البحث

عبارات مقترحة:

القيوم

كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...

الملك

كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...


بَغْدَادُ

أم الدنيا وسيدة البلاد، قال ابن الأنباري: أصل بغداد للأعاجم، والعرب تختلف في لفظها إذ لم يكن أصلها من كلامهم ولا اشتقاقها من لغاتهم، قال بعض الأعاجم: تفسيره بستان رجل، فباغ بستان وداد اسم رجل، وبعضهم يقول: بغ اسم للصنم، فذكر أنه أهدي إلى كسرى خصيّ من المشرق فأقطعه إياها، وكان الخصيّ من عباد الأصنام ببلده فقال: بغ داد أي الصنم أعطاني، وقيل: بغ هو البستان وداد أعطى، وكان كسرى قد وهب لهذا الخصي هذا البستان فقال: بغ داد فسميت به، وقال حمزة بن الحسن: بغداد اسم فارسي معرّب عن باغ داذويه، لأن بعض رقعة مدينة المنصور كان باغا لرجل من الفرس اسمه داذويه، وبعضها أثر مدينة دارسة كان بعض ملوك الفرس اختطّها فاعتل فقالوا: ما الذي يأمر الملك أن تسمى به هذه المدينة؟ فقال: هلدوه وروز أي خلّوها بسلام، فحكي ذلك للمنصور فقال: سميتها مدينة السلام، وفي بغداد سبع لغات: بغداد وبغدان، ويأبى أهل البصرة ولا يجيزون بغداذ في آخره الذال المعجمة، وقالوا: لأنه ليس في كلام العرب كلمة فيها دال بعدها ذال، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق: فقلت لأبي إسحاق إبراهيم بن السري فما تقول في قولهم خرداد؟ فقال: هو فارسي ليس من كلام العرب، قلت أنا: وهذا حجة من قال بغداد فإنه ليس من كلام العرب، وأجاز الكسائي بغداد على الأصل، وحكى أيضا مغداذ ومغداد ومغدان، وحكى الخارزنجي: بغداد بدالين مهملتين، وهي في اللغات كلها تذكّر وتؤنث، وتسمى مدينة السلام أيضا، فأما الزوراء: فمدينة المنصور خاصة، وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها وادي السلام، وقال موسى بن عبد الحميد النسائي: كنت جالسا عند عبد العزيز بن أبي روّاد فأتاه رجل فقال له: من أين أنت؟ فقال له: من بغداد، فقال: لا تقل بغداد فإن بغ صنم وداد أعطى، ولكن قل مدينة السلام، فإن الله هو السلام والمدن كلها له، وقيل: إن بغداد كانت قبل سوقا يقصدها تجار أهل الصين بتجاراتهم فيربحون الرّبح الواسع، وكان اسم ملك الصين بغ فكانوا إذا انصرفوا إلى بلادهم قالوا: بغ داد أي إن هذا الربح الذي ربحناه من عطيةالملك، وقيل إنما سميت مدينة السلام لأن السلام هو الله فأرادوا مدينة الله، وأما طولها فذكر بطلميوس في كتاب الملحمة المنسوب إليه أن مدينة بغداد طولها خمس وسبعون درجة وعرضها أربع وثلاثون درجة داخلة في الإقليم الرابع، وقال أبو عون وغيره: إنها في الإقليم الثالث، قال: طالعها السماك الأعزل، بيت حياتها القوس، لها شركة في الكف الخضيب ولها أربعة أجزاء من سرّة الجوزاء تحت عشر درج من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي عاشرها مثلها من الحمل عاقبتها مثلها من الميزان، قلت أنا: ولا شك أن بغداد أحدثت بعد بطليموس بأكثر من ألف سنة ولكني أظنّ أن مفسري كلامه قاسوا وقالوا، وقال صاحب الزيج: طول بغداد سبعون درجة، وعرضها ثلاث وثلاثون درجة وثلث، وتعديل نهارها ست عشرة درجة وثلثا درجة، وأطول نهارها أربع عشرة ساعة وخمس دقائق، وغاية ارتفاع الشمس بها ثمانون درجة وثلث، وظلّ الظهر بها درجتان، وظل العصر أربع عشرة درجة، وسمت القبلة ثلاث عشرة درجة ونصف، وجهها عن مكة مائة وسبع عشرة درجة، في الوجود ثلاثمائة درجة، هذا كله نقلته من كتب المنجمين ولا أعرفه ولا هو من صناعتي، وقال أحمد ابن حنبل: بغداد من الصّراة إلى باب التبن، وهو مشهد موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد ابن الإمام علي ابن أبي طالب، ثم زيد فيها حتى بلغت كلواذى والمخرّم وقطربّل، قال أهل السير: ولما أهلك الله مهران بأرض الحيرة ومن كان معه من العجم استمكن المسلمون من الغارة على السواد وانتقضت مسالح الفرس وتشتت أمرهم واجترأ المسلمون عليهم وشنوا الغارات ما بين سورا وكسكر والصراة والفلاليج والأستانات، قال أهل الحيرة للمثنى: إن بالقرب منا قرية تقوم فيها سوق عظيمة في كل شهر مرة فيأتيها تجار فارس والأهواز وسائر البلاد، يقال لها بغداد، وكذا كانت إذ ذاك، فأخذ المثنى على البرّ حتى أتى الأنبار، فتحصّن فيها أهلها منه، فأرسل إلى سفروخ مرزبانها ليسير إليه فيكلّمه بما يريد وجعل له الأمان، فعبر المرزبان إليه، فخلا به المثنى وقال له: أريد أن أغير على سوق بغداد وأريد أن تبعث معي أدلّاء فيدلّوني الطريق وتعقد لي الجسر لأعبر عليه الفرات، ففعل المرزبان ذلك، وقد كان قطع الجسر قبل ذلك لئلا تعبر العرب عليه، فعبر المثنى مع أصحابه وبعث معه المرزبان الأدلاء، فسار حتى وافى السوق صحوة، فهرب الناس وتركوا أموالهم فأخذ المسلمون من الذهب والفضة وسائر الأمتعة ما قدروا على حمله ثم رجعوا إلى الأنبار، ووافى معسكره غانما موفورا، وذلك في سنة 13 للهجرة، فهذا خبر بغداد قبل أن يمصّرها المنصور، لم يبلغني غير ذلك. في بدء عمارة بغداد، كان أول من مصّرها وجعلها مدينة المنصور بالله أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ثاني الخلفاء، وانتقل إليها من الهاشمية، وهي مدينة كان قد اختطّها أخوه أبو العباس السّفّاح قرب الكوفة وشرع في عمارتها سنة 145 ونزلها سنة 149، وكان سبب عمارتها أن أهل الكوفة كانوا يفسدون جنده فبلغه ذلك من فعلهم، فانتقل عنهم يرتاد موضعا، وقال ابن عيّاش: بعث المنصور روّادا وهو بالهاشمية يرتادون له موضعا يبني فيه مدينة ويكون الموضع واسطا رافقا بالعامة والجند، فنعت له موضع قريب منبارمّا، وذكر له غذاؤه وطيب هوائه، فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه وبات فيه، فرأى موضعا طيبا فقال لجماعة، منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب المرزباني وعبد الملك بن حميد الكاتب: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: طيب موافق، فقال: صدقتم ولكن لا مرفق فيه للرعية، وقد مررت في طريقي بموضع تجلب إليه الميرة والامتعة في البرّ والبحر وأنا راجع إليه وبائت فيه، فإن اجتمع لي ما أريد من طيب الليل فهو موافق لما أريده لي وللناس، قال: فأتى موضع بغداد وعبر موضع قصر السلام ثم صلى العصر، وذلك في صيف وحرّ شديد، وكان في ذلك الموضع بيعة فبات أطيب مبيت وأقام يومه فلم ير إلا خيرا فقال: هذا موضع صالح للبناء، فإن المادة تأتيه من الفرات ودجلة وجماعة الأنهار، ولا يحمل الجند والرعية إلا مثله، فخطّ البناء وقدّر المدينة ووضع أول لبنة بيده فقال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، ثم قال: ابنوا على بركة الله، وذكر سليمان بن مختار أن المنصور استشار دهقان بغداد، وكانت قرية في المربّعة المعروفة بأبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي، وما زالت داره قائمة على بنائها إلى أن خرب كثير مما يجاورها في البناء، فقال: الذي أراه يا أمير المؤمنين أن تنزل في نفس بغداد، فإنك تصير بين أربعة طساسيج: طسّوجان في الجانب الغربي وطسّوجان في الجانب الشرقي، فاللذان في الغربي قطربل وبادوريا، واللذان في الشرقي نهر بوق وكلواذى، فإن تأخرت عمارة طسوج منها كان الآخر عامرا، وأنت يا أمير المؤمنين على الصّراة ودجلة، تجيئك بالميرة من القرب وفي الفرات من الشام والجزيرة ومصر وتلك البلدان، وتحمل إليك طرائف الهند والسند والصين والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك ميرة أرمينية وأذربيجان وما يتصل بها في تامرّا، وتجيئك ميرة الموصل وديار بكر وربيعة وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر والقنطرة لم يصل إليك عدوك، وأنت قريب من البرّ والبحر والجبل، فأعجب المنصور هذا القول وشرع في البناء، ووجه المنصور في حشر الصّنّاع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط فأحضروا، وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، فجمعهم وتقدم إليهم أن يشرفوا على البناء، وكان ممن حضر الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة الإمام، وكان أول العمل في سنة 145، وأمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين ذراعا، وأن يجعل في البناء جرز القصب مكان الخشب، فلما بلغ السور مقدار قامة اتّصل به خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فقطع البناء حتى فرغ من أمره وأمر أخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن ابن حسن. وعن علي بن يقطين قال: كنت في عسكر أبي جعفر المنصور حين سار إلى الصراة يلتمس موضعا لبناء مدينة، قال: فنزل الدير الذي على الصراة في العتيقة فما زال على دابته ذاهبا جائيا منفردا عن الناس يفكر، قال: وكان في الدير راهب عالم فقال لي: لم يذهب الملك ويجيء؟ قلت: إنه يريد أن يبني مدينة، قال: فما اسمه؟ قلت: عبد الله بن محمد، قال: أبو من؟ قلت: أبو جعفر، قال: هل يلقب بشيء؟ قلت: المنصور، قال: ليس هذا الذي يبنيها، قلت: ولم؟ قال: لأنا قد وجدنا في كتاب عندنا نتوارثه قرنا عن قرن أن الذي يبنيهذا المكان رجل يقال له مقلاص، قال: فركبت من وقتي حتى دخلت على المنصور ودنوت منه، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: خير ألقيه إلى أمير المؤمنين وأريحه من هذا العناء، فقال: قل، قلت: أمير المؤمنين يعلم أن هؤلاء معهم علم، وقد أخبرني راهب هذا الدير بكذا وكذا، فلما ذكرت له مقلاص ضحك واستبشر ونزل عن دابته فسجد وأخذ سوطه وأقبل يذرع به، فقلت في نفسي: لحقه اللجاج، ثم دعا المهندسين من وقته وأمرهم بخط الرماد، فقلت له: أظنّك يا أمير المؤمنين أردت معاندة الراهب وتكذيبه، فقال: لا والله ولكني كنت ملقّبا بمقلاص وما ظننت أن أحدا عرف ذلك غيري، وذاك أننا كنا بناحية السراة في زمان بني أمية على الحال التي تعلم، فكنت أنا ومن كان في مقدار سنّي من عمومتي وإخوتي نتداعى ونتعاشر، فبلغت النوبة إليّ يوما من الأيام وما أملك درهما واحدا فلم أزل أفكر وأعمل الحيلة إلى أن أصبت غزلا لداية كانت لهم، فسرقته ثم وجّهت به فبيع لي واشتري لي بثمنه ما احتجت إليه، وجئت إلى الداية وقلت لها: افعلي كذا واصنعي كذا، قالت: من أين لك ما أرى؟ قلت: اقترضت دراهم من بعض أهلي، ففعلت ما أمرتها به، فلما فرغنا من الأكل وجلسنا للحديث طلبت الداية الغزل فلم تجده فعلمت أني صاحبه، وكان في تلك الناحية لص يقال له مقلاص مشهور بالسرقة، فجاءت إلى باب البيت الذي كنا فيه فدعتني فلم أخرج إليها لعلمي أنها وقفت على ما صنعت، فلما ألحّت وأنا لا أخرج قالت: اخرج يا مقلاص، الناس يتحذّرون من مقلاصهم وأنا مقلاصي معي في البيت، فمزح معي إخوتي وعمومتي بهذا اللقب ساعة ثم لم أسمع به إلا منك الساعة فعلمت أن أمر هذه المدينة يتم على يدي لصحة ما وقفت عليه، ثم وضع أساس المدينة مدوّرا وجعل قصره في وسطها وجعل لها أربعة أبواب وأحكم سورها وفصيلها، فكان القاصد إليها من الشرق يدخل من باب خراسان والقاصد من الحجاز يدخل من باب الكوفة والقاصد من المغرب يدخل من باب الشام والقاصد من فارس والأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين يدخل من باب البصرة. قالوا: فأنفق المنصور على عمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، وقال الخطيب في رواية: إنه أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وذاك أن الأستاذ من الصّنّاع كان يعمل في كل يوم بقيراط إلى خمس حبّات والروزجاري بحبتين إلى ثلاث حبات، وكان الكبش بدرهم والحمل بأربعة دوانيق والتمر ستون رطلا بدرهم، قال الفضل بن دكين: كان ينادى على لحم البقر في جبانة كندة تسعون رطلا بدرهم، ولحم الغنم ستون رطلا بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم، قال: وكان بين كل باب من أبواب المدينة والباب الآخر ميل، وفي كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنان وستون ألف لبنة من اللبن الجعفري، وعن ابن الشّروي قال: هدمنا من السور الذي يلي باب المحوّل قطعة فوجدنا فيها لبنة مكتوبا عليها بمغرة: وزنها مائة وسبعة عشر رطلا، فوزناها فوجدناها كذلك. وكان المنصور كما ذكرنا بنى مدينته مدوّرة وجعل داره وجامعها في وسطها، وبنى القبة الخضراء فوق إيوان، وكان علوّها ثمانين ذراعا، وعلى رأس القبة صنم على صورة فارس في يده رمح، وكان السلطان إذا رأى أن ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات ومدّالرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول عليه الوقت حتى ترد عليه الأخبار بأن خارجيّا قد هجم من تلك الناحية، قلت أنا: هكذا ذكر الخطيب وهو من المستحيل والكذب الفاحش، وإنما يحكى مثل هذا عن سحرة مصر وطلسمات بليناس التي أوهم الأغمار صحتها تطاول الأزمان والتخيل أن المتقدّمين ما كانوا بني آدم، فأما الملة الإسلامية فإنها تجلّ عن مثل هذه الخرافات، فإن من المعلوم أن الحيوان الناطق مكلف الصنائع لهذا التمثال لا يعلم شيئا مما ينسب إلى هذا الجماد ولو كان نبيّا مرسلا، وأيضا لو كان كلما توجهت إلى جهة خرج منها خارجيّ لوجب أن لا يزال خارجيّ يخرج في كل وقت لأنها لا بدّ أن تتوجه إلى وجه من الوجوه، والله أعلم، قال: وسقط رأس هذه القبة سنة 329، وكان يوم مطر عظيم ورعد هائل، وكانت هذه القبة تاج البلد وعلم بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس، وكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة، ونقل المنصور أبوابها من واسط، وهي أبواب الحجّاج، وكان الحجاج أخذها من مدينة بإزاء واسط تعرف بزندورد، يزعمون أنها من بناء سليمان بن داود، عليه السلام، وأقام على باب خراسان بابا جيء به من الشام من عمل الفراعنة وعلى باب الكوفة بابا جيء به من الكوفة من عمل خالد القسري وعمل هو بابا لباب الشام، وهو أضعفها، وكان لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من شيء من الأبواب إلّا راجلا إلا داود بن عليّ عمه، فإنه كان متفرّسا وكان يحمل في محفّة، وكذلك محمد المهدي ابنه، وكانت تكنس الرحاب في كل يوم ويحمل التراب إلى خارج، فقال له عمه عبد الصمد: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب، فلم يأذن له، فقال: يا أمير المؤمنين عدني بعض بغال الرّوايا التي تصل إلى الرّحاب، فقال: يا ربيع بغال الروايا تصل إلى رحابي تتخذ الساعة قنيّ بالساج من باب خراسان حتى تصل إلى قصري، ففعل ومدّ المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة وقناة من نهر كرخايا الآخذ من الفرات وجرّهما إلى مدينته في عقود وثيقة، من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض، تجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها في شيء من الأوقات، ثم أقطع المنصور أصحابه القطائع فعمّروها وسميت بأسمائهم، وقد ذكرت من ذلك ما بلغني في مواضعه حسب ما قضى به ترتيب الحروف، وقد صنّف في بغداد وسعتها وعظم رفعتها وسعة بقعتها وذكر أبو بكر الخطيب في صدر كتابه من ذلك ما فيه كفاية لطالبه. ومن عجيب ذلك ما ذكره أبو سهل بن نوبخت قال: أمرني المنصور لما أراد بناء بغداد بأخذ الطالع، ففعلت فإذا الطالع في الشمس وهي في القوس، فخبّرته بما تدلّ النجوم عليه من طول بقائها وكثرة عمارتها وفقر الناس إلى ما فيها ثم قلت: وأخبرك خلّة أخرى أسرك بها يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قلت: نجد في أدلة النجوم أنه لا يموت بها خليفة أبدا حتف أنفه، قال: فتبسم وقال الحمد لله على ذلك، هذا من فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولذلك يقول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى: أعاينت في طول من الأرض أو عرض، . .. كبغداد من دار بها مسكن الخفضصفا العيش في بغداد واخضرّ عوده، . .. وعيش سواها غير خفض ولا غضّ تطول بها الأعمار، إنّ غذاءها مريء، وبعض الأرض أمرأ من بعض قضى ربّها أن لا يموت خليفة بها، إنه ما شاء في خلقه يقضي تنام بها عين الغريب، ولا ترى غريبا بأرض الشام يطمع في الغمض فإن جزيت بغداد منهم بقرضها، فما أسلفت إلّا الجميل من القرض وإن رميت بالهجر منهم وبالقلى، فما أصبحت أهلا لهجر ولا بغض وكان من أعجب العجب أن المنصور مات وهو حاجّ، والمهدي ابنه خرج إلى نواحي الجبل فمات بما سبذان بموضع يقال له الرّذّ، والهادي ابنه مات بعيساباد قرية أو محلّة بالجانب الشرقي من بغداد، والرشيد مات بطوس، والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي، والمأمون مات بالبذندون من نواحي المصّيصة بالشام، والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر وباقي الخلفاء ماتوا بسامرّا، ثم انتقل الخلفاء إلى التاج من شرقي بغداد كما ذكرناه في التاج، وتعطّلت مدينة المنصور منهم. وفي مدح بغداد قال بعض الفضلاء: بغداد جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الإسلام ومجمع الرافدين وغرّة البلاد وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف، وبها أرباب الغايات في كل فنّ، وآحاد الدهر في كل نوع، وكان أبو إسحاق الزّجّاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وكان أبو الفرج الببغا يقول: هي مدينة السلام بل مدينة الإسلام، فإنّ الدولة النبوية والخلافة الإسلامية بها عشّشتا وفرّختا وضربتا بعروقهما وبسقتا بفروعهما، وإنّ هواءها أغذى من كل هواء وماءها أعذب من كل ماء، وإنّ نسيمها أرقّ من كل نسيم، وهي من الإقليم الاعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة، ولم تزل بغداد موطن الأكاسرة في سالف الأزمان ومنزل الخلفاء في دولة الإسلام، وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد، فإن فطن بخواصّها وتنبّه على محاسنها وأثنى عليها جعل ذلك مقدّمة فضله وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحظ، فإن وجد أثرا لمطالعة كتبه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وبعض القيام بمسائله قضى له بأنه غرّة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذامّا لبغداد غفلا عما يحب أن يكون موسوما به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ لم ينفعه بعد ذلك شيء من المحاسن، ولما رجع الصاحب عن بغداد سأله ابن العميد عنها، فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد، فجعلها مثلا في الغاية في الفضل، وقال ابن زريق الكاتب الكوفي: سافرت أبغي لبغداد وساكنها مثلا، قد اخترت شيئا دونه الياس هيهات بغداد، والدنيا بأجمعها عندي، وسكان بغداد هم الناس وقال آخر: بغداد يا دار الملوك ومجتنى. .. صوف المنى، يا مستقرّ المنابرويا جنّة الدنيا ويا مجتنى الغنى، . .. ومنبسط الآمال عند المتاجر وقال أبو يعلى محمد بن الهبّارية: سمعت الشيخ الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآباذي يقول: من دخل بغداد وهو ذو عقل صحيح وطبع معتدل مات بها أو بحسرتها، وقال عمارة بن عقيل ابن بلال بن جرير: ما مثل بغداد في الدنيا ولا الدين، على تقلّبها في كلّ ما حين ما بين قطربّل فالكرخ نرجسة تندى، ومنبت خيريّ ونسرين تحيا النفوس بريّاها، إذا نفحت، وخرّشت بين أوراق الرّياحين سقيا لتلك القصور الشاهقات وما تخفي من البقر الإنسيّة العين تستنّ دجلة فيما بينها، فترى دهم السّفين تعالى كالبراذين مناظر ذات أبواب مفتّحة، أنيقة بزخاريف وتزيين فيها القصور التي تهوي، بأجنحة، بالزائرين إلى القوم المزورين من كلّ حرّاقة تعلو فقارتها، قصر من الساج عال ذو أساطين وقدم عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس إلى بغداد فرأى كثرة الناس بها فقال: ما مررت بطريق من طرق هذه المدينة إلّا ظننت أن الناس قد نودي فيهم، ووجد على بعض الأميال بطريق مكة مكتوبا: أيا بغداد يا أسفي عليك! متى يقضى الرجوع لنا إليك؟ قنعنا سالمين بكلّ خير، وينعم عيشنا في جانبيك ووجد على حائط بجزيرة قبرص مكتوبا: فهل نحو بغداد مزار، فيلتقي مشوق ويحظى بالزيارة زائر إلى الله أشكو، لا إلى الناس، إنه على كشف ما ألقى من الهمّ قادر وكان القاضي أبو محمد عبد الوهّاب بن علي بن نصر المالكي قد نبا به المقام ببغداد فرحل إلى مصر، فخرج البغداديون يودّعونه وجعلوا يتوجعون لفراقه، فقال: والله لو وجدت عندكم في كل يوم مدّا من الباقلّى ما فارقتكم، ثم قال: سلام على بغداد من كلّ منزل، وحقّ لها منّي السلام المضاعف فو الله ما فارقتها عن قلى لها، وإني بشطّي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت عليّ برحبها، ولم تكن الأرزاق فيها تساعف وكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه، وأخلاقه تنأى به وتخالف ولما حج الرشيد وبلغ زرود التفت إلى ناحية العراق وقال: أقول وقد جزنا زرود عشيّة، . .. وكادت مطايانا تجوز بنا نجداعلى أهل بغداد السلام، فإنني. .. أزيد بسيري عن ديارهم بعدا وقال ابن مجاهد المقري: رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: دعني مما فعل الله بي، من أقام ببغداد على السّنّة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة، وعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه: أيا يونس دخلت بغداد؟ فقلت: لا، فقال: أيا يونس ما رأيت الدنيا ولا الناس، وقال طاهر بن المظفّر بن طاهر الخازن: سقى الله صوب الغاديات محلّة ببغداد، بين الخلد والكرخ والجسر هي البلدة الحسناء، خصّت لأهلها بأشياء لم يجمعن مذ كنّ في مصر هواء رقيق في اعتدال وصحّة، وماء له طعم ألذّ من الخمر ودجلتها شطّان قد نظما لنا بتاج إلى تاج، وقصر إلى قصر ثراها كمسك، والمياه كفضّة، وحصباؤها مثل اليواقيت والدّر قال أبو بكر الخطيب: أنشدني أبو محمد الباقي قول الشاعر: دخلنا كارهين لها، فلما ألفناها خرجنا مكرهينا فقال يوشك هذا أن يكون في بغداد، قيل وأنشد لنفسه في المعنى وضمنه البيت: على بغداد معدن كلّ طيب، . .. ومغنى نزهة المتنزّهينا: سلام كلما جرحت بلحظ عيون المشتهين المشتهينا دخلنا كارهين لها، فلما ألفناها خرجنا مكرهينا وما حبّ الديار بنا، ولكن أمرّ العيش فرقة من هوينا قال محمد بن عليّ بن حبيب الماوردي: كتب إليّ أخي من البصرة وأنا ببغداد: طيب الهواء ببغداد يشوّقني قدما إليها، وإن عاقت معاذير وكيف صبري عنها، بعد ما جمعت طيب الهواءين ممدود ومقصور؟ وقلّد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر اليمن، فلما أراد الخروج قال: أيرحل آلف ويقيم إلف، وتحيا لوعة ويموت قصف؟ على بغداد دار اللهو منّي سلام ما سجا للعين طرف وما فارقتها لقلى، ولكن تناولني من الحدثان صرف ألا روح ألا فرج قريب، ألا جار من الحدثان كهف لعلّ زماننا سيعود يوما، فيرجع آلف ويسر إلف فبلغ الوزير هذا الشعر فأعفاه، وقال شاعر يتشوق بغداد: ولما تجاوزت المدائن سائرا، . .. وأيقنت يا بغداد أني على بعدعلمت بأنّ الله بالغ أمره، وأن قضاء الله ينفذ في العبد وقلت، وقلبي فيه ما فيه من جوى، ودمعي جار كالجمان على خدّي: ترى الله يا بغداد يجمع بيننا فألقى الذي خلّفت فيك على العهد؟ وقال محمد بن عليّ بن خلف النيرماني: فدى لك يا بغداد كل مدينة من الأرض، حتى خطّتي ودياريا فقد طفت في شرق البلاد وغربها، وسيّرت خيلي بينها وركابيا فلم أر فيها مثل بغداد منزلا، ولم أر فيها مثل دجلة واديا ولا مثل أهليها أرقّ شمائلا، وأعذب ألفاظا، وأحلى معانيا وقائلة: لو كان ودّك صادقا. .. لبغداد لم ترحل، فقلت جوابيا: يقيم الرجال الموسرون بأرضهم، وترمي النوى بالمقترين المراميا في ذمّ بغداد قد ذكره جماعة من أهل الورع والصلاح والزهّاد والعبّاد، ووردت فيها أحاديث خبيثة، وعلّتهم في الكراهية ما عاينوه بها من الفجور والظلم والعسف، وكان الناس وقت كراهيتهم للمقام ببغداد غير ناس زماننا، فأما أهل عصرنا فأجلس خيارهم في الحشّ وأعطهم فلسا فما يبالون بعد تحصيل الحطام أين كان المقام، وقد ذكر الحافظ أبو بكر أحمد بن عليّ من ذلك قدرا كافيا، وكان بعض الصالحين إذا ذكرت عنده بغداد يتمثل: قل لمن أظهر التنسّك في النا. .. س وأمسى يعدّ في الزّهّاد: الزم الثغر والتواضع فيه، ليس بغداد منزل العبّاد إن بغداد للملوك محلّ، ومناخ للقارئ الصياد ومن شائع الشعر في ذلك: بغداد أرض لأهل المال طيّبة، وللمفاليس دار الضّنك والضيق أصبحت فيها مضاعا بين أظهرهم، كأنني مصحف في بيت زنديق ويروى للطاهر بن الحسين قال: زعم الناس أن ليلك يا بغ داد ليل يطيب فيه النسيم ولعمري ما ذاك إلّا لأن خا لفها، بالنهار، منك السّموم وقليل الرّخاء يتّبع الش دة، عند الأنام، خطب عظيم وكتب عبد الله بن المعتز إلى صديق له يمدح سرّ من رأى ويصف خرابها ويذم بغداد: كتبت من بلدة قد أنهض الله سكانها وأقعد حيطانها، فشاهد اليأس فيها ينطق وحبل الرجاء فيها يقصر، فكأن عمرانها يطوى وخرابها ينشر، وقد تمزقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حقّ جوار، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا، على أنها وإن جفيت معشوقة السّكنى، وحبيبة المثوى، كوكبها يقظان، وجوّها عريان، وحصباؤها جوهر، ونسيمها معطّر، وترابها أذفر، ويومها غداة، وليلها سحر، وطعامها هنيء، وشرابها مريء، لا كبلدتكم الوسخة السماء، الومدة الماء والهواء، جوها غبار، وأرضها خبار، وماؤها طين، وترابها سرجين، وحيطانها نزوز، وتشرينها تموز، فكم من شمسها من محترق، وفي ظلّها من عرق، صيقة الديار، وسيئة الجوار، أهلها ذئاب، وكلامهم سباب، وسائلهم محروم، وما لهم مكتوم، ولا يجوز إنفاقه، ولا يحل خناقه، حشوشهم مسايل، وطرقهم مزابل، وحيطانهم أخصاص، وبيوتهم أقفاص، ولكل مكروه أجل، وللبقاع دول، والدهر يسير بالمقيم، ويمزج البؤس بالنعيم، وله من قصيدة: كيف نومي وقد حللت ببغ داد، مقيما في أرضها، لا أريم ببلاد فيها الركايا، علي هن أكاليل من بعوض تحوم جوها في الشتاء والصيف دخّا ن كثيف، وماؤها محموم ويح دار الملك التي تنفح المس ك، إذا ما جرى عليه النسيم كيف قد أقفرت وحاربها الدّه ر، وعين الحياة فيها البوم نحن كنا سكانها، فانقضى ذا لك عنا، وأي شيء يدوم وقال أيضا: أطال الهمّ في بغداد ليلي، وقد يشقى المسافر أو يفوز ظللت بها، على رغمي، مقيما كعنّين تعانقه عجوز وقال محمد بن أحمد بن شميعة البغدادي شاعر عصري فيها: ودّ أهل الزوراء زور، فلا تغترر بالوداد من ساكنيها هي دار السلام حسب، فلا يط مع منها، إلّا بما قيل فيها وكان المعتصم قد سأل أبا العيناء عن بغداد وكان سيّء الرأي فيها، فقال: هي يا أمير المؤمنين كما قال عمارة بن عقيل: ما أنت يا بغداد إلّا سلح، إذا اعتراك مطر أو نفح، وإن جففت فتراب برح وكما قال آخر: هل الله من بغداد، يا صاح، مخرجي، فأصبح لا تبدو لعيني قصورها وميدانها المذري علينا ترابها إذا شحجت أبغالها وحميرها وقال آخر: أذمّ بغداد والمقام بها، من بعد ما خبرة وتجريب ما عند سكّانها لمختبط خير، ولا فرجة لمكروب يحتاج باغي المقام بينهم. .. إلى ثلاث من بعد تثريب: كنوز قارون أن تكون له، . .. وعمر نوح وصبر أيوبقوم مواعيدهم مزخرفة. .. بزخرف القول والأكاذيب خلّوا سبيل العلى لغيرهم، ونافسوا في الفسوق والحوب وقال بعض الأعراب: لقد طال في بغداد ليلي، ومن يبت ببغداد يصبح ليله غير راقد بلاد، إذا ولّى النهار، تنافرت براغيثها من بين مثنى وواحد ديازجة شهب البطون، كأنها بغال بريد أرسلت في مذاود وقرأت بخط عبيد الله بن أحمد بن جخجخ قال أبو العالية: ترحّل فما بغداد دار إقامة، ولا عند من يرجى ببغداد طائل محلّ ملوك سمتهم في أديمهم، فكلهم من حلية المجد عاطل سوى معشر جلّوا، وجلّ قليلهم يضاف إلى بذل النّدى، وهو باخل ولا غروان شلّت يد الجود والندى وقلّ سماح من رجال ونائل إذا غطمط البحر الغطامط ماؤه فليس عجيبا أن تفيض الجداول وقال آخر: كفى حزنا، والحمد لله أنّني ببغداد قد أعيت عليّ مذاهبي أصاحب قوما لا ألذّ صحابهم، وآلف قوما لست فيهم براغب ولم أثو في بغداد حبّا لأهلها، ولا أنّ فيها مستفادا لطالب سأرحل عنها قاليا لسراتها، وأتركها ترك الملول المجانب فإن ألجأتني الحادثات إليهم فأير حمار في حرامّ النوائب وقال بعضهم يمدح بغداد ويذمّ أهلها: سقيا لبغداد ورعيا لها، ولا سقى صوب الحيا أهلها يا عجبا من سفل مثلهم، كيف أبيحوا جنّة مثلها وقال آخر: اخلع ببغداد العذارا، ودع التنسّك والوقارا فلقد بليت بعصبة ما إن يرون العار عارا لا مسلمين ولا يهو د ولا مجوس ولا نصارى وقدم بعض الهجريّين بغداد فاستوبأها وقال: أرى الريف يدنو كل يوم وليلة، وأزداد من نجد وساكنه بعدا ألا إن بغدادا بلاد بغيضة إليّ، وإن أمست معيشتها رغدا بلاد ترى الأرواح فيها مريضة، وتزداد نتنا حين تمطر أو تندى وقال أعرابيّ مثل ذلك: ألا يا غراب البين ما لك ثاويا. .. ببغداد لا تمضي، وأنت صحيح؟ألا إنما بغداد دار بليّة، . .. هل الله من سجن البلاد مريح؟ وقال أبو يعلى بن الهبّارية أنشدني جدّي أبو الفضل محمد بن محمد لنفسه: إذا سقى الله أرضا صوب غادية، فلا سقى الله غيثا أرض بغداد أرض بها الحرّ معدوم، كأنّ لها. .. قد قيل في مثل: لا حرّ بالوادي بل كلّ ما شئت من علق وزانية ومستحدّ وصفعان وقوّاد وقال أيضا أبو يعلى بن الهبارية: أنشدني معدان التغلبي لنفسه: بغداد دار، طيبها آخذ نسيمه مني بأنفاسي تصلح للموسر لا لامرئ يبيت في فقر وإفلاس لو حلّها قارون ربّ الغنى، أصبح ذا همّ ووسواس هي التي توعد، لكنها عاجلة للطاعم الكاسي حور وولدان ومن كلّ ما تطلبه فيها، سوى الناس

