره في الإسناد، ولا يذكر ابن عدي الطعن في ذلك الراوي عن أحد تقدمه، والأصل أن لا يورد ذلك الراوي من أجل تلك المنكرات التي هي من جهة غيره، بل ينبغي أن يسوقها في ترجمة من أتى بها من المجروحين. وهذا مثل (الوليد بن عطاء بن الأغر)، فإنه ذكر في ترجمة حديثاً منكراً البلية فيه من الراوي عنه بإقرار ابن عدي نفسه، ولم يعبه بشيء. رابعاً: استدراك تراجم عديدة لم يذكرها، وهي من شرط كتابه. لكنه معذور في ذلك، فهو إنما ذكر ما بلغه علمه ممن تكلم فيه. ومن قارن بما استدركه الذهبي في " الميزان " ثم من جاء بعده كالعراقي وابن حجر من أسامي من تكلم فيه ممن يندرج تحت شرط ابن عدي وجد من ذلك عدداً كبيراً. وكتاب ابن الجوزي " الضعفاء والمتروكون "، لا يعتمد عليه، لما فيه من تخاليط كثيرة، وخطأ في حكاية النقل عن الأئمة، واختصار مخل لعباراتهم. وللذهبي " المغني في الضعفاء "، فيه فوائد كثيرة، لكن الذهبي ربما أختصر العبارة وتصرف فيها فأخل. وفي " الميزان " بعض الشبه من هذا، ومما يؤخذ عليه فيه أنه يقول في عدد من الرواة: " لا يعرف "، وهذا إذا لم يسبق إليه، فربما كان مستنده فيه ما قاله ابن حجر عائباً ذلك منه: " إذا لم يجد المزي قد ذكر للرجل إلا راوياً واحداً جعله مجهولاً، وليس هذا بمطرد ". أما تتمة ابن حجر " لسان الميزان " فمليئة بالفائدة. وفي الجملة: يجب أن تحتاط وتحقق في الأخذ من هذه الكتب، إذ ليس بمجرد ذكر الراوي فيها تسليم للقدح فيه، كما سأذكره في فصل (اختلاف الجرح والتعديل). الأصل السادس: يطلب نقد رواة الآثار كما يطلب نقد رواة الحديث. على هذا رأينا أئمة هذا الشأن، لا يفرقون في تحقيق أهلية الراوي بين من يروي الحديث عن النبي ومن يروي الآثار عن الصحابة والتابعين. لكن ليس هذا على معنى المساواة في قدر التشديد بين الصورتين، فإنهم إذا كانوا يفرقون فيما يرويه الراوي عن النبي في الأحكام وما يرويه في الرقائق، فتفريقهم بين ما يروى عن النبي وما يروى عن غيره أولى بالاعتبار. وإنما المقصود أنهم يخضعون الجميع للنقد، ولا يستسهلون نسبة رأي إلى صحابي أو عالم بمجرد أن وجد منسوباً إليه، بل كانوا يحققون إسناده. فهذا مثلاً (بزيع أبو خازم الكوفي) صاحب الضحاك بن مزاحم، ضعفوه، وقال ابن عدي: " لا يعرف في الرواة، إلا في روايته عن الضحاك بن مزاحم بحروف في القرآن، ولا أعرف له شيئاً من المسند، وإنما أنكروا عليه ما يحكي عن الضحاك في التفسير، فإنه يعرف عن الضحاك بتفسير لا يأتي به غيره، ولا أعرف له مسنداً ". "تحرير علوم الحديث" للجديع.