الغيرة

عناصر الخطبة

  1. الغيرة صفة من صفات الله الحسنى
  2. بعض الأمور التي يغار الله لأجلها
  3. خطر فقدان المؤمن للغيرة ووجوب غيرة المؤمن على دينه
  4. غيرة المؤمن على عرضه وبعض مشاهد ضعف الغيرة في ذلك
اقتباس

أيها المسلمون: إن المستقيم على النهج السوي، والطريق النبوي عند فساد الزمان غريب، ولو عند الحبيب، لقد كثرت الآفات، وتظاهرت القبائح والمنكرات، وظهر التغيير في الدين والتبديل، واتباع الهوى والتضليل، وفقد المعين، وعز من تلوذ به من الموحدين، لقد صار الناس كالشيء المشوب، ودارت بين…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله …

أما بعد:

روى مسلم في صحيحه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يغار وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه".

وقال سعد بن عبادة -رضي الله عنه-: "لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصْفحَ" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتعجبون من غيرة سعد؛ لأنا أغير منه، والله أغير مني"[رواه البخاري].

وفي رواية له: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش".

وقد استدل العلماء بقول الله -عز وجل-: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[الأعراف: 33].

على أنها أصل في إثبات الغيرة لله -تعالى-.

ومن غيرته جل وعلا: أن حرم الفواحش.

حديثنا عن الغيرة -أيها الأحبة- سيكون -بإذن الله تعالى- له جانبان: غيرة الله، وغيرة عباد الله من المؤمنين؛ كما جاء في الحديث المتفق عليه: "المؤمن يغار، والله أشد غيرة".

أما غيرة الله، فاعلم أولاً: بأن الغيرة صفة من صفات الله -جل وتعالى-، غيرة حقيقية تليق بجلاله وعظمته، ليست كغيرة المخلوق: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى: 11].

فالله -عز وجل- يغار على كتابه الذي أنزله للناس ليكون منهجاً لهم، يتحاكمون إليه في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، إذا ما الناس انصرفوا إلى مناهج أرضية، تراضوها بينهم، فمتى ما أعرض العبيد عن كتاب الله، وحكموا قوانينهم الوضعية؛ غار الله -تعالى- لكتابه، فكتب الشقاء والاضطراب على ذلك المجتمع، فلا راحة، ولا أمن، ولا استقرار: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾[طـه: 124].

قال الله -تعالى-: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ﴾[ق: 5].

أي مضطرب.

إن القرآن لم ينزل ليقرأ في المناسبات، أو ليفتتح به المؤتمرات والندوات، وإنما أنزل القرآن ليعمل به، ولهذا من غيرة الله -تعالى- أن كتابه يرفع من الأرض في آخر الزمان، ويسري عليه في ليله فلا يبقى في الأرض منه آية، بل وحتى من صدور الرجال، فيصبح الناس وليس معهم شيء من القرآن، وذلك حين يدرس الإسلام كما يدرس وشى الثوب، فلا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويكون ذلك في آخر الزمان.

فنسأل الله -جل وعز- أن يرحمنا برحمته.

حين يعرض الناس عن القرآن، ولا يكون له الدور الذي من أجله أنزل.

وكذلك يغار المولى -جل شأنه- على محارمه، وهو كل ما حرمه الله، وكل ما حرمه وقع في حماه، ولا يجوز لأحد أن يقع فيه: "ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه".

ماذا يحصل لو وقع الناس في ما حرم الله؟

نزلت بهم البلايا والمصائب والمحن، وضاق بهم سبل العيش من قلة الوظائف، وارتفاع الأسعار وغيرها: "يا معشر الأنصار، خمس خصال إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله ورسوله، إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فيأخذ بعض ما في أيديهم، ولم تحكم أئمتهم بكتاب الله، إلا جعل بأسهم بينهم".

وكذلك يغار الله على أوليائه الصالحين، وعباده المخلصين، إذا أوذوا أو ضيق عليهم: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب".

ومن الذي يستطيع أن يحارب الله -جل وتعالى-، وحرب المولى -جل وعز- طرف فيها نتيجتها معروفة، لكن لماذا يمكن الله في بعض الأحيان لأعدائه من أوليائه؟

لسببين -والعلم عند الله-:

الأول: ليزداد المجرمون إثماً ووزراً مع وزرهم، وحتى يأتوا يوم القيامة مثقلين بالأوزار: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".

السبب الثاني: حتى تزداد رتبة العبد رفعة في الآخرة، ويزداد شرفاً في الدنيا، ذكر أن عالماً قال كلمات حق أغضبت أحد الخلفاء، فقال أحد بطانة السوء: اقتله يا أمير المؤمنين، فقال الخليفة: لا، إن هؤلاء يعلمون إذا قتلناهم، كانوا شهداء، وكنا بقتلهم من أهل النار.