[معجم البلدان]

بغداد

أم الدنيا وسيدة البلاد وجنة الأرض ومدينة السلام، وقبة الإسلام ومجمع الرافدين، ومعدن الظرائف ومنشأ أرباب الغايات، هواؤها ألطف من كل هواء، وماؤها أعذب من كل ماء، وتربتها أطيب من كل تربة، ونسيمهاأرق من كل نسيم! بناها المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ولما أراد المنصور بناء مدينة بعث رواداً يرتاد موضعاً، قال له: أرى يا أمير المؤمنين أن تبنى على شاطيء دجلة، تجلب إليها الميرة والأمتعة من البر والبحر، وتأتيها المادة من دجلة والفرات، وتحمل إليها ظرائف الهند والصين، وتأتيها ميرة أرمينية وآذربيجان وديار بكر وربيعة، لا يحمل الجند الكثير إلا مثل هذا الموضع. فأعجب المنصور قوله وأمر المنجمين، وفيهم نوبخت، باختيار وقت للبناء فاختاروا طالع القوس الدرجة التي كانت الشمس فيها، فاتفقوا على أن هذا الطالع مما يدل على كثرة العمارة وطول البقاء، واجتماع الناس فيها وسلامتهم عن الأعداء. فاستحسن المنصور ذلك ثم قال نوبخت: وخلة أخرى يا أمير المؤمنين. قال: وما هي؟ قال: لا يتفق بها موت خليفة! فتبسم المنصور وقال: الحمد لله على ذلك. وكان كما قال، فإن المنصور مات حاجاً، والمهدي مات بماسبذان، والهادي بعيساباد، والرشيد بطوس، والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي، والمأمون بطرسوس، والمعتصم والواثق والمتوكل والمستنصر بسامرا. ثم انتقل الخلفاء إلى التاج وتعطلت مدينة المنصور من الخلفاء؛ قال عمارة بن عقيل: أعاينت في طولٍ من الأرض أو عرض كبغداد من دارٍ بها مسكن الخفض؟ صفا العيش في بغداد واخضّر عوده وعيش سواها غير خفضٍ ولا غضّ قضى ربّها أن لا يموت خليفةٌ بها، إنّه ما شاء في خلقه يقضي ذكر أبو بكر الخطيب أن المنصور بنى مدينة بالجانب الغربي، ووضع اللبنة الأولى بيده، وجعل داره وجامعها في وسطها، وبنى فيها قبة فوق ايوان كان علوها ثمانين ذراعاً. والقبة خضراء على رأسها تمثال فارس بيده رمح، فإذا رأوا ذلك التمثال استقبل بعض الجهات ومد رمحه نحوها، فعلموا أن بعض الخوارجيظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حتى يأتي الخبر ان خارجياً ظهر من تلك الجهة، وقد سقط رأس هذه القبة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة في يوم مطير ريح، وكانت تلك القبة علم بغداد وتاج البلد، ومأثرة بني العباس. وكان بجانبها الشرقي محلة تسمى باب الطاق، كان بها سوق الطير فاعتقدوا ان من تعسر عليه شيء من الأمور فاشترى طيراً من باب الطاق وأرسله، سهل عليه ذلك الأمر. وكان عبد الله بن طاهر طال مقامه ببغداد، ولم يحصل له اذن الخليفة، فاجتاز يوماً بباب الطاق فرأى قمرية تنوح، فأمر بشرائها واطلاقها، فامتنع صاحبها أن يبيعها إلا بخمسمائة درهم، فاشتراها وأطلقها وأنشأ يقول: ناحت مطوّقةٌ بباب الطّاق فجرت سوابق دمعي المهراق كانت تغرّد بالأراك وربّما كانت تغرّد في فروع السّاق فرمى الفراق بها العراق فأصبحت بعد الأراك تنوح في الأشواق فجعت بإفراجٍ فأسبل دمعها إنّ الدّموع تبوح بالمشتاق تعس الفراق وتبّ حبل وتينه وسقاه من سمّ الأساود ساقي ماذا أراد بقصده قمريّةً لم تدر ما بغداد في الآفاق بي مثل ما بك يا حمامة فاسألي من فكّ أسرك أن يحلّ وثاقي! هذه صفة المدينة الغربية، والآن لم يبق منها أثر. وبغداد عبارة عن المدينة الشرقية. كان أصلها قصر جعفر بن يحيى البرمكي، والآن هي مدينة عظيمة كثيرة الأهل والخيرات والثمرات. تجبى إليها لطائف الدنيا وظرائف العالم إذ ما من متاع ثمين ولا عرض نفيس إلا ويحمل إليها، فهي مجمع لطيبات الدنيا ومحاسنها، ومعدن لأرباب الغايات وآحاد الدهر في كل علم وصنعة. وبها حريم الخلافة، وعليه سور ابتداؤه من دجلة وانتهاؤه إلى دجلة كشبه الهلال، وله أبواب: باب سوق التمر باب شاهق البناء عال، أغلق من أول أيامالناصر واستمر إغلاقه. ذكر أن المسترشد خرج منه فأصابه ما أصابه فتطيروا به وأغلقوه. وباب النوبي وعنده العتبة التي يقبلها الملوك والرسل إذا قدموا بغداد. وباب العامة وعليه باب عظيم من الحديد نقله المعتصم من عمورية لم ير مصراعان أكبر منهما من الحديد. ومن عجائبها دار الشجرة من أبنية المقتدر بالله، دار فيحاء ذات بساتين مؤنقة، وإنما سميت بذلك لشجرة كانت هناك من الذهب والفضة في وسط بركة كبيرة أمام أبوابها، ولها من الذهب والفضة ثمانية عشر غصناً، ولكل غصن فروع كثيرة مكللة بأنواع الجواهر على شكل الثمار. وعلى أغصانها أنواع الطير من الذهب والفضة، إذا هب الهواء سمعت منها الهدير والصفير. وفي جانب الدار عن يمين البركة تمثال خمسة عشر فارساً، ومثله عن يسار البركة، قد ألبسوا أنواع الحرير المدبج مقلدين بالسيوف، وفي أيديهم المطارد يحركون على خط واحد، فيظن أن كل واحد قاصد إلى صاحبه. ومن مفاخرها المدرسة التي أنشأها المستنصر بالله. لم يبن مثلها قبلها في حسن عمارتها ورفعة بنائها، وطيب موضعها على شاطيء دجلة وأحد جوانبها في الماء. لم يعرف موضع أكثر منها أوقافاً ولا أرفه منها سكاناً. وعلى باب المدرسة ايوان ركب في صدره صندوق الساعات على وضع عجيب، يعرف منه أوقات الصلوات وانقضاء الساعات الزمانية نهاراً وليلاً؛ قال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي: يا أيّها المنصور يا مالكاً برايه صعب اللّيالي يهون! شيّدت لله ورضوانه أشرف بنيانٍ يروق العيون إيوان حسنٍ وصفه مدهشٌ يحار في منظره النّاظرون! تهدي إلى الطّاعات ساعاته النّاس، وبالنّجم هم يهتدون صوّر فيه فلكٌ دائرٌ والشّمس تجري ما لها من سكون دائرةٌ من لازوردٍ حلت. .. نقطة تبرٍ فيه سرٌّ مصونفتلك في الشّكل وهذا معاً. .. كمثل هاءٍ ركّبت وسط نون فهي لإحياء العلى والنّدى دائرةٌ مركزها العالمون وأما أولو الفضل من العلماء والزهاد والعباد والأدباء والشعراء والصناع فلا يعلم عددهم إلا الله. ولنذكر بعض مشاهيرها إن شاء الله. ينسب إليها القاضي أبو يوسف، ذكر أنه كان رآه رجل يهودي وقت الظهيرة يمشي راكباً على بغلة، واليهودي يمشي راجلاً جائعاً ضعيفاً، فقال للقاضي: أليس نبيكم يقول الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟ قال: نعم. قال: فأنت في السجن وأنا في الجنة والحالة هذه! فقال القاضي: نعم يا عدو الله، بالنسبة إلى ما أعد الله لي من الكرامة في الآخرة في السجن، وأنت بالنسبة إلى ما أعد الله لك في الآخرة من العذاب في الجنة! وحكي أن الهادي الخليفة اشترى جارية فاستفتى فقال الفقهاء: لا بد من الاستبراء أو الاعتاق والتزويج. فقال القاضي أبو يوسف: زوجها من بعض أصحابك وهو يطلقها قبل الدخول وحلت لك. وحكي أن الرشيد قال لزبيدة: أنت طالق ثلاثاً إن بت الليلة في مملكتي! فاستفتوا في ذلك فقال أبو يوسف: تبيت في بعض المساجد فإن المساجد لله! فولاه القضاء بجميع مملكته. وحكي أن زبيدة قالت للرشيد: أنت من أهل النار. فقال لها: إن كنت من أهل النار فأنت طالق ثلاثاً! فسألوا عنه فقال: هل يخاف مقام ربه؟ قالوا: نعم. قال: فلا يقع الطلاق لأن الله تعالى يقول: ولمن خاف مقام ربه جنتان. وينسب إليها القاضي يحيى بن أكثم. كان فاضلاً غزير العلم ذكي الطبع، لطيفاً حسن الصورة حلو الكلام، كان المأمون يرى له لا يفارقه، ويضرب به المثل في الذكاء. ولي القضاء وهو ابن سبع عشرة سنة فقال بعض الحاضرين في مجلسالخليفة: أصلح الله القاضي! كم يكون سن عمره؟ فعلم يحيى انه قصد بذلك استحقاره لقلة سنه، فقال: سن عمري مثل سن عمر بن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله، عليه السلام، قضاء مكة! فتعجب الحاضرون من جوابه. وحكي انه كان ناظر الوقوف ببغداد فوقف العميان له وقالوا: يا أبا سعيد اعطنا حقنا! فأمر بحبسهم، فقيل له: لم حبست العميان وقد طلبوا حقهم؟ فقال: هؤلاء يستحقون ابلغ من ذلك، إنهم شبهوني بأبي سعيد اللوطي من مدينة كذا! وكان هذا قصدهم فما فات القاضي ذلك. وحكي انه اجتاز بجمع من مماليك الخليفة صبياناً حساناً فقال لهم: لولا أنتم لكنا مؤمنين. فعرف المأمون ذلك فأمر أن يذهب كل يوم إلى باب داره أربعمائة مملوك حسن الصورة، حتى إذا ركب يمشون في خدمته إلى دار الخلافة ركاباً. وينسب إليها أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل. كان أصله من مرو وجيء به حملاً إلى بغداد فنشأ بها. فلما كان أيام المعتصم وقع في محنة المعتزلة، جمع المعتصم بينه وبين المعتزلة وكبيرهم القاضي أبو داود. قالوا: ان القرآن مخلوق! قال لهم أحمد: ما الدليل على ذلك؟ قالوا: قوله تعالى: وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث. فقال لهم أحمد: المراد من الذكر ههنا الذكر عند قوله تعالى: ص والقرآن ذي الذكر. فالذكر مضاف إلى القرآن فيكون غير القرآن، وههنا مطلق وفي ص مقيد، فيجب حمل المطلق على المقيد. فانقطعت حجتهم، فقال المعتصم لأبي داود: ما تقول في هذا؟ فقال القاضي: هذا ضال مضل يجب تأديبه! وعن ميمون بن الإصبع قال: كنت حاضراً عند محنة أحمد، فلما ضرب سوطاً قال: بسم الله، فلما ضرب الثاني قال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فلما ضرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال: لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا! وعن محمد بن إسماعيل قال: سمعت شاباً يقول: ضربت لأحمد ثمانين سوطاً لو ضربت فيلاً لهدته فجرى دمه تحت الخشب! ثم أمر بحبسه فانتشر ذكر ذلك واستقبح من الخليفة، وورد كتاب المأمون من طرسوس يأمر بإشخاص أحمد. فدعا المعتصم عند ذلك أحمد وقال للناس: أتعرفون هذا الرجل؟ قالوا: نعم هو أحمد بن حنبل. قال: انظروا إليه ما به كسر ولا هشم. وسلمه إليهم. وحكى صالح بن أحمد قال: دخلت على أبي وبين يديه كتاب كتب إليه: بلغني أبا عبد الله ما أنت فيه من الضيق، وما عليك من الدين، وقد بعثت إليك أربعة آلاف درهم على يد فلان، لا من زماة ولا من صدقة وإنما هي من إرث أبي! فقال أحمد: قل لصاحب هذا الكتاب: أما الدين فصاحبه لا يرهقنا ونحن نعافيه، والعيال في نعمة من الله. قال: فذهبت إلى الرجل وقلت له ما قاله أبي، والله يعلم ما نحن فيه من الضيق. فلما مضت سنة قال: لو قبلناها لذهبت! وحكى أحمد بن حرار قال: كانت أمي زمنةً عشرين سنة فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل وسله أن يدعو الله لي. فذهبت ودققت الباب فقالوا: من؟ قلت: رجل من ذاك الجانب، وسألتني أمي الزمنة ان أسألك أن تدعو الله لها. فسمعت قائلاً يقول: نحن أحوج إلى من يدعو الله لنا! فوليت منصرفاً فخرجت عجوز من داره وقالت: أنت الذي كلمت أبا عبد الله؟ قلت: نعم. قالت: تركته يدعو الله لها. فجئت إلى بيتي ودققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي وقالت: قد وهب الله لي العافية. وذكروا أن أحمد بن حنبل جعله المعتصم في حل يوم قتل بابك الخرمي أو يوم فتح عمورية. وتوفي أحمد سنة إحدى وأربعين ومائتين عن تسع وسبعين سنة. وحكى أبو بكر المروزي قال: رأيت أحمد بن حنبل بعد موته في المنام في روضة، وعليه حلتان خضراوان وعلى رأسه تاج من نور، وهو يمشي مشياًلم أكن أعرفه. فقلت: يا أحمد ما هذه المشية؟ قال: هذه مشية الخدام في دار السلام! فقلت: ما هذا التاج الذي أراه فوق رأسك؟ فقال: ان ربي أوقفني وحاسبني حساباً يسيراً، وحباني وقربني وأباحني النظر وتوجني بهذا التاج، وقال لي: يا أحمد هذا تاج الوقار توجتك به كما قلت القرآن كلامي غير مخلوق. وينسب إليها أبو علي الحسين بن صالح بن خيران. كان عالماً شافعي المذهب جامعاً بين العلم والعمل والورع. طلبه علي بن عيسى وزير المقتدر لتوليته القضاء، فأبى وهرب فختم بابه بضعة عشر يوماً، قال أبو عبد الله بن الحسن العسكري: كنت صغيراً وعبرت مع أبي على باب أبي علي بن خيران، وقد وكل به الوزير علي بن عيسى، وشاهدت الموكلين على بابه فقال لي أبي: يا بني ابصر هذا حتى تتحدث إن عشت أن إنساناً فعل به هذا فامتنع عن القضاء. ثم إن الوزير عفا عنه وقال: ما أردنا بالشيخ أبي علي إلا خيراً، وأردنا أن نعلم الناس أن في ملكنا رجلاً يعرض عليه قضاء الشرق والغرب وهو لا يقبل. توفي ابن خيران في حدود عشرين وثلاثمائة. وينسب إليها أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. كان عالماً بعلم التفسير والحديث والفقه والأدب والوعظ، وله تصانيف كثيرة في فنون العلوم. وكان أيضاً ظريفاً سئل وهو على المنبر: أبو بكر أفضل أم علي؟ فقال: الذي كانت ابنته تحته! فقالت السنية: فضل أبا بكر! وقالت الشيعة: فضل علياً! وكانت له جارية حظية عنده فمرضت مرضاً شديداً فقال وهو على المنبر: يا إلهي يا إلهي ما لنا شيء إلا هي، قد رمتني بالدواهي والدواهي والدواهي: ونقل أنهم كتبوا على رقعة إليه وهو على المنبر: إن ههنا امرأة بها داء الابنة والعياذ بالله تعالى فماذا تصنع بها؟ فقال: يقولون ليلى في العراق مريضةٌ فيا ليتني كنت الطّبيب المداويا توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة.وينسب إليها الوزير علي بن عيسى وزير المقتدر ووزير ابنه المطيع. ركب يوم الموسم كما كان الوزراء يركبون في موكب عظيم، فرآه جمع من الغرباء قالوا: من هذا؟ وكانت امرأة عجوز تمشي على الطريق قالت: كم تقولون من هذا؟ هذا واحد سقط من عين الله تعالى، فابتلاه الله بهذا كما ترونه! فسمع هذا القول علي بن عيسى، فرجع إلى بيته واستعفى من الوزارة وجاور مكة إلى أن مات. وينسب إليها أبو نصر بشر بن الحرث الحافي. ذكر أيوب العطار انه قال له بشر: ألا أحدثك عن بدو أمري؟ بينا أنا أمشي إذ رأيت قرطاساً على وجه الأرض عليه اسم الله تعالى، فأخذته وكنت لا أملك إلا درهماً واحداً اشتريت به الماورد والمسك، غسلت القرطاس بالماورد وطيبته بالمسك ثم رجعت إلى منزلي ونمت، فأتاني آت يقول: طيبت اسمي لأطيبن ذكرك وطهرته لأطهرن قلبك! وحكت زبيدة أخت بشر أن بشراً دخل علي ليلةً من الليالي، فوضع إحدى رجليه داخل الدار والأخرى خارجها وهو كذلك إلى أن أصبح، فقلت له: في ماذا كنت تفكر؟ قال: في بشر اليهودي وبشر النصراني وبشر المجوسي! ونفسي ما الذي سبق مني خصتني الله تعالى دونهم؟ فتفكرت في تفضيله وحمدته على أن جعلني من خاصته وألبسني أحبائه. وحكي أن بشراً الحافي دعي إلى دعوة، فلما وضع الطعام بين يديه أراد أن يمد يده إليه فما امتدت حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال بعض الحاضرين الذي كان يعرف بشراً: ما كان لصاحب الدعوة حاجة إلى إحضار من أظهر أن طعامه ذو شبهة. وحكي أن أحمد بن حنبل سئل عن مسألة في الورع فقال: لا يحل لي أن أتكلم في الورع وأنا آكل من غلة بغداد! لو كان بشر بن الحرث حاضراً لأجابك فإنه لا يأكل من غلة بغداد ولا من طعام السواد! توفي سنة تسع وعشرينومائتين عن خمس وسبعين سنة. وحكى الحسن بن مروان ال: رأيت بشراً الحافي في المنام بعد موته فقلت له: أبا نصر ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ولكل من تبع جنازتي! وكانت جنازته قد رفعت أول النهار، فما وصل إلى القبر إلا وقت العشاء لكثرة الخلق. وقال لي خزيمة: رأيت أحمد بن حنبل في المنام فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب! قلت: فما فعل الله ببشر؟ قال: بخ بخ! من مثل بشر تركته بين يدي الخليل وبين يديه مائدة الطعام، والخليل مقبل عليه وهو يقول له: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم ينعم! وقال غيره: رأيت بشراً الحافي في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وقال يا بشر أما استجبت مني وكنت تخافني كل ذلك الخوف؟ ورآه غيره فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: قال لي يا بشر لقد توفيتك يوم توفيتك وما على وجه الأرض أحب إلي منك! وينسب إليها أبو عبد الله الحرث بن أسد المحاسبي. كان عديم النظير في زمانه علماً وورعاً وحالاً. كان يقول: ثلاثة أشياء عزيزة: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الخلق مع الديانة، وحسن الإجابة مع الأمانة، مات أبوه أسد المحاسبي وخلف من المال ألوفاً ما أخذ الحرث منه حبة، وكان محتاجاً إلى دانق، وذاك لأن أباه كان رافضياً. فقال الحرث: أهل ملتين لا يتوارثان! وحكى الجنيد: ان المحاسي اجتاز بي يوماً فرأيت أثر الجوع في وجهه، فقلت: يا عم لو دخلت علينا ساعةً! فدخل فعمدت إلى بيت عمي، وكان عندهم أطعمة فاخرة، فجئت بأنواع من الطعام ووضعته بين يديه. فمد يده وأخذ لقمة رفعها إلى فيه يلوكها ولا يزدردها، ثم قام سريعاً ورمى اللقمة في الدهليز وخرج ما كلمني. فلما كان الغد قلت: يا عم سررتني ثم نغصت علي! فقال: يا بني أما الفاقة فكانت شديدة، وقد اجتهدت أن أنال من الطعام الذي جعلته بين يدي، ولكن بيني وبين الله علامة، وهي أن الطعام إذا لم يكنمرضياً يرتفع منه إلى أنفي زفر لا تقبله نفسي! توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وينسب إليها أبو الحسن السري بن المغلس السقطي خال أبي القاسم الجنيد وأستاذه وتلميذ معروف الكرخي. دعا له أستاذه معروف وقال له: أغنى الله قلبك! فوضع الله تعالى فيه الزهد. وقيل: ان امرأة اجتازت بالسري ومعها ظرف فيه شيء فسقط من يدها وانكسر، فأخذ السري شيئاً من دكانه وأعطاها بدل ما ضاع عليها، فرأى معروف ذلك فأعجبه وقال له: ابغض الله إليك الدنيا! فتركها وتزهد كما دعا له. وحكي أن امرأة جاءت إلى السري وقالت: يا أبا الحسن، أنا من جيرانك، وإن ابني أخذه الطائف، واني أخشى أن يؤذيه، فإن رأيت أن تجيء معي أو تبعث إليه أحداً. فقام يصلي وطول صلاته فقالت المرأة: أبا الحسن، الله الله في ولدي! إني أخشى أن يؤذيه السلطان! فسلم وقال لها: أنا في حاجتك. فما برحت حتى جاءت امرأة وقالت لها: لك البشرى فقد خلوا عن ابنك! حكى الجنيد قال: دخلت على السري فإذا هو قاعد يبكي وبين يديه كوز مكسور، قلت: ما سبب البكاء؟ قال: كنت صائماً فجاءت ابنتي بكوز ماء فعلقته حتى يبرد فأفطر عليه، فأخذتني عيني فنمت فرأيت جارية دخلت علي من هذا الباب في غاية الحسن، فقلت لها: لمن أنت؟ قالت: لمن لا يبرد الماء في الكيزان الخضر! وضربت بكمتها الكوز ومرت وهو هذا. قال الجنيد: فمكثت اختلفت إليه مدة طويلة أرى الكوز المكسور بين يديه. وحكي أن السري كل ليلة إذا أفطر ترك لقمة، فإذا أصبح جاءت عصفورة وأكلت تلك اللقمة من يده. فجاءت العصفورة في بعض الأيام ووقعت على شيء من جدار حجرته ثم طارت وما أكلت اللقمة، فحزن الشيخ لذلك وقال: بذنب مني نفرت العصفورة، حتى تذكر انه اشتهى الخبز بالقديد فأكل، فعلم ان انقطاع العصفورة بسبب ذلك، فعهد أن لا يتناول أبداً شيئاً من الادام فعادت العصفورة.وحكي انه اشترى كرلوز بستين ديناراً، وكتب في دستوره ثلاثة دنانير ربحه، فارتفع الربح وصار اللوز بتسعين ديناراً. فأتاه الدلال وأخبره انه بتسعين ديناراً فقال: اني عقدت عقداً بيني وبين الله تعالى اني أبيعه بثلاثة وستين لأجله لست أبيعه بأكثر من ذلك! فقال الدلال: واني عقدت عقداً بيني وبين الله تعالى اني لا أغش مسلماً! توفي السري سنة إحدى وخمسين ومائتين. وينسب إليها أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد. أصله من نهاوند ومولده بغداد. كان أبوه زجاجاً وكان هو خرازاً. صحب الحرث المحاسبي وخاله السري السقطي. وكان الجنيد يفتي على مذهب سفيان الثوري. كان ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة. وعن جعفر الخلدي أن الجنيد عشرين سنة ما كان يأكل في كل أسبوع إلا مرةً. حكى أبو عمرو الزجاجي قال: أردت الحج فدخلت على الجنيد فأعطاني درهماً شددته في مئزري، فلم أنزل منزلاً إلا وجدت رزقاً فما احتجت إلى إخراج الدرهم؛ فلما عدت إلى بغداد ودخلت عليه مد يده وأخذ الدرهم. وحكى بعض الهاربين عن ظالم قال: رأيت الجنيد واقفاً على باب رباطه فقلت: يا شيخ أجرني أجارك الله! فقال: ادخل الرباط. فدخلت فما كان إلا يسيراً حتى وصل الطالب بسيف مسلول فقال للشيخ: أين مشى هذا الهارب؟ فقال الشيخ: دخل الرباط. فمر على وجهه وقال: تريد أن تقويه علي! قال الهارب: قلت للشيخ كيف دللته علي، أليس لو دخل الرباط قتلني؟ فقال الشيخ: وهل نجوت إلا بقولي دخل الرباط؟ فما زال منا الصدق ومنه اللطف. وحكي أن رجلاً أتى الجنيد بخمسمائة دينار، وكان هو جالساً بين أصحابه، وقال له: خذ هذا وأنفق على أصحابك. فقال له: هل لك غيرها؟ قال: نعم لي دنانير كثيرة! قال: فهل تريد غيرها؟ قال: نعم. قال: خذها إليك فأنت أحوج إليها منا. قال أبو محمد الجزري: لما كان مرض موته كنت على رأسه وهو يقرأويسجد، فقلت: أبا قاسم ارفق بنفسك. فقال: يا أبا ممد هوذا صحيفتي تطوى، وأنا أحوج ما كنت الساعة! ولم يزل باكياً وساجداً حتى فارق الدنيا سنة ثمان وستين ومائتين. وقال جعفر الخلدي: رأيت الجنيد بعد موته في المنام قلت: ما فعل الله بك يا أبا قاسم؟ فقال: طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات، ونفدت تلك العلوم وامحت تلك الرسوم، وما بقينا إلا على الركيعات التي كنا نصليها في جوف الليل! وينسب إليها أبو الحسن علي بن محمد المزين الصغير. كان من المشايخ الكبار صاحب الحالات والكرامات. حكى أبو عبد الله بن خفيف قال: سمعت أبا الحسن بمكة يقول: كنت في بادية تبوك فقدمت إلى بئر لأستقي منها، فزلقت رجلي فوقعت في قعر البئر فرأيت في البئر زاوية، فأصلحت موضعاً وجلست عليه لئلا يفسد الماء ما علي من اللباس، وطابت نفسي وسكن قلبي، فبينما أنا قاعد إذا أنا بشخشخة فتأملت فإذا حية عظيمة تنزل علي، فراجعت نفسي فإذا نفسي ساكنة، فنزلت ولفت ذنبها علي وأنا هاديء السر لا أضطرب شيئاً، وأخرجتني من البئر وحلت عني ذنبها، فلا أدري الأرض ابتلعتها أم السماء رفعتها؟ فقمت ومشيت إلى حاجتي. وحكى جعفر الخلدي: عزمت على السفر فودعت أبا الحسن المزين وقلت: زودني شيئاً. فقال: إن ضاع شيء وأردت وجدانه أو أردت أن يجمع الله بينك وبين إنسان فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد. رد إلي ضالتي أو اجمع بيني وبين فلان. قال: فما دعوت في شيء إلا استجبت. توفي بمكة مجاوراً سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. وينسب إليها محمد بن إسماعيل، ويعرف بخير النساج، كان من أقران الثوري. عاش مائة وعشرين سنة. كان أسود عزم الحج. أخذه رجل على باب الحرم وقال: أنت عبدي واسمك خير! فمكث على ذلك مدة يستعمله فينسج الخز ثم عرف أنه ليس عبده ولا اسمه خير، قال له: أنت في حل من جميع ما عملت لك. وفارقه. وحكي أن رجلاً جاءه وقال له: يا شيخ أمس قد بعت الغزل وشددت ثمنه في مئزرك، وأنا جئت خلفك وحللته فقبضت يدي! فضحك الشيخ وأومى إلى يده فحلت وقال: اصرف هذه الدراهم في شيء من حاجتك ولا تعد إلى مثلها. ورئي في المنام بعد موته، قيل له: ما فعل الله بك؟ قال: لا تسألني عن هذا، استرحت من دنياكم الوضرة! وينسب إليها أبو محمد رويم بن أحمد البغدادي. كان من كبار المشايخ وكان عالماً بعلم القراءة والفقه على مذهب داود، وكان يقول: من حكمة الحكيم الشريعة على إخوانه والتضييق على نفسه، لأن حكم الشريعة اتباع العلم وحكم الورع التضييق على نفسه. حكي انه اجتاز وقت الظهيرة بدرب في بغداد وكان عطشان، فاستسقى من بيت فخرجت جارية بكوز ماء فأخذ منها وشرب، فقالت الجارية: صوفي يشرب بالنهار! فما أفطر بعد ذلك. توفي سنة ثلاث وثلاثمائة. وينسب إليها أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز. كان من المشايخ الكبار، صحب ذا النون المصري والسري السقطي وبشراً الحافي، وكان أبو سعيد يمشي بالتوكل. حكى عن نفسه قال: دخلت البادية مرة بغير زاد فأصابني فاقة، فرأيت المرحلة من بعيد فسررت بأن وصلت إلى العمارة ثم فكرت في نفسي اني سلوت، واتكلت على غيري فآليت ألا أدخل المرحلة إلا إذا حملت إليها، فحفرت لنفسي في الرمل حفيرة وواريت جسدي فيها إلى صدري، فلما كان نصف الليل سمعوا صوتاً عالياً: يا أهل المرحلة إن لله ولياً في هذه المرحلة فالحقوه! فجاءت جماعة وأخرجوني وحملوني إلى القرية. وينسب إليها الأستاذ علي بن هلال الخطاط، ويعرف بابن البواب، كانعديم النظير في صنعته، لم يوجد مثله لا قبله ولا بعده، فإن الكتابة العربية كانت بطريقة الكوفية ثم إن الوزير أبا الحسن بن مقلة نقلها إلى طريقته، وطريقته أيضاً حسنة، ثم إن ابن البواب نقل طريقة ابن مقلة إلى طريقته التي عجز عنها جميع الكتاب من حسنها وحلاوتها وقوتها وصفاتها، ولا يعرف لطافة ما فيها إلا كبار الكتاب، فإنه لو كتب حرفاً واحداً مائة مرة لا يخالف شيء منها شيئاً لأنها قلبت في قالب واحد، والناس كلهم بعده على طريقته. توفي سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة. وينسب إليها أبو نواس الحسن بن هانيء. كان أديباً فصيحاً بليغاً شاعراً أوحد زمانه. حكي أن الرشيد قرأ يوماً: ونادى فرعون في قومه قال: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟ فقال: اطلبوا لي شخصاً أنذل ما يكون حتى أوليه مصر. فطلبوا شخصاً مخبلاً كما أراد الخليفة، فولاه مصر وكان اسمه خصيباً. فلما ولي أحسن السيرة وباشر الكرم وانتشر ذكره في البلاد حتى قيل: إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا فأين لنا أرضٌ سواه نزور فتىً يشتري حسن الثّناء بماله ويعلم أنّ الدّائرات تدور فقصده شعراء العراق وأبو نواس معهم وهو صبي، فلما دنوا من مصر قالوا ذات يوم: نحن من أرض العراق وندخل مصر فلا يأخذن علينا المصريون خطأً أو عيباً! ليعرض كل واحد منا شعره حتى نعتبره، فإن كان شيء منها محتاجاً إلى إصلاح أصلحناه. فأظهر كل واحد ما معه على القوم، فقالوا لأبي نواس: هات ما عندك. فقال: عندي هذا: واللّيل ليلٌ والنّهار نهار والبغل بغلٌ والحمار حمار والديك ديكٌ والدّجاجة زوجه. .. والبطّ بطٌّ والهزار هزارفضحكوا وقالوا: هذا أيضاً له وجه للمضاحك! فلما دخلوا على الخصيب وضعوا كرسياً كل واحد من الشعراء يقف عليه ويورد شعره حتى أوردوا جميعهم. بقي أبو نواس فقال بعض الشعراء: ارفعوا الكرسي، ما بقي أحد! فقال أبو نواس: اصبروا حتى أورد بيتاً واحداً ثم بعد ذلك إن أردتم فارفعوا، فأنشأ يقول: أنت الخصيب وهذه مصر فتشابها فكلاهما بحر! فتحير الشعراء وأنشد قصيدة خيراً من قصائدهم كلها. وحكي أن محمداً الأمين أمر بحبسه وأمر أن لا يترك عنده كاغد ودواة، فحبس في دار، فدخل عليه خادم من خدام الخليفة ونام عنده وعليه جبة سوداء، فأخذ قطعة جص من الحائط وكتب على جبة الخادم: ما قدر عبدك بي نواس وهو ليس بذي لباس ولغيره أولى بها إن كنت تعمل بالقياس ولئن قتلت أبا نواسك قيل من هو بو نواس؟ فقرأوا وفرجوا عنه. وذكر أنه رئي في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: قد غفر لي بأبيات قلتها وهي تحت وسادتي؛ فوجدوا تحت وسادته رقعة فيها مكتوب: يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرةً فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلاّ المحسن فمن الذي يرجوه عبدٌ مجرم أدعوك يا ربّي إليك تضرّعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم ما لي إليك وسيلةٌ غير الرّجا وكريم عفوك ثمّ إني مسلم

