نظرات في سورة آل عمران (2) أهل الكتاب كما تحدثت عنهم

عناصر الخطبة

  1. انحراف اليهود السلوكي
  2. ضلال النصارى الاعتقادي
  3. أمر المسلمين بالاستمساك بالتوحيد الذي ثمرته الخلق القويم
اقتباس

أهل الكتاب من يهود ونصارى لما شرَدوا سجَّل القرآن هنا -في هذه السورة- شرودهم، وهو بذلك كأنما يقول للمسلمين: إياكِ أعني واسمعي يا جارة! فالكلام تأنيب وتوبيخ لمن ضل وشرد، وهو في الوقت نفسه تحذير وتعليم لهذه الأمة ألَّا تسلك ما سلك غيرها من أسباب الانحراف والعوج ..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فقد استعرضنا- بسرعة- بعض هدايات الله في سورة آل عمران، وأبَنَّا أن النِّصف الأول من السورة ناقش عقائد أهل الكتاب ومسالكهم؛ واليوم نبدأ بتفصيلات لهذا الموضوع تلقى عليه أضواءَ كاشفةً، ولْنَلْحَظْ بين يدي هذا الكشف أن الله -جل شأنه- أفهم المسلمين -كما أفهم غيرهم- أن التديُّنَ الصحيح يقوم على عقيدة واضحة في الله الواحد –جل شأنه-.

ومع هذه العقيدة الواضحة لابد من خلق ضابط وثيق يحكم الغرائز البشرية، ويكبح جماحها، ويقيم سدودا قوية أمام تياراتها، فإن هذه النفس البشرية قد تجيش فيها أهواء جامحة، انهارت إذا لم تكن السدود أمامها قوية، ومضت هذه الأهواء إلى غايتها دون ضابط أو رادع أو وازع.

نلمح هذا في قوله جل شأنه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران:14]. هذا حق، إن النفس البشرية تهوى النساء، وتهوى الأموال، وتهوى الزينة والمتعة؛ لكن هذا الذي تهواه إن عبدته من دون الله قتلها، وإن تناولته باسم الله أحياها.

إن لجج الماء قد تغرق الزرع فلا ينبت، وقد تغرق الإنسان فيهلك، لكنه إذا تناول هذا الماء بقدر منظم فإنه يحيا به، كما أن هذا الماء إذا أرسل إلى الأرض بمقاديرَ معقولةٍ نبَتَ عليه الزرع والضرع؛ ولذلك قال الله -بعد أن وضح حقيقة النفس البشرية، وأن هذه الميول مفطورة عليه نفوسنا-: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15)﴾ [آل عمران:14-16].

إذا لم يكن التديُّنُ صانعاً لخُلق يحكم الهوى، وإذا لم يكن التدين صانعا لعاطفة رقيقة تجعل المرء يحني رأسه وصلبه لربه، ويشعر بضعفه؛ فيستغفر ذنبه، وينهض في الهجعات الساكنة كي يرقق روحه بمناجاة الله وطلب خيره، إذا لم يكن التدين صانعا لهذه المعاني فهو تديُّنٌ شَكْلِيٌّ لا خير فيه.

كما نلحظ معنى آخر بدأت السورة تنبه إليه، وهو أن التوحيد عقيدة عقلية، فإن الإيمان بأن رب هذا الكون واحد، هذا المعنى هو حكم العقل الصائب، ومنتهى العلم السديد؛ وأن الشرك خرافة، وأن التثليث جهالة، وأن كل ما يعكر رونق العقيدة الصحيحة في إله واحد فهو ضلال مبين، ولذلك تقول السورة: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران:255]، وأكدت السورة المعنى مرة أخرى فقالت: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران:18].

لكن أهل الكتاب شردوا عن هذه المعاني، وأهل الكتاب من يهود ونصارى لما شردوا سجل القرآن -هنا في هذه السورة- شرودهم، وهو بذلك كأنما يقول للمسلمين: إياكِ أعني واسمعي يا جارة! فالكلام تأنيب وتوبيخ لمن ضل وشرد، وهو في الوقت نفسه تحذير وتعليم لهذه الأمة ألا تسلك ما سلك غيرها من أسباب الانحراف والعوج.