أيها المسلمون: وأما عن غيرة المؤمن، فإن من أعظم النعم على العبد أن يرزق الغيرة، وذهاب الغيرة من قلب العبد معناه ذهاب الإيمان، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إذا ترحلت الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة، بل ترحل منه الدين، والغيرة أصل الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن خلت من القلب، لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف".

فأول ما ينبغي على العبد: أن يغار على دينه، وذلك بالتألم والغضب على حق يهان، أو شريعة تنقض أو باطل يحمى، أو منكر يُستر، أو مجرم للدين يوقر، ولابد أن ينتج عن هذا التألم والغضب مساندة للحق وأهله، ونصرة للشريعة ودعاته، ومقاومة للباطل، ودحره وفضح لأستار المنافقين وهتكه.

من الغيرة على الدين: الوقوف مع الخيرين، ومقاومة المبطلين والمفسدين، مهما كانوا، ولو كانوا أولي قربى.

المسلم الغيور، هو الذي يقدم مصالح المسلمين على مصالحه الخاصة.

كم هو خطر على الإسلام والمسلمين أن يتولى أمر مصالحهم فاقد الغيرة على دين الله.

والله إن حقوقاً لتهمل ومصالح لتموت، والسبب، إسناد الأمر إلى من لم يذق للغيرة على الدين طعماً.

فمن أسندت إليه قضية في العرض، كيف يغار وهو قد تقلب في بيئة لا تعرف للعفاف سبيلاً.

ومن أسندت إليه قضية في الدين، كيف يغار وهو لا يرى للدين حرمة، ولا للمسلمين ذمة.

إن المسلم الغيور هو الذي لا يغريه طمع ولا يخيفه رهبة عن قول الحق.

الغيرة هي التي تجعل المسئول عادلاً في كل قضية، واقفاً في حدود الإنصاف، يراقب الله في كل عمل يعمله، لا يبالي ذمه الناس أو مدحوه.

دُعي محمد بن بشير -رحمه الله- إلى قضاء قرطبة، فاستشار صديقاً له في قبول الولاية، فقال له: كيف حبك لمدح الناس لك وثنائهم عليك؟ وكيف حبك للولاية، وكراهيتك للعزل؟ قال: والله ما أبالي من مدحني أو ذمني، وما أسر للولاية، ولا استوحش للعزل، فقال: اقبل الولاية، ولا بأس عليك.

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى-، ولا تخشوا أحداً إلا الله، وكفى بالله حسيبا.

إن الله يغار إذا انتهكت حرماته، وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

فترقب أيها الظالم عقوبة الله، مساءًا أو صباحاً، بياتاً أو ضحىً.

دخل مالك بن دينار على أمير البصرة، فقال له: أيها الأمير، لقد قرأت في بعض الكتب: أن الله -تعالى- يقول: ما أحمق من سلطان، وما أجهل ممن عصاني، وما أعز ممن اعتز بي.

أيها الراعي السوء: دفعت إليك غنماً سماناً صحاحاً، فأكلت اللحم، ولبست الصوف، وتركتها تتقعقع.

فقال له أمير البصرة: أتدري ما الذي يجرئك علينا ويجنبنا عنك؟

قال: لا.

قال: قلة الطمع فينا، وترك الإمساك لما في أيدنيا.

أيها المسلمون: إن المستقيم على النهج السوي، والطريق النبوي عند فساد الزمان غريب، ولو عند الحبيب، لقد كثرت الآفات، وتظاهرت القبائح والمنكرات، وظهر التغيير في الدين والتبديل، واتباع الهوى والتضليل، وفقد المعين، وعز من تلوذ به من الموحدين.

لقد صار الناس كالشيء المشوب، ودارت بين الكل رحى الفتن والحروب.

ولقد انتشر شر المنافقين، ويميل صبر المتقين، لقد تقطعت سبل المسالك، وترادفت الضلالات والمهالك.

ومنع الخلاص، ولات حين مناص.

إن الغيور على الدين في هذا الوقت وجوده أعز من الكبريت الأحمر.

ليس له مجيب ولا راع، ولا قابل لما يقول ولا داع.

كيف لا، وقد نصبت رايات الخلاف، ورمي بقوس العداوة والاعتساف، نظرت للغيور شزر العيون، وأتاه الأذى من كل منافق مفتون.

أفلاذ كبده تقطعت مما جرى في دين الإسلام، وعراه من الانثلام والانفصام.

والباطل، قد اضطرمت ناره، وتطايرت في الآفاق شراراه، والغيور هو الذي على الدين مستقيم وبحجج الله وبراهينه مقيم.

فنسأل الله الكريم المنان أن يرزق كل غيور كمال توحيد وصبر وإيمان، ورضاً وتسليم لما قدره الرحمن، وبعده عقبى ثم عقبى في الجنان، وقد وعد الله الصابرين جزيل الثواب، فقال عز من قائل في محكم الكتاب: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[الزمر: 10].

نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، واتباع سنة النبي المجاب.

أقول هذا القول …

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

أما بعد:

ومما يجب على العبد: أن يغار عليه أيضاً بعد غيرته على الدين: أن يغار على عرضه، فالغيرة على المحارم من سمات المؤمنين، وكلما نقص الإيمان في قلب العبد، نقصت وضعفت غيرته وإذا ذهبت الغيرة بالكلية، صار ديوثاً والديوث هو الذي يرضى الخبث في أهله، ولذا استحق هذا الديوث أن يحرم دخول الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة ديوثا"[رواه أحمد والنسائي].

لا ندري -أيها الحبة- بماذا نفسر خروج النساء سافرات متبرجات في الأسواق والمجمعات التجارية، والأماكن العامة؟ هل يدل هذا على وجود غيرة عند الرجال؟ أم يدل على عكس ذلك؟

ترى أحياناً امرأة شابة كاشفة لوجهها، متزينة بأبهى زينة، وقد أخرجت شيئاً من شعرها، وربما تعطرت، فتكون في قمة الزينة والفتنة، ويكون معها زوجها إما بسيارته، أو يمشي معها، وهو متأبطها في أحد المجمعات أو الأسواق.

سبحان الله! تصل الدياثة إلى هذا الحد!.

إن كثيراً من الحيوانات والبهائم، تغار على أنثاها من أن يقربها حيوان آخر، وهذا الديوث يرضى بأن يتمتع بالنظر إلى أنثاه، كل من مر بذلك المكان، ماذا بقى لك أيها الزوج بعد هذا فقدت الغيرة إلى هذا الحد، ووصلنا إلى هذا الحضيض، والمصيبة أن هذا المنظر، لا يعد آحاداً، أو في حكم الشاذ، بل صار منظراً متكرراً بالعشرات والمئات.

كنا قديماً لا نرضى مثل هذه الوقاحة، حتى من الأجانب الكفار إذا قدموا إلى بلادنا والآن، صار أبناء البلد، وأصحاب العوائل المعروفة، ينافسون الكفار في الدياثة -فإنا لله وإنا إليه راجعون- ونقول: عندنا غيرة

ثم -أيها المسلمون- بما نفسر رضا كثير من أولياء الأمور أن يجلس نساءه وبناته، وأولاده، بل ويجلس هو نفسه أمام شاشات التلفاز، وينظرون سوياً، تشاهدون ماذا؟

أصبحنا، نتغاضى عن كثير من البرامج والمسلسلات البرامج الرياضية، جولات المصارعة الحرة، وما كان يعرض سابقاً أمام ما يعرض الآن، عبر هذه القنوات الفضائية -لا بارك الله في القائمين عليها-.

والله -أيها الإخوة- إن الزنا الصراح صار يشاهد الآن في بيوت المسلمين.

القضية الآن، تجاوز الخلاف، هل وجه المرأة عورة أم لا؟ ظهر الوجه، وظهر الشعر، ثم ظهر النحر، ثم ظهر الفخذين، والآن تظهر السوأة أصبح يرى في بيوت المسلمين المصلين، ثم نقول: غيرة!.

وندعي أننا غيورين على محارمنا وأعراضنا!.

تسمح لأهلك أن ينظروا إلى الفحش، وتقول: أنك صاحب غيرة.

قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ألا تغارون، ألا تستحيون، فإنه بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج-أي الأجانب-".

رحم الله الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ليس الأمر أمر مزاحمة الآن، بل تعدى ذلك بكثير.

اسمع -أخي المسلم- القصة التي ذكرها البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب الغيرة لترى الفرق الكبير بين غيرة رجال تلك الفترة، وبين ما يسميه رجالنا غيرة، تقول أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما-: "تزوجني الزبير وماله في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء -غير ناضح وغير فرسه-.

فكنت أعلف فرسه، وأستقي الماء، وأخزز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن الخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأسي.

وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوماً، والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير، وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني قد استحييت، فمضى فجئت الزبير، فقلت: لقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه، وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد عليّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلى أبس بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني".

هذا نموذج واحد من غيرة الصحابة -رضي الله عنهم- وهو الزبير -رضي الله عنه-، أما سعد بن عبادة، فغيرته عجب من العجب، وقد عرف بين الأنصار بذلك، فإنهرضي الله عنه، ما تزوج امرأة قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة فاجترأ رجل من الأنصار أن يتزوجها من شدة غيرته.

فأين غيرتكأنت أيها الرجل؟

فأيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى-، احفظوا أنفسكم من الدياثة، واحفظوا نساءكم من الفتنة والافتنان، قبل أن يحل بنا ما حل بغيرنا من المصائب والمعائب -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-.

إن الله وملائكته يصلون على النبي…