[آثار البلاد وأخبار العباد]

بغداد

بناها الخليفة المنصور ودعاها مدينة السلام وبدأ في بنائها سنة 145 هـ وانتهى بناؤها سنة 149 هـ. ظلت عاصمة بني العباس حتى آخر خلفائهم وكانت في عهد أوائلهم تزهو على عواصم الدنيا بما جمعت من فنون العلم والأدب وما اجتمع فيها من العلماء والأدباء والشعراء في مدارسها تفتقت العقول عن عبقريات نادرة وفي ربوعها انتلقت لهوات الشعراء عن أعذب الشعر وأرقه وفي إبهاء قصورها ترنمت الأوتار على رقصات الجمال الفتان تتمايل على أشجى الألحان تاريخها طويل في أوله باسم وفيه أخرياته دامع بما لقيت من أهوال المغول وهي اليوم عاصمة الجمهورية العراقية.

[تعريف بالأماكن الواردة في البداية والنهاية لابن كثير]

بغداد (1) :

دار مملكة خلفاء بني العباس، وفيها أربع لغات: بغداد بدالين مهملتين، وبغداذ معجمة (2) الأخيرة، وبغدان بالنون، ومغدان بالميم بدلاً من الباء، وتذكر وتؤنث. قالوا: وبغداذ بالفارسية عطية الصنم لأن بغ صنم وداذ عطية، ولذلك كره الأصمعي هذه التسمية. وكانت قرية من قرى الفرس فأخذها أبو جعفر غصباً فبنى فيها مدينة وقال الجرجاني: باغ بالفارسية هو البستان الكثير الشجر، وداذ: معطي، فمعناه معطي البساتين. قال أبو عثمان النهدي (3) : كنا نسير مع جرير بن عبد الله البجلي حتى انتهى إلى موضع فقال: أي موضع هذا؟ قالوا: قطربل، فحرك دابته ثم قال: سمعت النبي يقول: تبنى مدينة بين دجلة والدجيل والصراة وقطربل يجبى إليها خراج كل أرض وتجمع إليها جبابرة الأرض، وفي رواية يخسف بها. كذا أحسب. وسميت بغداد لأنه أهدي إلى كسرى خصي من المشرق وكان له صنم يقال له بغ فقال الخصي: بغداذي أي أعطاني إلهي يعني الصنم، ولهذا كان المتورعون يكرهون أن يسموا بغداذ بهذا الاسم ويقولون بغداد بالدال المهملة. وكان أبو جعفر المنصور بعث رجالاً سنة خمس وأربعين ومائة يطلبون له موضعاً يبني فيه مدينة فطلبوا فلم يرضوا موضعاً حتى جاء موضعاً بالصراة وقال: هذا موضع أرضاه تأتيه الميرة من الفرات ودجلة والصراة. وكان أبو جعفر هذا وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بنى مدينة بين الكوفة والجزيرة سماها الهاشمية فأقام بها مدة إلى أن عزم على توجيه ابنه محمد المهدي لغزو الصائفة في سنة أربعين ومائة فصار إلى بغداد فوقف بها وقال: ما اسم هذا الموضع؟ فقيل: بغداد، فقال: هذه والله المدينة التي أعلمني أبي محمد بن علي أني أبنيها وأنزلها وينزلها ولدي من بعدي، ولقد غفلت عنها الملوك في الجاهلية والإسلام حتى يتم تدبير الله تعالى وحكمه في وتصح الروايات وتبين الدلالات والعلامات تأتيها الميرة في الدجلة والفرات من واسط والأبلة والأهواز وفارس وعمان واليمامة وما يتصل بذلك، وكذلك ما يأتي من الموصل وديار ربيعة وأذربيجان وأرمينية والرقة والشام والثغور ومصر والمغرب وأصفهان وكور خراسان فالحمد لله الذي ذخرها لي وأغفل عنها كل من تقدمني والله لأبنينها ثم أسكنها أيام حياتي ويسكنها ولدي من بعدي ثم لتكونن أعمر مدينة في الدنيا ثم لأبنين بعدها أربع مدن لا تخرب واحدة منهن أبداً فبناها وبنى الرافقة ولم يستتمها وبنى ملطية والمصيصة والمنصورة، فوجه في حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والعفة والأمانة والمعرفة بالهندسة، وكان فيمن أحضر الحجاج بن ارطاة وأبو حنيفة فكان أول ما ابتدئ ببنيانها في سنة خمس وأربعين ومائة ثم قسم الأرض أربعة أقسام وقلد القيام بكل ربع رجلاً من قواده ورجلاً من مواليه ورجلاً من المهندسين ونظر عند بنائها من أخذ الطالع فكان المشتري في القوس فدلت النجوم على طول ثباتها وكثرة عمارتها وانصباب الدنيا إليها، قال المخبر: ثم قلنا يا أمير المؤمنين وخلة أخرى فيها تدل النجوم على أنه لا يموت فيها خليفة، فتبسم وقال: الحمد لله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولذلك قال بعض مداح المنصور: إن خير القصور قصر السلام. .. إذ به حل سائس الإسلام منزل لا يزال من حل فيه. .. آمناً من حوادث الأيام ولهذا قالوا: نزل بغداد سبعة خلفاء: المنصور والمهدي وموسى الهادي وهارون الرشيد ومحمد الأمين وعبد الله المأمون والمعتصم فلم يمت بها واحد منهم إلا محمد الأمين فإنه قتل خارج باب الأنبار عند بستان طاهر، وانتقل المعتصم سنة ثلاث وعشرين ومائتين إلى سر من رأى، فهذا مصداق ما دلت عليه النجوم. وإنما سميت مدينة السلام لأن دجلة كان يقال لها وادي السلام فقيل لبغداد مدينة السلام. وقيل لأنهم أرادوا مدينة الله واسمها الأول عند الناس الزوراء لانعطافها بانعطاف دجلة، وتسمى القوس زوراء لانعطافها، وكان بعضهم يسميها الصيادة لأنها تصيد قلوب الرجال، وقال رجل من أهل البصرة: مررت ببغداد في السحر فأعجبني كثرة الأذان فيها فهتف بي هاتف: ما الذي يعجبك منها، لقد فجر فيها البارحة سبعون ألفاً. ورأى أبو بكر الهذلي سفيان بن عيينة ببغداد فقال: بأي ذنوبك دخلتها؟ وقيل لرجل: كيف رأيت بغداد؟ فقال: الأرض كلها بادية وبغداد حاضرتها. وقال آخر: لو أن الدنيا خربت وخرج أهل بغداد لعمروها. وكان فراغ المنصور من بنائها ونقل الخزائن إليها والدواوين وبيوت الأموال سنة ست وأربعين ومائة وكان استتمامه لجميع أمر المدينة سنة تسع وأربعين. وقال أحمد بن أبي يعقوب (4) : بغداد وسط العراق، والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ولا في مغاربها سعة وجلالة وكبراً وعمارة وكثرة مياه وصحة هواء، سكنها أهل الأمصار والكور وانتقل إليها من جميع البلدان القاصية والدانية وآثرها جميع أهل الآفاق على أوطانهم، يجري في حافتيها النهران الأعظمان دجلة والفرات، فتأتيها التجارات والميرة براً وبحراً بأيسر السعي حتى تكامل فيها كل متجر من المشرق والمغرب من أرض الإسلام ومن غير أرض الإسلام، فإنه يحمل إليها من الهند والسند والصين والتبت والترك والديلم والخزر والحبشة وسائر البلدان القاصية والدانية حتى يكون بها من التجارات أكثر مما في البلدان التي خرجت التجارات منها إليها، وهي مدينة بني هاشم ودار مملكتهم ومحل سلطانهم، لم يستبد بها أحد قبلهم ولم يسكنها سواهم، وهي وسط الدنيا لأنها من الإقليم الرابع، وهو الإقليم الأوسط الذي يعتدل فيه الهواء في جميع الأزمان والفصول، فيكون الحر شديداً في أيام القيظ، والبرد شديداً في أيام الشتاء ويعتدل الفصلان الربيع والخريف. قال: وباعتدال الهواء وطيب الثرى وعذوبة الماء حسنت أخلاق أهلها ونضرت وجوههم وانفتقت أذهانهم حتى فضلوا الناس في العلم والفهم والنظر والتمييز والتجارات والحذق بكل مناظرة وإحكام كل مهنة وإتقان كل صناعة، فليس عالم أعلم من عالمهم ولا أروى من رواتهم ولا أجدل من متكلمهم ولا أعرب من نحويهم ولا أفصح من قارئهم ولا أمهر من طبيبهم ولا أحذق من مغنيهم ولا ألطف من صانعهم ولا أكتب من كاتبهم ولا أبين من منطيقهم ولا أعبد من عابدهم ولا أورع من زاهدهم ولا أفقه من حاكمهم ولا أخطب من خطيبهم ولا أشعر من شاعرهم ولا أفتك من ماجنهم. وكانت بغداد في أيام الأكاسرة قرية من قرى طسوج بادوريا، ومدينة الأكاسرة إذ ذاك المدائن، من مدن العراق وهي من بغداد على سبعة فراسخ وبها إيوان كسرى انوشروان، ولم تكن بغداد إلا ديراً على مصب الصراة، ولم يكن ببغداد لملك أثر قديم ولا حديث، أما ملك العرب فبدأ أولاً بالحجاز ثم استقر بدمشق من أيام معاوية رضي الله عنه لا يعرف بنو أمية غيرها، فلما جاء أبو العباس السفاح عرف فضل العراق وتوسطها في الدنيا وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله العباس فنزل الكوفة أول مدة ثم انتقل إلى الأنبار فبنى بأعلى شاطئ الفرات الهاشمية وتوفي قبل أن تستتم المدينة ثم كان من بنيان أبي جعفر لبغداد ما كان، ووضع الأساس وضرب اللبن العظام وحفرت الآبار، وعملت القناة التي من نهر كرخايا وهو الآخذ من الفرات وأجريت إلى داخل المدينة للشرب ولضرب اللبن، وجعل للمدينة أربعة أبواب: باب الكوفة وباب البصرة وباب خراسان وباب الشام، بين كل باب منها إلى الآخر خمسة آلاف ذراع بالذراع السوداء، وعلى كل باب منها بابا حديد عظيمان جليلان لا يغلق الباب الواحد منهما ولا يفتحه إلا جماعة رجال، يدخله الفارس بالعلم والرمح الطويل من غير أن يثنيه ولا يميله، وجعل عرض أساس السور تسعين ذراعاً ثم ينخرط حتى يصير في أعلاه خمس وعشرون ذراعاً وارتفاعه ستون ذراعاً مع الشرفات، وحول السور فصيل عظيم بين حائط السور وحائط الفصيل مائة ذراع، وبالفصيل أبرجة عظام وعليه الشرفات المدورة، وحد لهم أن يجعلوا عرض الشوارع خمسين ذراعاً وان يبنوا في جميع الأرباض والدروب من الأسواق والمساجد والحمامات