الوتر
كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...
مباحثة بين اثنين مختلفين عن مآخذ الشرع بقصد الوصول للحق . ومنها المناظرات التي حصلت بين كثير من العلماء، وألفت فيها مؤلفات خاصة كمناظرات ابن حزم، والباجي . وقد تطلق على ما كان على ملإ من الناس دون ما كان خفياً .
المُبَاحَثَةُ وَالمُنَاقَشَةُ، يُقَالُ: نَاظَرَ فُلاَنٌ فُلاَنًا يُنَاظِرُهُ مُنَاظَرَةً َفَهَوُ مُنَاظِرٌ إِذَا بَاحَثَهُ وَنَاقَشَهُ، والجَمْعُ مُنَاظَرَاتٌ، وَتَأْتـِي المُنَاظَرَةُ بِمَعْنَى: المُمَاثَلَةُ وَالمُسَاوَاةُ وَالمُشَابَهَةُ، وَنَاظَرَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ أَيْ جَعَلَهُ شَبِيهًا وَمَثَيلاً لَهُ، وَأَصْلُ المُنَاظَرَةِ مِنَ النَّظَرِ وَهُوَ الـمُشَاهَدَةُ بِالعَيْنِ، يُقَالُ: نَظَرْتُ إِلَى الشَيْءِ أَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرًا أَيْ شَاهَدْتُهُ وَأَبْصَرْتُهُ بِعَيْنِي، وَيُقَالُ لِلْعَيْنِ: النَّاظِرَةُ، وَالنَّظَرُ: البَصَرُ، وَيَأْتِي النَّظَرُ بِـمَعْنَى: الفِكْرُ وَالفَحْصُ وَالتَّأَمُّلُ، يُقَالُ: نَظَرْتُ فِي كَلاَمِهِ أَيْ فَكَّرْتُ وَتَأَمَّلْتُ، وَالنَّظَرُ أَيْضًا: الاِنْتِظَارُ وَالتَّقَابُلُ، يُقَالُ: نَظَرْتُهُ أَيْ انْتَظَرْتُ حُضُورَهُ، وَسُمِّيَتْ المُبَاحَثَةُ مُنَاظَرَةً؛ لِحُصُولِ التَّفَكُّرِ وَالبَحْثِ فِيهَا وَنَظَرِ كُلِّ وَاحِدٍ لِصَاحِبهِ وَانْتِظَارِهِ حَتَّى يُتِمَّ كَلَامَهُ.
يَرِدُ مُصْطَلَحُ (المُنَاظَرَةِ) أَيْضًا فِي بَابِ الاجْتِهَادِ، وَبَابِ صِفَةِ الفَتْوَى، وَفِي بَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ. وَيُطْلَقُ وَيُرادُ بِهِ: عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ كَيْفِيَةُ إِثْبَاتِ المَطْلوبِ وَنَفْيِهِ مَعَ الخَصْمِ وَآدَابِ ذَلِكَ. وَتُطْلَقُ المُنَاظَرَةُ أَيْضًا فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ العَقِيدَةِ بِمَعْنَى: النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ فِي المَعْقُولاَتِ بِقَصْدِ إِظْهَارِ الحَقيقَةِ سَوَاءً كَانَ بَيْنَ الشَّخْصِ وَنْفْسِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
نَظَرَ
مباحثة بين اثنين مختلفين عن مآخذ الشرع بقصد الوصول للحق. وقد تطلق على ما كان على ملإ من الناس دون ما كان خفياً.
* معجم مقاييس اللغة : 5 /444 - القاموس المحيط : ص623 - لسان العرب : 5 /215 - الكليات : ص849 - معجم مقاييس اللغة : 5 /444 - لسان العرب : 5 /215 - كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم : 2 /1652 - دستور العلماء : 3 /233 - التعريفات للجرجاني : ص101 - التوقيف على مهمات التعاريف : ص299 - النهاية في غريب الحديث والأثر : 5 /222 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة : 1 /280 - التعريفات للجرجاني : ص298 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة : 1 /280 -
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُنَاظَرَةُ لُغَةً: يُقَال: نَاظَرَ فُلاَنًا: صَارَ نَظِيرًا لَهُ، وَنَاظَرَ فُلاَنًا: بَاحَثَهُ وَبَارَاهُ فِي الْمُجَادَلَةِ، وَنَاظَرَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: جَعَلَهُ نَظِيرًا لَهُ. فَالْمُنَاظَرَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّظِيرِ أَوْ مِنَ النَّظَرِ بِالْبَصِيرَةِ (1) .