أول ما ذكرته السورة هنا -بعد الملاحظتين اللتين قررناهما الآن- هو أن اليهود تركوا العدالة، ورفضوا أن يقوم الناس بالقسط، ولم يتركوا العدل والقسطاس فقط بل اتجهوا إلى دعاة العدل، وإلى الآمرين بالقسط؛ فطوحوا بهم، ونالوا منهم، وأعدموهم. يقول الله جل شأنه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران:21].

إن المجتمع الذي يرفض العدالة، ويحيف على دعاتها لابد أن يستباح، ولابد أن يؤخر عن مكان الصدارة، وهو معنى يصوغه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حكمة بالغة، وكلمة موجزة، يقول: "إنه لا قُدِّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع". معنى لا تقدس أمة: أنها أصبحت مستباحة، إذا عدت عليها العوادي، ونالت منها شر نيل، فإن ذلك عقوبتها التي تستحقها. وهذا ما صنعه اليهود بأنفسهم، وما تصنعه كل جماعة ظلمت نفسها بنفسها.

بعد ذلك -مباشرة- بيَّن القرآن الكريم أن هؤلاء اليهود رفضوا الحكم بما أنزل الله، وتركوا آيات الوحي خلف ظهورهم، ما يحبون أن يعملوا بها، وليتهم لما تركوا العمل بها شعروا بخزي التقصير، لا! إنهم -مع تركهم الحكم بما أنزل الله- تبجحوا، وظنوا أنهم مع تركهم للحق النازل من السماء أن لهم عند الله مكانة، وأنهم يستحقون منه الجوائز! علام؟! علام تنالون الجوائز أو تنتظرون التمكين؟ على تفريطكم؟ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24)﴾ [آل عمران:23-24].

والأمم -ومن بينها الأمة الإسلامية- أحيانا ترتكب الدواهي ثم تظن أن لديها ضمانا يمنع عقوبة الدنيا والآخرة عنها، وكثير من المسلمين يفعلون بدينهم الأفاعيل ثم يقولون متبجحين: أمة محمد بخير! وأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- إنما تكون بخير يوم تكون وفيَّةً لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ويوم تكون موقِّرَةً للكتاب الذي نزل عليه، ويوم تكون منفِّذةً للتعاليم التي جاء بها؛ أما أن تنتسب إليه شكلا، ثم ترفض مقتضيات هذا النسب موضوعا، فهذا لعب بالدين سبقت إليه الأمم التي يحكي القرآن الآن قصتها، فنالها ما نالها.

ماذا نالها؟ نالها أن الله صرف عنها نعمته، فإن اليهود كانوا يملكون القيادة الروحية للبشر، وكانوا يحتكرون رسالات السماء على امتداد القرون، ولكن؛ لما فعلوا هذا الذي ذكرنا صرف النظر عنهم، وأتى بغيرهم ليقود البشر، وهذا المعنى -فيما تلونا من آيات- هو التمهيد لقوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26].

بعض قصار النظر يتصورون أن المشيئة الإلهية تخبط في الوجود خبط عشواء! وهذا التصور جهل فاضح، فإن المشيئة الإلهية هنا، قبل أن تجيء بهذه العبارات في هذه الصيغة، ذكرت الحيثيات التي من أجلها نزع الله الملك من اليهود وأعطاه الأمة العربية، وفى سورة أخرى يقول الله عن اليهود: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا؟﴾ [النساء:53].

والملك هنا ليس وراثة العروش، ولكن الملك هنا هو السلطة التي يمنحها الله من يقومون باسمه، ومن يصنعون الخير لعباده، ولهذا وجدنا الآيات هنا تحدثت عن السر في أن الله حوَّل النبوة من نسل يعقوب -أي من بنى إسرائيل- إلى نسل إسماعيل إلى محمد خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم-, واختار الأمة العربية لتصحب هذا النبي في مسيرته وفى هدايته فقال: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26].

