الغش

عناصر الخطبة

  1. الدين لا يُصلح للبشر آخرتهم بخراب دنياهم
  2. تنظيم الإسلام لطرق الكسب
  3. تحريم الغش والخديعة في شئون الحياة كلها
  4. لا عذر لأحد أن يغش الناس في أي معاملة
  5. الغش مظهر من مظاهر الكذب
  6. كثرة صور الغش والتدليس والخديعة
اقتباس

لقد كانت نصوص الشرع صريحةً متواترة في تحريم الغش والخديعة في شئون الحياة كلها، وهي في شأن المعاملات المالية أكثرُ استفاضةً، نتلوها في القرآن ونقرؤها في أحاديث السنة، ومع ذلك كله لا تزال أسواق المسلمين مرتعًا وبيلاً للمحتالين والغششة والمخادعين إلا من رحم ربك وقليل ما هم ..

أما بعد: فإن الدين لا يُصلح لك آخرتك بخراب دنياك، ولا يستكثر عليك أن تطيبَ لك الدنيا قبل الآخرة، كيف وفي الشريعة خيرُ الدنيا والآخرة وصلاحُهما، وتعظيمُ حرمة النفس والمال وصونُهما.

إن الإسلام لا يرضى لمجتمعاته أن يتهارش الناس فيها تهارش السباع، ولا أن يتغالب الناس فيها بالمكر والخديعة والنوايا الخبيثة…

والإسلام في تشريعاته لا يستكثر على التجار أن تكون لهم تجاراتُهم الرابحة؛ ولكنه جعل لها طرقَها المشروعةَ التي لا يُهضم بها حقُ الضعيف، ولا يؤكل فيها مالُه بالباطل. وطرق الكسب المشروع ليست بضيقة على مبتغيها حتى تُوسَّعَ بحيل الكذب والغش والخديعة والاحتكار.

وإنما تضيق طرق الكسب المشروع على من عندهم توسُّعٌ في الطمع يدخل في دائرة الجشع. وإلا فهل تضيق طرقُ التجارة القائمةِ على العدل والصدق والإتقان؟

إن الله جل جلاله لم يحرم شيئًا إلا وجعل في الحلال الطيب غُنيةً عنه، ومن لم يغنِه الحلال ويُقنعِه لم يزده الكسبُ الخبيثُ إلا حرصًا وجشعًا.

لقد كانت نصوص الشرع صريحةً متواترة في تحريم الغش والخديعة في شئون الحياة كلها، وهي في شأن المعاملات المالية أكثرُ استفاضةً، نتلوها في القرآن ونقرؤها في أحاديث السنة، ومع ذلك كله لا تزال أسواق المسلمين مرتعًا وبيلاً للمحتالين والغششة والمخادعين إلا من رحم ربك وقليل ما هم…

ومن القواعد القائم عليها هذا السوق: اخدعهم قبل أن يخدعوك، واكذب عليهم قبل أن يكذبوا عليك، واضرب معهم بالعصا التي يضربون بها، وإذا هم فريق واحد توجهت خديعته وحيلته وغشُه وتدليسه على الضعفاء من المشترين المستهلكين.

والثقافة السائدة في هذا الجو البغيض تطبِّع الناس على رذيلة الكذب بل والجرأة على الله بترويج السلع بالحلف الكاذب..

والثقافة السائدة في هذا الجو الموبوء بمرذول الأخلاق تُقنّع مرتاديه بأن الغش والخديعة والمكر والتدليس حِذقٌ في التجارة ومهارة، وأن من لم يَغُشَّ يُغشّ.

وهذه الثقافة تقنِّع مرتادي هذا السوق بأنه لا مناص من الغش؛ فلتكن أنت غاشًا من الغششة، وهي تستنطق لسانك أن تقول ما قد قاله غيرك في هذا السوق تسويغًا للكذب والغش: الغش سبيلٌ لستُ فيها بأوحد…كل الناس يغشون فلماذا أُلام على طبعٍ غلاّب؟ وكان من لسان حاله في مجتمع الأسواق والمعاملات يقول: ما منا إلا غاشٌ ومغشوش، ومن أحسنت معه بالصدق في المعاملة فلا تأمن أن يسيء معك بالكذب والخديعة.

أرأيتم منطقًا كهذا المنطق…إنه يصور لك مجتمع الأسواق كالأُسدِ في الغاب، قائمة على منطق القوة والمكر والحيلة ومعاجلة الآخرين بهذه الأخلاق الرذيلة. ومن تمنطق بهذا المنطق المغلوط لتسويغ قبائحه من كذب وغش واحتيال، فلن ينفعه ذلك عند الله، فحجتهم داحضة عند ربهم، وما تذرّعوا به لاستحلال هذه الخصال الذميمة إنما يتذرعون به لنار جهنم، والعياذ بالله.

أما إنه لا عذر لأحد أن يغش الناس في معاملة صغرت أو عظمت، وإنما قلت: الناس، ليشمل اللفظ كل أحد: المسلم والكافر؛ لأن الغش خديعة وكذب، ولا تجوز الخديعة إلا في الحرب، وما كان من الأخلاق مرذولاً فيبقى كذلك، ولا يصح في عقل ولا شرع أن يكون الغش والخداع في المعاملة حينًا مرذولاً، وحينًا آخرَ محمودًا.

وهؤلاء الذين يسوغون الغش والخديعة والتدليس في مبايعاتهم لا يرضونها لو كانت عليهم وكانوا ضحيةً من ضحاياها… فإذا كان ذلك كذلك، فلماذا لا يأخذون في هذا الأمر بالقاعدة النبوية العادلة: عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به؟

أيها الأحبة الكرام: الغش مظهر من مظاهر الكذب، ومهما قلبته من وجوهه، فهو في جوهره كذب صُراح، منه كذب بالقول وكذب بالفعل..