وَالْمُنَاظَرَةُ اصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا الآْمِدِيُّ بِأَنَّهَا تَرَدُّدُ الْكَلاَمُ بَيْنَ الشَّخْصَيْنِ يَقْصِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا تَصْحِيحَ قَوْلِهِ وَإِبْطَال قَوْل صَاحِبِهِ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ (2) ، وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا: النَّظَرُ بِالْبَصِيرَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِظْهَارًا لِلصَّوَابِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُجَادَلَةُ:
2 - الْمُجَادَلَةُ لُغَةً:
الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ، يُقَال: جَدَل الرَّجُل جَدَلاً فَهُوَ جَدِلٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ: إِذَا اشْتَدَّتْ خُصُومَتُهُ، وَجَادَل جِدَالاً وَمُجَادَلَةً: إِذَا خَاصَمَ بِمَا يَشْغَل عَنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ (4) .
وَالْمُجَادَلَةُ اصْطِلاَحًا: قَال الآْمِدِيُّ: هِيَ الْمُدَافَعَةُ لإِِسْكَاتِ الْخَصْمِ (5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُجَادِلَيْنِ يُرِيدُ حِفْظَ مَقَالِهِ وَهَدْمَ مَقَال صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حَقًّا أَوْ بَاطِلاً.
أَمَّا الْمُنَاظِرَانِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ إِظْهَارَ الْحَقِّ (6) .
ب - الْمُنَاقَشَةُ:
3 - الْمُنَاقَشَةُ لُغَةً: يُقَال: نَقَشَ الشَّيْءَ نَقْشًا: بَحَثَ عَنْهُ وَاسْتَخْرَجَهُ، وَيُقَال: نَقَشَ الشَّوْكَةَ بِالْمِنْقَاشِ، وَنَقَشَ الْحَقَّ مِنْ فُلاَنٍ، وَنَاقَشَهُ مُنَاقَشَةً وَنِقَاشًا اسْتَقْصَى فِي حِسَابِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (7) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُنَاقَشَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَهْدُفُ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الْحَقِّ.
ج - الْمُكَابَرَةُ:
4 - الْمُكَابَرَةُ لُغَةً: الْمُغَالَبَةُ. يُقَال: كَابَرْتُهُ مُكَابَرَةً، غَالَبْتَهُ وَعَانَدْتَهُ (8) .
وَالْمُكَابَرَةُ اصْطِلاَحًا: الْمُنَازَعَةُ فِي الْمَسَائِل الْعِلْمِيَّةِ مَعَ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِفَسَادِ كَلاَمِهِ وَصِحَّةِ كَلاَمِ خَصْمِهِ (9) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُكَابَرَةِ التَّضَادُّ مِنْ حَيْثُ الْغَايَةُ وَالثَّمَرَةُ.
د - الْمُعَانَدَةُ:
5 - الْمُعَانَدَةُ لُغَةً: مِنْ بَابِ ضَرَبَ، يُقَال: عَانَدَ فُلاَنٌ عِنَادًا: إِذَا رَكِبَ الْخِلاَفَ وَالْعِصْيَانَ، وَعَانَدَهُ مُعَانَدَةً: عَارَضَهُ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْمُعَانِدُ الْمُعَارِضُ بِالْخِلاَفِ لاَ بِالْوِفَاقِ (10) .
وَالْمُعَانَدَةُ اصْطِلاَحًا: الْمُنَازَعَةُ فِي الْمَسَائِل الْعِلْمِيَّةِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ بِكَلاَمِهِ هُوَ وَكَلاَمُ صَاحِبِهِ (11) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُعَانَدَةِ التَّبَايُنُ. هـ - الْمُحَاوَرَةُ:
6 - الْمُحَاوَرَةُ لُغَةً: يُقَال: حَاوَرَهُ مُحَاوَرَةً وَحِوَارًا: جَاوَبَهُ، وَحَاوَرَهُ: جَادَلَهُ، قَال تَعَالَى: {قَال لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (12) وَيُقَال: تَحَاوَرُوا: تَرَاجَعُوا الْكَلاَمَ بَيْنَهُمْ وَتَجَادَلُوا (13) ، قَال تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (14) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرَاجِعُ صَاحِبَهُ فِي قَوْلِهِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْمُنَاظَرَةِ
7 - الْمُنَاظَرَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ الْمُنَاظَرَةُ الَّتِي تَمَّتْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ النَّمْرُودِ الَّذِي ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى قَوْلِهِ تَعَالَى قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَال أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَال إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (15) .
وَمُنَاظَرَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى قَوْلِهِ تَعَالَى قَوْله تَعَالَى: {قَال فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَال رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَال لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَال رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَْوَّلِينَ قَال إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِل إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَال رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَال لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأََجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَال أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَال فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} (16)
وَأَشَارَ ابْنُ الْحَنْبَلِيِّ إِلَى وَجْهِ الدَّلاَلَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} عَلِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سُؤَالٌ عَنْ مَاهِيَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَرَبُّ الْعَالَمِينَ لاَ مَاهِيَّةَ لَهُ، لأَِنَّهُ الأَْوَّل فَلاَ شَيْءَ قَبْلَهُ فَيَكُونُ مِنْهُ، بَل هُوَ مُكَوِّنُ مَا تَتَكَوَّنُ الأَْشْيَاءُ مِنْهُ، فَلَمْ يَشْتَغِل مُوسَى بِرَدِّ سُؤَالِهِ وَبَيَانِ فَسَادِهِ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ تَعْرِيفَ الرَّبِّ جَل وَعَلاَ بِصِفَتِهِ فَقَال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فَحَصَرَ الْكَائِنَاتِ فِي ثَلاَثِ كَلِمَاتٍ، فَلَمَّا قَال: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} قَال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَْوَّلِينَ} رَدًّا عَلَى فِرْعَوْنَ قَوْلَهُ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَْعْلَى} (17) فَلَمَّا قَال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِل إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أَرْدَفَ مَا ذَكَرَ بِشَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ فَقَال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا} لأَِنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ آيَتَانِ عَظِيمَتَانِ لاَ يَقْدِرُ فِرْعَوْنُ عَلَى ادِّعَائِهِمَا، فَلَمَّا انْدَحَضَتْ حُجَّتُهُ قَال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأََجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} .
وَدَلِيل ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ: مُنَاظَرَةُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ طَالِبِ الإِْذْنِ بِالزِّنَا، وَذَلِكَ فِيمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَال: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَل الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَال: ادْنُهْ. فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَال: فَجَلَسَ، قَال: أَتُحِبُّهُ لأُِمِّكَ؟ قَال: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَال: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُِمَّهَاتِهِمْ، قَال: أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟ قَال: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَال: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ. قَال: أَفَتُحِبُّهُ لأُِخْتِكَ؟ قَال: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَال: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَِخَوَاتِهِمْ. قَال: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَال: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَال: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ. قَال: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَال: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَال: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ. قَال: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَال: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ. فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ (18) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْمُنَاظَرَةِ:
حُكْمُ تَعَلُّمِ فَنِّ الْمُنَاظَرَةِ
8 - قَال الآْمِدِيُّ: هَذَا الْفَنُّ لاَ شَكَّ فِي اسْتِحْبَابِ تَحْصِيلِهِ، وَإِنَّمَا الشَّكُّ فِي وُجُوبِهِ وُجُوبًا كِفَائِيًّا، فَمَنْ قَال بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ مُجَادَلاَتِ الْفِرَقِ عَلَى الْكِفَايَةِ، قَال بِوُجُوبِ التَّحْصِيل، لأَِنَّ هَذَا الْفَنَّ يُعْرَفُ بِهِ كَيْفِيَّةُ الْمُجَادَلَةِ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَقَال مُلاَّ زَادَهْ تَعْلِيقًا عَلَيْهِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ مُجَادَلاَتِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ لِيُجَادِلَهُمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: 00 {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (19) وَلأَِنَّهَا دَفْعُ الضُّرِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ يَخَافُ أَنْ يَقَعُوا فِي اعْتِقَادَاتِهِمُ الْمُضِرَّةِ، وَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَظِنَّةَ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مِنْ كَانَ كَذَلِكَ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا حَرَامٌ لأَِنَّ الْعِلْمَ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ مَا لَمْ يَمْنَعْ عَنِ التَّبَعِيَّةِ (20) .
حُكْمُ الْمُنَاظَرَةِ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُنَاظَرَةِ بِاخْتِلاَفِ الْحَالاَتِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا.
أَوَّلاً - الْوُجُوبُ:
9 - تَكُونُ الْمُنَاظَرَةُ وَاجِبَةً فِي حَالاَتٍ مِنْهَا:
- نُصْرَةُ الْحَقِّ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ وَحَل الْمُشْكِلاَتِ فِي الدِّينِ، لِتَنْدَفِعَ الشُّبُهَاتُ وَتَصْفُوَ الاِعْتِقَادَاتُ عَنْ تَمْوِيهَاتِ الْمُبْتَدَعِينَ وَمُعْضِلاَتِ الْمُلْحِدِينَ.