والخير بيد الله يقينا، ولكن الله ما يمنح خيره إلا عبدا رفع يديه ضارعا يطلب من الله بِذُلِّ العبيد أن يمنحه، إن الله عز وجل لا يعطى خيره عبدا أدار لله ظهره، ولم يسلم إليه وجهه؛ إن الله عز وجل بيده الخير، ولكنه يعطى الخير من يرشح نفسه للعطاء بأن يعرف لله ألوهيته، وللبشر عبوديتهم؛ أما ما عدا ذلك من مسالك فلا خير فيها.

واستطرد الكلام عن اليهود في مواضع شتى من السورة، نكتفي منها بقوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا؛ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران:75].

هؤلاء اليهود ظنوا أن الفضيلة تنقسم، وأنه يمكن أن يكون الإنسان عفيفا عاهرا، أمينا خائنا، صادقا كاذبا! وهذا يستحيل، فإن الفضيلة لا تنقسم، الرجل العادل يعدل في كل شيء، الصادق يصدق في كل شيء، الأمين أمين في كل شيء، والله عز وجل عاب على اليهود فقدانهم خلُق الأمانة، ورغبتهم في اجتياح حقوق الآخرين.

إن الذي وقر في نفس اليهودي أنه شخص ممتاز، وأن هذا الامتياز الفردي، أو هذا الاختيار الشعبي يبيح له أن يأكل حقوق الآخرين! والإسلام أو الدين الحق يأبى هذا السلوك، إذا كنت معاهدا أحدا، أو معاملا بشرا، فكن مؤمنا تقيا، ارع عهدك، واحترم حق كل إنسان: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران:76].

وفى هذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " ألا من ظلم معاهدا، أو انتقضه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة". ولماذا يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- حجيجه؟ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يعرض دينه على الناس نظريا بحجة مقنعة، وعمليا بسيرة مشرفة، فإذا جاء مسلم وعامَل الناس معاملة شائنة، واتصل بغير المسلمين اتصالا يكون مَعَرَّةً للإسلام، فهذا صاد عن سبيل الله، وهذا عدو لمحمد، محمد يدعو الناس إلى دينه، وهذا يصد الناس عن دينه!..

نكتفي بهذا القدر من استعراض الآيات المتعلقة باليهود لننظر إلى الآيات المتعلقة بالنصارى في النصف الأول من هذه السورة.

إن عقيدة التوحيد -بكل ما في التوحيد من رشد وصواب- هي لب الرسالة الإسلامية، وكما بيَّنَّا هي الثمرة لأيِّ بحث علمي في آفاق السماء أو فجاج الأرض، كل شيء في الأرض أو في السماء يشير إلى أن الرب واحد: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ، إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ، وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(92)﴾ [المؤمنون:91-92].

لكن النصارى ضلوا، وقالوا: إن هناك ثلاثة! كل واحد منها يسمى إلها، وكان الخطأ الذي وقعوا فيه غريبا ما يطيقه عقل، ولا يرتضيه علم، ولا تنتجه مقدمات منتظمة، لكن القوم استقروا على هذا!.

وقد تحدث القرآن الكريم في سورة آل عمران فوجدنا أنه ناقش هذه العقيدة بنموذجين، أولهما نموذج مختصر -نذكره على عجل- وهو إذا كان وجود عيسى من غير أب شبهة تجعل بعض الناس يظنون الله أباه، إذا كان وجود عيسى بهذا الأسلوب سببا لأن يتصور بعض الناس أن رب العالمين والده، إذا كان الأمر كذلك، فآدَمُ أَوْلَى بالعبادة منه، فليس له أب ولا أم! وهنا يقول القرآن الكريم في إيجاز: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(60)﴾ [آل عمران:59-60]. أي: فلا تكن من الشاكِّين.

هل شك نبينا -صلى الله عليه وسلم-؟ هذا مستحيل، وإنما يقول العلماء: إن الصيغ البلاغية في اللغة العربية أحيانا تجيء بالفعل أمرا أو توكيدا أو بأي صيغة كي تجعل مَن على أمر من الأمور يبقى فيه، ويظل عليه. تقول للمجتهد الذي نجح في جنى ثمرات اجتهاده: اجتهد. هو ليس كسولا، ولكنك بكلمة "اجتهد" تغريه أن يبقى على نشاطه، وأن يظل على مثابرته، وأن يقاوم أسباب الكسل التي قد تحيط به. كذلك ﴿فلا تكن من الممترين﴾ هذا نوع من استبقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الحق الذي شرفه الله تعالى به، وتأنيب للآخرين الذين ضلوا عنه، فهو يقول له: لا تكن مثل هؤلاء.