ما يكتفي به أهل كل ناحية ومحلة، وأمرهم أن يجعلوا قطائع القواد والجند ذرعاً معلوماً وللتجار ذرعاً معلوماً يبنونه وينزلونه، ولسوقة الناس وأهل البلدان، وآخر ما بنى القنطرة الجديدة وبها أسواق كثيرة فيها سائر التجارات مادة متصلة ثم ربض وضاح مولى أمير المؤمنين المعروف بقصر وضاح حاجب خزانة السلاح وهناك أسواق، وأكثر من كان فيه في هذا الوقت القريب (5) الوراقون أصحاب الكتب فإن به أكثر من مائة حانوت للوراقين، والكرخ السوق العظمى مادة من قصر وضاح إلى سوق الثلاثاء طولاً مقدار فرسخين، وكل تجارة لها شوارع معلومة في تلك الشوارع حوانيت، وليس يختلط قوم بقوم ولا تجاور تجارة تجارة، وأحصيت الدروب والسكك فكانت ستة آلاف درب وسكة، وأحصيت المساجد فكانت ثلاثين ألف مسجد سوى ما زاد بعد ذلك، وأحصيت الحمامات عشرين ألف حمام سوى ما زاد بعد ذلك، وحفرت القناة التي تأخذ من الفرات في عقود وثيقة من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فتدخل المدينة وتنفذ في أكثر شوارعها، وشوارع الأرباض صيفاً وشتاء قد هندست هندسة لا ينقطع الماء منها في وقت، وقناة أخرى من دجلة على هذا المثال سماها دجيلاً، وجر لأهل الكرخ وما اتصل به نهراً يسمى نهر الدجاج لأن أصحاب الدجاج كانوا يقعدون عنده، ونهر عيسى الأعظم الذي يأخذ من معظم الفرات تدخل فيه السفن العظام التي تأتي من الرقة يحمل فيها الدقيق والتجارات من الشام ومصر، وتصير إلى فرضة عليها الأسواق وحوانيت التجار لا تنقطع صيفاً ولا شتاء، ولهم الآبار التي يدخلها الماء من هذه القنوات، وإنما احتيج إلى هذه القنوات لكبر البلد وسعته، ولها فهم بين دجلة والفرات من جميع النواحي تتدفق عليهم المياه حتى غرسوا النخل الذي حمل من البصرة وغيرها فصار ببغداد أكثر منه بالبصرة والكوفة والسواد، وغرسوا الأشجار فأثمرت ثمرات عجيبة وكثرت البساتين والجنات في أرض بغداد من كل ناحية لطيب المياه وطيب الأرض، وعمل فيها كل ما يعمل في بلد من البلدان، لأن حذاق أهل الصناعات انتقلوا إليها من كل بلد وأتوها من كل أفق ونزعوا إليها من الأداني والأقاصي، فهذا الجانب الغربي من بغداد وهو جانب الكرخ وجانب الأرباض، وفي كل طرف منه مقبرة وقرى متصلة وعمارات مادة، والجانب الشرقي من بغداد نزله المهدي بن المنصور وهو ولي عهد أبيه وابتدأ بناءه سنة ثلاث وأربعين ومائة، واختط المهدي قصوره بالرصافة إلى جانب المسجد الجامع الذي بالرصافة وحفر نهراً يأخذ من النهروان سماه نهر المهدي يجري في هذا الجانب، واقطع المهدي اخوته وقواده بعد من اقطع في الجانب الغربي وهو جانب مدينته، وقسمت القطائع في هذا الجانب، وتنافس الناس في النزول مع المهدي لمحبتهم له ولتوسعته عليهم ولأنه كان أوسع الجانبين أرضاً. وفي الجانب الشرقي الذي نزله المهدي أربعة آلاف درب وسكة وخمسة عشر ألف مسجد سوى ما زاد الناس وخمسة آلاف حمام سوى ما زاد الناس بعد ذلك. قود وثيقة من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فتدخل المدينة وتنفذ في أكثر شوارعها، وشوارع الأرباض صيفاً وشتاء قد هندست هندسة لا ينقطع الماء منها في وقت، وقناة أخرى من دجلة على هذا المثال سماها دجيلاً، وجر لأهل الكرخ وما اتصل به نهراً يسمى نهر الدجاج لأن أصحاب الدجاج كانوا يقعدون عنده، ونهر عيسى الأعظم الذي يأخذ من معظم الفرات تدخل فيه السفن العظام التي تأتي من الرقة يحمل فيها الدقيق والتجارات من الشام ومصر، وتصير إلى فرضة عليها الأسواق وحوانيت التجار لا تنقطع صيفاً ولا شتاء، ولهم الآبار التي يدخلها الماء من هذه القنوات، وإنما احتيج إلى هذه القنوات لكبر البلد وسعته، ولها فهم بين دجلة والفرات من جميع النواحي تتدفق عليهم المياه حتى غرسوا النخل الذي حمل من البصرة وغيرها فصار ببغداد أكثر منه بالبصرة والكوفة والسواد، وغرسوا الأشجار فأثمرت ثمرات عجيبة وكثرت البساتين والجنات في أرض بغداد من كل ناحية لطيب المياه وطيب الأرض، وعمل فيها كل ما يعمل في بلد من البلدان، لأن حذاق أهل الصناعات انتقلوا إليها من كل بلد وأتوها من كل أفق ونزعوا إليها من الأداني والأقاصي، فهذا الجانب الغربي من بغداد وهو جانب الكرخ وجانب الأرباض، وفي كل طرف منه مقبرة وقرى متصلة وعمارات مادة، والجانب الشرقي من بغداد نزله المهدي بن المنصور وهو ولي عهد أبيه وابتدأ بناءه سنة ثلاث وأربعين ومائة، واختط المهدي قصوره بالرصافة إلى جانب المسجد الجامع الذي بالرصافة وحفر نهراً يأخذ من النهروان سماه نهر المهدي يجري في هذا الجانب، واقطع المهدي اخوته وقواده بعد من اقطع في الجانب الغربي وهو جانب مدينته، وقسمت القطائع في هذا الجانب، وتنافس الناس في النزول مع المهدي لمحبتهم له ولتوسعته عليهم ولأنه كان أوسع الجانبين أرضاً. وفي الجانب الشرقي الذي نزله المهدي أربعة آلاف درب وسكة وخمسة عشر ألف مسجد سوى ما زاد الناس وخمسة آلاف حمام سوى ما زاد الناس بعد ذلك. وانتقل المعتصم إلى سر من رأى في سنة ثلاث وعشرين ومائتين واتصل مقامه بها مدة حياته وأيام الواثق والمتوكل ولم تخرب بغداد ولا نقضت أسواقها لأنهم لم يجدوا منها عوضاً ولأنه اتصلت العمارة والمنازل بين بغداد وسر من رأى. قال أحمد بن أبي الطاهر: أخذ الطول من الجانب الشرقي من بغداد الأمير الناصر لدين الله عند دخوله مدينة السلام فوجد مائتي حبل وخمسين حبلاً وعرضه مائتي حبل وخمسة أحبل تكون ستة وخمسين ألف جريب ومائتين وخمسين جريباً، ووجد طول الجانب الغربي مائتين وخمسين حبلاً وعرضه خمسين حبلاً يكون ذلك سبعة عشر ألف جريب وخمسمائة جريب، فجميع ذلك ثلاثة وسبعون ألف جريب وسبعمائة جريب وسبعون جريباً. وحكى الهيثم بن عدي (6) أن المنصور لما جلس في قصره بباب الذهب أذن لرسل ملك الروم فدخلوا عليه فقال لرسول ملك الروم: هل ترى عيباً؟ قال: نعم عيوباً ثلاثة، قال: ما هي؟ قال: النفس خضراء ولا خضرة عندك، والحياة في الماء ولا ماء عندك، وعدوك مخالطك ومطلع على سرك، قال: أما الماء فحسبي منه ما بلغ الشفة، وأما الخضرة فللجد خلقت لا للعب، وأما السر فلا أبالي علم سري رعيتي أم ولدي وخاصتي، فأمسك الرومي عن الكلام. ثم تعقب أبو جعفر الرأي فرأى أن القول ما قال، فاتخذ العباسية وأجرى القناة من دجلة وأخرق السوق عن المدينة، فلما فعل ذلك وجلس في قصره بالخلد نظر إلى التجار من البزازين والصيرفي والقصاب وطبقات السوقة فتمثل بهذين البيتين: كما قال الحمار لسهم رام. .. لقد جمعت من شتى لأمر جمعت حديدة وجمعت نصلاً. .. ومن عقب البعير وريش نسر ثم قال: يا ربيع إن هذه العامة تجمعها كلمة وترأسها السفلة ولا أرينك معرضاً عنها فإن إصلاحها يسير وإصلاحها بعد إفسادها عسير فاجمعها بالرهبة واملأ صدورها بالهيبة وما استطعت من رفق بها وإحسان إليها فافعل. وفي هذا الذي ذكرناه من أولية بغداد كفاية وهي أعظم مما قيل وأشهر حالاً مما ذكر فلنقتصر على هذا القدر. ثم إن دولة بني العباس استمرت بها من مبايعة السفاح بالكوفة يوم الخميس لثلاث عشرة خلون من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة إلى أن ملكها الططر حين دخلوا العراق واستولوا على تلك الآفاق وقتلوا الخليفة المستعصم. (1) معجم ما استعجم 1: 261، وياقوت (بغداد)، وابن حوقل: 215، والكرخي: 58، وتاريخ بغداد 1: 25 - 127. (2) ص ع: مهملة. (3) انظر الحديث في تاريخ الخطيب: 28 وما يشبه ثم تبيان الخطيب لفساد أمثال هذه الأحاديث. (4) كتاب البلدان (مع الأعلاق النفيسة) : 233، والمؤلف يوجز أحياناً في النقل. (5) يعني وقت اليعقوبي، إذ لا يزال المؤلف يلخص ما يورده عنه. (6) تاريخ بغداد 1: 78.

[الروض المعطار في خبر الأقطار]

بغداد

كانت أمّ الدنيا وسيّدة البلاد، فيها سبع لغات: بغداد. وبغداد. وبغداد. ومغداد. ومغداذ. ومغدان. وبغدان ، وهى فى اللغات كلها تذكّر وتؤنّث، وكانت فى زمن الفرس قرية تقوم بها سوق للفرس، فأغار عليها المثنّى فى أيام سوقهم، فانتسفها. قال أحمد ابن حنبل: بغداد من الصّراط إلى باب التبن، ثم انتقلت إلى الجانب الشرقىّ من الشّماسيّة إلى كلواذى، وكانت عظيمة فخربت باختلاف العساكر إليها واستيلائهم على دور الناس وأمتعتهم فلم يبق من الجانب الغربى إلا محالّ متفرقة، أعمرها كان الكرخ، وخرب من الجانب الشرقىّ من الشّماسيّة إلى المخرّم، وبنى السور على ما بقى منه على جانب دجلة حتى جاء التتر إليها فخرب أكثرها، وقتلوا أهلها كلّهم، فلم يبق منهم غير آحاد كانوا أنموذجا حسنا، وجاءها أهل البلاد فسكنوها وباد أهلها، وهى الآن غير التى كانت، وأهلها غير من عهدناهم، والحكم لله تعالى.

[مراصد الاطلاع على اسماء الامكنة والبقاع]