- وَمَعَ أَهْل الْكِتَابِ إِذَا ظَهَرَتْ مَصْلَحَةٌ مِنْ إِسْلاَمِ مَنْ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ مِنْهُمْ. وَهِيَ فَرْضُ عَيْنٍ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ سِوَى عَالِمٍ وَاحِدٍ وَكَانَ أَهْلاً لِلْمُنَاظَرَةِ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا.
وَتَجِبُ كَذَلِكَ إِذَا عَيَّنَ الْحَاكِمُ عَالِمًا لِمُنَاظَرَةِ أَهْل الْبَاطِل وَكَانَ أَهْلاً لِذَلِكَ.
وَتَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ فِي حَالاَتٍ: مِنْهَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ غَيْرُ وَاحِدٍ قَادِرٌ عَلَى الْمُنَاظَرَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَحِينَئِذٍ فَقِيَامُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكْفِي لِسُقُوطِ الْحَرَجِ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلاَّ أَثِمَ الْجَمِيعُ بِتَرْكِهِ (21) .
ثَانِيًا - النَّدْبُ:
10 - وَالْمُنَاظَرَةُ تَكُونُ مَنْدُوبَةً فِي حَالاَتٍ مِنْهَا:
تَأْكِيدُ الْحَقِّ وَتَأْيِيدُهُ، وَمَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرْجَى إِسْلاَمُهُمْ (22) .
ثَالِثًا - الْحُرْمَةُ:
11 - تَكُونُ الْمُنَاظَرَةُ مُحَرَّمَةً فِي حَالاَتٍ مِنْهَا:
طَمْسُ الْحَقِّ وَرَفْعُ الْبَاطِل، وَقَهْرُ مُسْلِمٍ، وَإِظْهَارُ عِلْمٍ، وَنَيْل دُنْيَا أَوْ مَالٍ أَوْ قَبُولٍ (23) .
الْمُنَاظَرَةُ وَمَنَاهِجُ اسْتِعْمَال الأَْدِلَّةِ وَمُنَاسَبَةُ إِيرَادِهَا
12 - قَال صَاحِبُ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ: إِنَّ الْمُسْتَدِل إِذَا بَيَّنَ دَعْوَاهُ بِدَلِيلٍ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَى الْخَصْمِ مَفْهُومُ كَلاَمِهِ لإِِجْمَالٍ أَوْ غَرَابَةٍ فِيمَا اسْتَعْمَل اسْتَفْسَرَهُ، وَعَلَى الْمُسْتَدَل بَيَانُ مُرَادِهِ عِنْدَ الاِسْتِفْسَارِ، وَإِلاَّ يَبْقَى مَجْهُولاً فَلاَ تُمْكِنُ الْمُنَاظَرَةُ.
وَلَوْ كَانَ بِلاَ نَقْلٍ مِنْ لُغَةٍ أَوْ أَهْل عُرْفٍ أَوْ بِلاَ ذِكْرِ قَرِينَةٍ فَإِذَا اتَّضَحَ مُرَادُهُ: فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مُقَدَّمَاتِهِ مُسَلَّمَةً وَلاَ خَلَل فِيهَا بِوَجْهٍ لاَ تَفْصِيلاً وَلاَ إِجْمَالاً لَزِمَ الاِنْقِطَاعُ لِلْبَحْثِ وَظَهَرَ الصَّوَابُ. وَإِلاَّ، فَإِنْ كَانَ الْخَلَل فِي الْبَعْضِ تَفْصِيلاً يُمْنَعُ هَذَا الْمُخْتَل مُجَرَّدًا عَنِ السَّنَدِ أَوْ مَقْرُونًا مَعَ السَّنَدِ، وَيُطَالَبُ بِالدَّلِيل عَلَيْهِ فَيُجَابُ بِإِثْبَاتِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْخَلَل فِيهَا إِجْمَالاً، وَذَلِكَ الْخَلَل: إِمَّا أَنْ يَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ فِي صُوَرِهِ فَيَكُونُ الدَّلِيل حِينَئِذٍ أَعَمَّ مِنَ الْمُدَّعَى، أَوْ لُزُومُ مُحَالٍ آخَرَ فَيُنْقَضُ حِينَئِذٍ وَيُدَّعَى فَسَادُ الدَّلِيل، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ دَلِيلٍ.