ثم قال له: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران:61]، فمن حاجَّكَ فيه: جادلك. مِن بَعد ما جاءك من العلم: لأن غير هذا جهل. ماذا نعمل؟ نحن مخلصون، أصحاب حقيقة، تزعمون أنكم على حقيقة؟ تعالوا ندعو الله أن يهلك الكاذب! وكان ذلك في مناظرة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين بعض أساقفة النصرانية الذين جاءوا يجادلونه في عقيدة التوحيد، ولقد رفض القوم أن يدخلوا في هذه المباهلة، وأن يقفوا في ساحة يتجهون فيها إلى الله أن يهلك من يفترى عليه الكذب.

قبل هذا بقليل تحدثت السورة عن خوارق للعادات تقع غالبا في جو النبوات، فإن الله عز وجل يريد أن يقول للناس: إن ميلاد عيسى مخالفاً للسنن الطبيعية، أو للقوانين المعتادة، لم يكن بدعا في البيئة التي عاش فيها، فإن مريم أمه كفلها زكريا، فكانت هذه الأسرة مسرحا لبعض العجائب التي وقعت، كان زكريا يدخل فيجد طعاما لم يأت به عند مريم: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران:37].

لما شعر زكريا بأن خوارق العادات تقع حوله طمع في فضل الله، وكان رجلا شاخ، وهن عظمه، وتغصن جلده، وتأخرت سنه، وكانت امرأته عقيما، لو كان مع شيخوخته يتزوج امرأة مخصبة لكان هناك أمل، لكنه قد شاخ، والمرأة عقيم مجدبة: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ؟ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(40)﴾ [آل عمران:38-40].

هذا المعنى في جو النبوات من خوارق للعادات هو الذي حدث، وكون امرأة عقيم طول حياتها تنجب، وكون رجل انقطع من الناحية الجنسية ينجب، فهذا خارق للعادة، كولادة عيسى من أم بغير أب، وكما خلق آدم هكذا بدون أب وأم، يستطيع أن يخلق ما يريد، هذه هي القصة. تختم القصة بخلاصة هي: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا. أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟(80)﴾ [آل عمران:79-80].

على هذا المعنى، أو في هذا النطاق، ذكرنا بعض المناقشات التي تضمنتها الآيات الأولى من سورة آل عمران. وقد ورد عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى ". هؤلاء غضب عليهم، هؤلاء ضلوا سواء السبيل.

إذا انتهينا علميا من هذا البحث فلنقل: إن الصداقة شيء، والفروق العلمية المؤكدة شيء آخر، فأنا مكلف دينا أن أكون بَرَّاً وعندي شرف وخلق وذمة مع من لا يدين بديني، ما دام لا يكيد لي، ولا يتآمر عليَّ، ولا ينتصب عدوا أمامي، ما دام سليما معي، فيجب أن أكون أكثر منه بِرَّاً، وخيرا منه عدالة، وأشرف منه سلوكا؛ فنحن أولى بالبر والخلق والصدق من أي إنسان على ظهر الأرض؛ لكن الخلق الفاضل، والحكم العادل، والصلة الطيبة شيء؛ والفروق القائمة بين العقائد شيء آخر، فإذا صادقت أو صالحت أي إنسان من أهل الكتاب، وعاملته بالبر وبالعدل، فهذا لا يخدش أو لا يقرِّب بين العقائد المتناقضة.

نحن أصحاب توحيد نحرص عليه، ونرفض أن يمس، وغيرنا صاحب خرافة لا يمكن -مهما كانت هناك صداقات- أن نقترب منها، أو نرحب بها، أو نصطلح معها! العقائد شيء، والسلوك الواجب على مقتضى الشرف والأمانة شيء آخر.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ﴿الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(26)﴾ [الشورى:25-26].

وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.