وقد كان للشريعة في تحريم الغش والتدليس في المبايعات تشديدٌ لم تبلغه شِرعة من شرائع القانون الوضعية.. فكتمان العيب في السلعة هو في شريعة الإسلام نوع من الغش والتدليس ولذا حرّمه.

إن من الناس من يعرض سلعته للبيع كاتمًا ما فيها من العيوب؛ ليبيعها بسعر السليمة، ويرى أنه بذلك لم يقع في محظور متحججًا بأنه لم يقل: إن سلعتي بريئة من العيب، وبأنه لم يظهرها بغير حقيقتها الظاهرة للعيان، وإنما التقصير من جهة المشتري؛ إذ لم يتفقد السلعة ويتحقق من وجود العيب، فهو الذي غش نفسه إذ تعجل.

فما عسى هذا أن يقول في هذا الحديث الصحيح: عنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟" قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فقَالَ: أَفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟ ثُمَّ قَالَ:" مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

لنُعد تأمل حال الرجل في هذا الحديث: إنه لم يروِّجْ سلعته بالتدليس الكاذب المتضمن لنفي هذا العيب وهو البَلل، وإنما عرض سلعته ساكتًا عن هذا العيب، فلم يَنفه، ولم يُثبتْه، وجعل أمر كشف العيب للمشتري، ومع ذلك عده النبي صلى الله عليه وسلم غاشًا؛ إذ قال: "من غش فليس مني".

فإذا كان هذا الرجل معدودًا من الغششة وهو لم يصرح بنفي العيب، فكيف بمن ينفق سلعته بالحلف الكاذب، حالفًا بالله ما بها من عيب، وأنها بسعرها فرصةٌ لا تعوض…إلى غير ذلك من صور الكذب والغش.

ولست هنا في مقام إحصاء صور الغش والتدليس والخديعة، فأهل السوق بذلك أدرى، وهم لها أحصى، وحسبهم إن أرادوا السلامة من الغش والخديعة أن يعرضوا المسألة على القاعدة النبوية: عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، وما لا يرضونه لأنفسهم فلا يجوز أن يرضوه لغيرهم.

ولأنفسنا ولأولئك نعظ بموعظة القرآن والسنة، ولنتذكر في هذا الباب الذي تهاون فيه كثيرون فأكلوا أموال الناس بالباطل والسحت ـ لنتذكر قوله تعالى متوعدًا على جناية وظلمٍ في معاملة دنيوية صرفة لا شأن لها بالآخرة، ومع ذلك توعد عليها بالوعيد الشديد، فكانت كبيرة من كبائر الذنوب: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)﴾ [المطففين : 1- 3]. إن الوعيد في هذه الآيات أعظمُ من مجرد تطفيفٍ في موازين الطعام، إنها عامةٌ في كل تعامل، فمن استوفى حقه من الناس غير منقوص وشدد فيه، ثم لم يعاملهم بما أحب أن يعاملوه به، فبخسهم حقهم وأكل أموالهم بالباطل والسحت، فهو داخل في هذا الوعيد، وكفاه وعيدًا أن يتوعده الله بالويل يوم القيامة.

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك..

بارك الله…….

الخطبة الثانية

أما بعد: فمن الحيل التي يُسوَّغُ بها الغش والتدليس أن يتحجج أحدهم بأنه قد كان مغشوشًا في سلعته، اشتراها ولم يعلم بعيبها، ولسان حاله يقول: ما أنا إلا مظلوم مبخوس الحق، ولو أَخبرت بعيبها ما اشتراها مني أحد، ولكسدت عندي وذهب بذلك مالي… وهي حجة تصح لأن يعود على من باعه إياها بخيار العيب أو التدليس ونحو ذلك، ولا تصح حجة ليورط بها غيره، بحجة أن الناس يفعلون ذلك، أو بأنه مغشوش فيها.

والشريعة تحمي حق هذا المغشوش المتورط بهذه السلعة المعيبة؛ إذ جعلت له حق خيار العيب أو التدليس، فليرجع على من باعه ليستوفِ بذلك حقه، وفي إثبات هذا الحق له دلالة على أن الشريعة تحمي حق المغفلين إلى حد بعيد، بخلاف القوانين الوضعية.

وبعد: فمن صدق النبي صلى الله عليه وسلم في وعده ووعيده وفيما يبلغه عن ربه فليصدقه في وعده في هذا الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: "البيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لمْ يَتَفَرَّقَا- أو قال: حَتًى يَتَفرَقَا- فَإنْ صدَقا وبَينا، بُورِكَ لَهُمَا في بَيعِهِمَا- وَإن كَتَمَا وَكَذبَا مُحِقتْ بَرَكة بَيْعِهمَا".

وليكن كل بائع وتاجر أكثر تصديقًا لوعد النبي صلى الله عليه وسلم منه لواقع السوق وحال التجار… وإن رأى غيره أثرى بالكذب والغش والخديعة والاحتكار فليعلم أن العبرة ببركة المال، لا بوفرته، وما عسى كثرة المال أن تنفع صاحبها وقد محق الله بركتَها وجعلها ذاهبة في غير طائل؛ كأن تكون في قمار وإسراف في محرمات ونفس محطمة تائهة قلقة ترتاد المصحات النفسية، وكلها توابع ناجمة من المكاسب الخبيثة… وأعظم بها من بركة ممحقة!!