وَإِمَّا بِوُجُودِ دَلِيلٍ مُقَابِلٍ لِدَلِيل الْمُسْتَدِل وَحَاكِمٍ بِمُنَافِي مَا يَحْكُمُ هُوَ بِهِ فَيُعَارَضُ.
وَفِي هَذَيْنِ أَيِ النَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ تَنْقَلِبُ الْمَنَاصِبُ، فَيَصِيرُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا وَالْمُسْتَدِل مُعْتَرِضًا.
فَكُل بَحْثٍ - مُنَاظَرَةٍ - إِمَّا مَنْعٌ أَوْ نَقْضٌ أَوْ مُعَارَضَةٌ (24) .
وَفِي ذَلِكَ يَقُول طَاشُ كُبْرَى زَادَهْ فِي مَنْظُومَتِهِ فِي آدَابِ الْبَحْثِ:
ثَلاَثَةٌ لِسَائِلٍ مُنَاقَضَةْ
وَالنَّقْضُ ذُو الإِْجْمَال وَالْمُعَارَضَةْ
فَمَنْعُهُ الصُّغْرَى مِنَ الدَّلِيل
أَوْ مَنْعُهُ الْكُبْرَى عَلَى التَّفْصِيل (25)
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
آدَابُ الْمُنَاظَرَةِ
13 - لِلْمُنَاظَرَةِ آدَابٌ عَشَرَةٌ:
الأَْوَّل: إِرَادَةُ إِظْهَارِ الْحَقِّ، قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ ﵀ ﵀ ﵀: مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا إِلاَّ وَدِدْتُ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى يَدَيْهِ، وَجَاءَ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ: الْمُنَاظَرَةُ فِي الْعِلْمِ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ عِبَادَةٌ (26) .
الثَّانِي: أَنْ يَحْتَرِزَ الْمُنَاظِرُ عَنِ الإِْيجَازِ وَالاِخْتِصَارِ وَالْكَلاَمِ الأَْجْنَبِيِّ لِئَلاَّ يَكُونَ مُخِلًّا بِالْفَهْمِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ التَّطْوِيل فِي الْمَقَال لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى الْمَلاَل.
الرَّابِعُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الأَْلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ فِي الْبَحْثِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ اسْتِعْمَال الأَْلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِمَعْنَيَيْنِ.
السَّادِسُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الدُّخُول فِي كَلاَمِ الْخَصْمِ قَبْل الْفَهْمِ بِتَمَامِهِ، وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى إِعَادَتِهِ ثَانِيًا فَلاَ بَأْسَ بِالاِسْتِفْسَارِ عَنْهُ إِذِ الدَّاخِل فِي الْكَلاَمِ قَبْل الْفَهْمِ أَقْبَحُ مِنَ الاِسْتِفْسَارِ.
السَّابِعُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَمَّا لاَ مَدْخَل لَهُ فِي الْمَقْصُودِ بِأَلاَّ يَلْزَمَ الْبُعْدَ عَنِ الْمَقْصُودِ.
الثَّامِنُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الضَّحِكِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ وَالسَّفَاهَةِ، فَإِنَّ الْجُهَّال يَسْتُرُونَ بِهَا جَهْلَهُمْ.
التَّاسِعُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الْمُنَاظَرَةِ مَعَ مَنْ كَانَ مَهِيبًا وَمُحْتَرَمًا كَالأُْسْتَاذِ إِذْ مَهَابَةُ الْخَصْمِ وَاحْتِرَامُهُ رُبَّمَا تُزِيل دِقَّةَ نَظَرِ الْمُنَاظِرِ وَحِدَّةَ ذَهَنِهِ.
الْعَاشِرُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ أَنْ يَحْسِبَ الْخَصْمَ حَقِيرًا لِئَلاَّ يَصْدُرَ عَنْهُ كَلاَمٌ يَغْلِبُ بَهِ الْخَصْمَ عَلَيْهِ (27) .
أَنْوَاعُ الْمُنَاظَرَةِ
لِلْمُنَاظَرَةِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
أ - أَنْوَاعُ الْمُنَاظَرَةِ بِاعْتِبَارِ وَسِيلَةِ أَدَائِهَا
الْمُنَاظَرَةُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: الْمُنَاظَرَةُ الْخَطَابِيَّةُ:
14 - وَتَكُونُ الْمُنَاظَرَةُ الْخَطَابِيَّةُ بِالْتِقَاءِ الْمُتَنَاظِرَيْنِ فِي مَجْلِسِ عِلْمٍ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَحْضُرُ الأُْمَرَاءُ هَذِهِ الْمُنَاظَرَاتِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الإِْمَامَيْنِ مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ بِحُضُورِ هَارُونَ الرَّشِيدِ حَوْل صَدَاقِ الْمَرْأَةِ تَصْنَعُ بِهِ مَا تَشَاءُ.