أيها الإخوة: ينبغي ألا ننسى أن الله سترنا في المعركة الأخيرة، وأنه طوَّل أسلحتنا القصيرة، وأنه أعاننا بجند من عنده، ينبغي ألا ننسى هذا؛ لكن يبدو أن بعض الناس يريد أن ينسى رمضان، ومعركة رمضان، وفضل الله الذي أدرك هذه الأمة في رمضان، وإلا فما معنى أن تذهب إلى "الزيتية" في "السويس" جماعةٌ من الممثلين ليعرضوا رواية مسرحية؟ هذه واحدة. شيء آخر: ما معنى أن يذهب طلاب من الجامعات -ما يبقى إلا أن يضفروا شعورهم ليكونوا نساء- إلى الجنود وينظر الجنود إليهم ثم يتساءلون: ما هذه الشعور؟ وما هذه البنطلونات الحمراء؟ وما هذه المظاهر السمجة؟.

وثالثة الأثافي، وفضيحة الفضائح: جامعة الأزهر! أرادت جامعة الأزهر أن تحتفل ب "العبور" فقررت إقامة ليلة ساهرة بعدد من الراقصات والمغنيات والممثلات! ما هذا؟! إنني أستغرب أن يقع هذا في أي جامعة من الجامعات المدنية، فكيف تفكر جامعة الأزهر في هذا؟!.

لكن هذا الذي حدث هو في الحقيقة فرصة لكي يعلم المسلمون الواقع في الأزهر. أنا رجل أزهري، وأعلم علم اليقين أن الأزهر وضعت له خطط جعلت الخيانات العلمية الآن تملؤه! وأنا أنبه المسلمين إلى أن الأزهر إذا بقي على وضعه الحالي عدة سنين فسيخرجِّ علماء لا يحسنون أن يقرأوا القرآن في المصاحف! إذا بقى الأزهر على وضعه الحالي فإنه سيخرج منه ناس يكرهون أن يصلوا بالناس في المساجد! إذا بقى الأزهر على وضعه الحالي، ولم تتداركه عناية الله، فإن أمر الإسلام إلى شر؛ ذلك أن الأزهر -في حقيقته- مصنع الأدوية لعلل الأمة، فإذا غُشَّت الأدوية التي يصدرها المصنع فإن العلل ستبقى مضاعفة.

إن الأزهر يعانى، وقد وضعت له خطة محكمة كي يدمَّر، وأنا أوجه نظر المسلمين لهذا، إن كل أهل الأرض الذين يتبعون ديانات أرضية أو سماوية اختاروا العمالقة في أبنائهم وأشخاصهم، اختاروا أعتى الرجال وأقواهم كي يقودوا هذه الديانات. أما الأزهر فقد وضعت الخطة ليقوده المخابيل، وليقوده المرضى بعقولهم، والمرضى بأخلاقهم.

إن الوضع غريب في الأزهر، وإن جامعة الأزهر عندما تفكر في أن تجيء ببعض النساء المغنيات للاحتفال بليلة العبور تكون بهذا قد سجلت الجريمة المنكرة على ما وصل إليه الأزهر من انحطاط وانهيار.

كنا نريد أن يحتفل الأزهر فيعرض فصلا ثقافيا من خصوبة التشريع الإسلامي وسعته لمصالح الأمة، كنا نريد أن يعرض تفسيرا موضوعيا لسورة القتال وكيف أن الاعتماد على الله يجيء بالخير، كنا نريد أن يتحدث الأزهر عن اللغة العربية ويذكر نماذج من أدب القتال من الشعر الفحل الذي قيل أيام الحروب الصليبية وأيام الحروب الأولى كي يعرض على الناس ألوانا من أدب القوة لا يعرفها الأدب المائع المخنث الذي يتبناه الآن بعض محترفي الأدب.

إنني ألفت النظر إلى هذا الوضع الذي إن بقى فإن الإسلام يهدد، إننا بحاجة إلى أن نعود إلى العلم الديني، والثقافة الدينية، والخصوبة الإسلامية، والمعارف التي تتفجر من كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فتحيى موات هذه الأمة.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر"

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر:10].

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90].