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: فَلَمَّا تَنَاظَرَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ فِي صَدَاقِ الْمَرْأَةِ وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لَهَا أَنْ تَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَتْ: إِنْ شَاءَتْ رَمَتْ بِهِ وَجَاءَتْهُ فِي قَمِيصٍ، وَإِنْ شَاءَتْ جَعَلَتْهُ فِي خَيْطِ الدَّوَّامَةِ، فَقَال مَالِكٌ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْدَقَهَا مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَجَاءَتْهُ فِي قَمِيصٍ لَمْ يَحْكُمْ لَهَا بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يَأْمُرُهَا أَنْ تَتَجَهَّزَ وَتَتَهَيَّأَ لَهُ بِمَا يَشْتَهِيهِ مِمَّا يَتَجَهَّزُ بَهِ النِّسَاءُ، فَقَال هَارُونَ: أَصَبْتَ (28) .
الثَّانِي: الْمُنَاظَرَةُ الْكِتَابِيَّةُ
15 - وَتَكُونُ الْمُنَاظَرَةُ الْكِتَابِيَّةُ بِمُخَاطَبَةِ الْمُتَنَاظِرَيْنِ كِتَابِيًّا حَوْل مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ أَوْ أَمْرٍ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ ذَلِكَ رِسَالَةُ الإِْمَامِ مَالِكٍ إِلَى الإِْمَامِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مُخَالَفَةِ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَرَدَّ اللَّيْثُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيمَا يَلِي نَصُّ الرِّسَالَتَيْنِ: مِنْ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ إِلَى اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. سَلاَمُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. أَمَّا بَعْدُ عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ بِطَاعَتِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ، وَعَافَانَا وَإِيَّاكَ مِنْ كُل مَكْرُوهٍ.
اعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُفْتِي النَّاسَ بِأَشْيَاءَ مُخَالِفَةٍ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ عِنْدَنَا وَبِبَلَدِنَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَأَنْتَ فِي إِمَامَتِكَ وَفَضْلِكَ وَمَنْزِلَتِكَ مِنْ أَهْل بَلَدِكَ وَحَاجَةُ مَنْ قِبَلَكَ إِلَيْكَ وَاعْتِمَادُهُمْ عَلَى مَا جَاءَهُمْ مِنْكَ، حَقِيقٌ بِأَنْ تَخَافَ عَلَى نَفْسِكَ وَتَتَّبِعَ مَا تَرْجُو النَّجَاةَ بِاتِّبَاعِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابِهِ: {وَالسَّابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ} (29) الآْيَةَ وَقَال تَعَالَى: {فَبَشِّرْ عِبَادِيَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (30) فَإِنَّمَا النَّاسُ تَبَعٌ لأَِهْل الْمَدِينَةِ، إِلَيْهَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَبِهَا نَزَل الْقُرْآنُ وَأُحِل الْحَلاَل وَحُرِّمَ الْحَرَامُ إِذْ رَسُول اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَحْضُرُونَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيل وَيَأْمُرُهُمْ فَيُطِيعُونَهُ وَيَسُنُّ لَهُمْ فَيَتَّبِعُونَهُ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ وَاخْتَارَ لَهُ مَا عِنْدَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَبَرَكَاتُهُ.
ثُمَّ قَامَ مِنْ بَعْدَهُ أَتْبَعُ النَّاسِ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ وَلِيَ الأَْمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا نَزَل بِهِمْ مِمَّا عَلِمُوا أَنْفَذُوهُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ عِلْمٌ سَأَلُوا عَنْهُ، ثُمَّ أَخَذُوا بِأَقْوَى مَا وَجَدُوا فِي ذَلِكَ فِي اجْتِهَادِهِمْ وَحَدَاثَةِ عَهْدِهِمْ، وَإِنْ خَالَفَهُمْ مُخَالِفٌ أَوْ قَال امْرُؤٌ غَيْرُهُ أَقْوَى مِنْهُ وَأَوْلَى تُرِكَ قَوْلُهُ وَعُمِل بِغَيْرِهِ، ثُمَّ كَانَ التَّابِعُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَسْلُكُونَ تِلْكَ السَّبِيل وَيَتَّبِعُونَ تِلْكَ السُّنَنَ.
فَإِذَا كَانَ الأَْمْرُ بِالْمَدِينَةِ ظَاهِرًا مَعْمُولاً بِهِ لَمْ أَرَ لأَِحَدٍ خِلاَفَهُ لِلَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْوِرَاثَةِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ انْتِحَالُهَا وَلاَ ادِّعَاؤُهَا، وَلَوْ ذَهَبَ أَهْل الأَْمْصَارِ يَقُولُونَ: هَذَا الْعَمَل بِبَلَدِنَا وَهَذَا الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ مَنْ مَضَى مِنَّا، لَمْ يَكُونُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى ثِقَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي جَازَ لَهُمْ، فَانْظُرْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - فِيمَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ فِيهِ لِنَفْسِكَ، وَاعَلَمْ أَنِّي أَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ دُعَائِي إِلَى مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ إِلاَّ النَّصِيحَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالنَّظَرَ لَكَ وَالظَّنَّ بِكَ، فَأَنْزِل كِتَابِي مِنْكَ مَنْزِلَتَهُ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ تَعْلَمْ أَنِّي لَمْ آلُكَ نُصْحًا، وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فِي كُل أَمْرٍ وَعَلَى كُل حَالٍ، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ.
وَكَانَ مِنْ جَوَابِ اللَّيْثِ عَنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ: وَأَنَّهُ بَلَغَكَ عَنِّي أَنِّي أُفْتِي بِأَشْيَاءَ مُخَالِفَةٍ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ عِنْدَكُمْ، وَإِنَّهُ يَحِقُّ عَلَيَّ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِي لاِعْتِمَادِ مَنْ قِبَلِي فِيمَا أُفْتِيهِمْ بِهِ، وَأَنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لأَِهْل الْمَدِينَةِ الَّتِي إِلَيْهَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَبِهَا نَزَل الْقُرْآنُ، وَقَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي كَتَبْتَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَوَقَعَ مِنِّي بِالْمَوْقِعِ الَّذِي لاَ أَكْرَهُ، وَلاَ أَشَدُّ تَفْضِيلاً مِنِّي لِعِلْمِ أَهْل الْمَدِينَةِ الَّذِينَ مَضَوْا وَلاَ آخَذُ بِفَتْوَاهُمْ مِنِّي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مُقَامِ رَسُول اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ وَنُزُول الْقُرْآنِ عَلَيْهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِوَمَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَأَنَّ النَّاسَ صَارُوا تَبَعًا لَهُمْ فَكَمَا ذَكَرْتَ (31) .
ب - أَنْوَاعُ الْمُنَاظَرَاتِ بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعِهَا
16 - تَتَنَوَّعُ الْمُنَاظَرَاتُ بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعِهَا إِلَى أَنْوَاعٍ أَهَمُّهَا الْمُنَاظَرَاتُ الْفِقْهِيَّةُ:
وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَاتُ مَوْضُوعُهَا مَسَائِل الْفِقْهِ وَقَدْ تَكُونُ بَيْنَ أَتْبَاعِ مَذْهَبٍ وَمَذْهَبٍ وَقَدْ تَكُونُ بَيْنَ أَتْبَاعِ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ، وَمِنْهَا عَلَى سَبِيل الْمِثَال الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الإِْمَامَيْنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي تَارِكِ الصَّلاَةِ، وَفِيهَا قَال الشَّافِعِيُّ: يَا أَحْمَدُ أَتَقُول: إِنَّهُ يَكْفُرُ؟ قَال نَعَمْ، قَال: إِذَا كَانَ كَافِرًا فَبِمَ يُسْلِمُ؟ قَال: يَقُول: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ مُحَمِّدٌ رَسُول اللَّهِ ﷺ، قَال الشَّافِعِيُّ: فَالرَّجُل مُسْتَدِيمٌ لِهَذَا الْقَوْل لَمْ يَتْرُكْهُ، قَال: يُسْلِمُ بِأَنْ يُصَلِّيَ، قَال: صَلاَةُ الْكَافِرِ لاَ تَصِحُّ وَلاَ يُحْكَمُ بِالإِْسْلاَمِ بِهَا، فَانْقَطَعَ أَحْمَدُ وَسَكَتَ (32) .
ثَمَرَةُ الْمُنَاظَرَةِ
17 - الأَْصْل فِي الْمُنَاظَرَةِ - كَمَا هُوَ وَارِدٌ فِي تَعْرِيفِهَا - التَّوَصُّل إِلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ. وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ إِمَّا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَجْزِ الْمُعَلِّل وَسُكُوتِهِ عَنْ دَفْعِ اعْتِرَاضِ السَّائِل، وَهَذَا يُسْمَى إِفْحَامًا.
وَإِمَّا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَجْزِ السَّائِل عَنِ الاِعْتِرَاضِ عَلَى جَوَابِ الْمُعَلِّل إِذْ لاَ يُمْكِنُ جَرَيَانُ الْبَحْثُ بَيْنَهُمَا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَهَذَا يُسَمَّى إِلْزَامًا (33) .
وَفِي ذَلِكَ يَقُول طَاشْ كُبْرَى زَادَهْ فِي مَنْظُومَتِهِ:
مَآلُهَا الْبَحْثُ عَنْ أَمْرَيْنِ
مُحَقِّقًا إِحْدَاهُمَا فِي الْبَيْنِ
إِمَّا بِأَنْ قَدْ يَعْجِزَ الْمُعَلِّل
وَعَنْ إِقَامَةِ الدَّلِيل يَعْدِل
لِمُدَّعَاهُ وَهُوَ عَنْهَا سَاكِتْ
وَذَا هُوَ الإِْفْحَامُ عَنْهُمْ ثَابِتْ
أَوْ يَعْجِزُ السَّائِل عَنْ تَعَرُّضِ
إِلَى دَلِيل الْخَصْمِ وَالْمُعْتَرِضِ
فَيَنْتَهِي الدَّلِيل مِنْ مُقَدِّمِةْ
ضَرُورَةُ الْقَبُول أَوْ مُسَلَّمِةْ
وَذَلِكَ الْعَجْزُ هُوَ الإِْلْزَامُ
فَتَنْتَهِي الْقُدْرَةُ وَالْكَلاَمُ (34)
__________
(1) المعجم الوسيط، ولسان العرب.
(2) شرح الولدية في آداب البحث والمناظرة ص 7.
(3) التعريفات ط دار الكتاب العربي، وانظر: الكليات للكفوي 4 / 263 ط دمشق.
(4) المصباح المنير، ولسان العرب.
(5) شرح الآمدي على الولدية في آداب البحث والمناظرة ص 7، وانظر: الكليات 4 / 63، والمفردات للراغب الأصفهاني ط الحلبي، وتاج العروس.
(6) شرح الآمدي على الولدية في آداب المناظرة ص 7.
(7) المعجم الوسيط، وتاج العروس والمصباح المنير، وانظر: الكليات 4 / 206.
(8) المصباح المنير.
(9) الكليات 4 / 263.
(10) المصباح المنير.
(11) الكليات 4 / 263.
(12) سورة الكهف / 37.
(13) المعجم الوسيط والمصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس.
(14) سورة المجادلة / 1.
(15) سورة البقرة / 258.
(16) سورة الشعراء / 23 - 33.
(17) سورة النازعات / 24.
(18) حديث: " أن فتى شابًا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله. . . ". أخرجه أحمد (5 / 256 - 257) عن أبي أمامة ﵁ وقال العراقي في المغني عن حمل الأسفار بهامش إحياء علوم الدين للغزالي (2 / 329 - 330 ط مصطفى الحلبي) : " إسناده جيد ورجاله رجال الصحيح ".
(19) سورة النحل / 125.
(20) شرح ملا عمر زاده على الولدية ص 6.
(21) انظر: زاد المعاد 4 / 639 ط الرسالة، وحاشية ابن عابدين 5 / 271 ط دار إحياء التراث، ومغني المحتاج 4 / 210، وحاشية القليوبي 4 / 177، وتحفة المحتاج 9 / 213 - 214.
(22) زاد المعاد 4 / 639.
(23) حاشية ابن عابدين 5 / 271.
(24) فواتح الرحموت 2 / 330 بتصرف ط الأميرية.
(25) مجموع أمهات المتون / 285 ط م. الحلبي، وانظر: شرح الآمدي على الولدية في آداب البحث والمناظرة لمحمد المرعشي المعروف بساجقلي زاده.
(26) شذرات الذهب 3 / 22 ط دار ابن كثير، ورد المحتار 5 / 271.
(27) شرح العلامة محمد بن حسين البهتي على الولدية ص 123 ط الحلبي.
(28) ترتيب المدارك 1 / 221.
(29) سورة التوبة / 100.
(30) سورة الزمر / 18.
(31) ترتيب المدارك للقاضي عياض 64 - 65.
(32) طبقات الشافعية الكبرى 2 / 61 ط دار إحياء الكتب العربية.
(33) شرح السيد عبد الوهاب الآمدي على الولدية / 119
(34) منظومة طاش كبرى زاده ضمن مجموع مهمات المتون 286 - 287.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 72/ 39