المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
القَسامَةُ: الجَماعَةُ يُقْسِمُونَ على الشَّيْءِ، وأَصْلُ الإِقْسامِ: الحَلِفُ على الشَّيْءِ، يُقال: أَقْسَمَ يُقْسِمُ إِقْسامًا وقَسامَةً، أيْ: حَلَفَ يَمِينًا، وتأْتي بِمعنى الأَيْمانِ تُقْسَمُ على أَهْلِ المَقْتولِ، وكُلُّ يَمِينٍ فهي قَسامَةٌ، كقَوْلِهم: قُتِلَ فُلانٌ بِالقَسامَةِ، أيْ: بِاليَمِينِ، ومِنْ مَعَانِيها أيضاً: الهُدْنَةُ والحُسْنُ والجَمالُ.
قسم
أَيْمانٌ مُكَرَّرَةٌ يَحْلِفُها أَوْلِياءُ المَقْتُولِ على إِثْباتِ القَتْلِ.
القَسامَةُ مِن وَسائِلِ إِثْباتِ جَرِيمَةِ القَتْلِ ومَعْرِفَةِ الجانِي، وهي أَيْمانٌ مُكَرَّرَةٌ خَمْسِين يَمِينًا، عند وُجودِ مَقْتولٍ مَعْصومٍ في مَكانٍ لم يُعْرَفْ قاتِلُهُ وكان بَيْنَهُم وبين القاتِلِ لَوْثٌ، أو يُقال: هي حَلِفٌ مُعيَّنٌ عند التُّهمَةِ بِالقَتْلِ على الإثباتِ أو النَّفي، ويُقْسِمُ بِهذه الأيْمانِ الذُّكُورُ البالِغُون العُقَلاءُ الأَحْرارُ مِنْ أَوْلِياءِ القَتِيلِ مُفَرَّقَةً على المَوْجُودِ منْهُم؛ لإِثْباتِ القَتْلِ على المُتَّهَمِ واسْتِحْقاقِ الدِّيَةِ، أو يُقْسِمُ بِها المُتَّهَمُ على نَفْيِ القَتْلِ عنه. واللَّوْثُ: هو القَرِينَةُ الدَّالَّةُ على حُدُوثِ أَمْرٍ دون دَلِيلٍ قاطِعٍ.
القَسامَةُ: الجَماعَةُ يُقْسِمُونَ على الشَّيْءِ. وأَصْلُ الإِقْسامِ: الحَلِفُ على الشَّيْءِ، وتأْتي بِمعنى الأَيْمانِ تُقْسَمُ على أَهْلِ المَقْتولِ، ومِنْ مَعَانِيها أيضاً: الهُدْنَةُ والحُسْنُ والجَمالُ.
* تهذيب اللغة : (8/320)
* جمهرة اللغة : (2/852)
* مقاييس اللغة : (5/86)
* النهاية في غريب الحديث والأثر : (4/61)
* مختار الصحاح : (ص 253)
* لسان العرب : (12/480)
* الهداية في شرح بداية المبتدي : (4/497)
* الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني : (2/179)
* منهاج الطالبين وعمدة المفتين في الفقه : (ص 288)
* الـمغني لابن قدامة : (8/487)
* القاموس الفقهي : (ص 303)
* معجم لغة الفقهاء : (ص 362)
* مفاتيح العلوم : (ص 63)
* شرح حدود ابن عرفة : (ص 484) -
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقَسَامَةِ فِي اللُّغَةِ: الأَْيْمَانُ تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيل إِذَا ادَّعَوُا الدَّمَ.
وَمِنْ مَعَانِيهَا الْهُدْنَةُ: تَكُونُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ مَعَانِيهَا: الْحُسْنُ (1) .
وَالْقَسَامَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ أَنْ يَقُول خَمْسُونَ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِيهَا: بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلاَ عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلاً (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ - إِنَّ الْقَسَامَةَ هِيَ حَلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ جُزْءًا مِنْهَا عَلَى إِثْبَاتِ الدَّمِ (3) .
وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اسْمٌ لِلأَْيْمَانِ الَّتِي تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ (4) . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هِيَ الأَْيْمَانُ الْمُكَرَّرَةُ فِي دَعْوَى الْقَتِيل (5) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْيَمِينُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ لُغَةً: الْقُوَّةُ، وَالْقَسَمُ، وَالْبَرَكَةُ (6) .
وَاصْطِلاَحًا: تَوْكِيدُ حُكْمٍ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (7) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ: أَنَّ الْيَمِينَ أَعَمُّ.
ب - اللَّوْثُ:
3 - اللَّوْثُ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقَ الْمُدَّعِي (8) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّوْثِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ أَنَّ اللَّوْثَ شَرْطٌ فِي الْقَسَامَةِ.
حُكْمُ الْقَسَامَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنِ الدَّعْوَى بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، وَوُجِدَ اللَّوْثُ. وَدَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهَا: " مَا رُوِيَ عَنْ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِل وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَال: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَل حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَل هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ - يُرِيدُ السِّنّ - َ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ رَسُول اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لاَ، قَال: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُول اللَّهِ ﷺ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَال سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ (9) . وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ ﷺ مِنَ الأَْنْصَارِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَقَضَى بِهَا رَسُول اللَّهِ ﷺ بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الأَْنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ (10) .
وَذَهَبَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو قِلاَبَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، إِلَى عَدَمِ الأَْخْذِ بِالْقَسَامَةِ، وَعَدَمِ وُجُوبِ الْعَمَل بِهَا؛ لأَِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لأُِصُول الشَّرْعِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهَا.
وَمِنْ هَذِهِ الأُْصُول: أَنْ لاَ يَحْلِفَ أَحَدٌ إِلاَّ عَلَى مَا عَلِمَ قَطْعًا أَوْ شَاهَدَ حِسًّا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُقْسِمُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا الْقَاتِل، بَل قَدْ يَكُونُونَ فِي بَلَدٍ وَالْقَاتِل فِي بَلَدٍ آخَرَ (11) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (12) . حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْقَسَامَةِ:
5 - شُرِعَتِ الْقَسَامَةُ لِصِيَانَةِ الدِّمَاءِ وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا، حَتَّى لاَ يُهْدَرَ دَمٌ فِي الإِْسْلاَمِ أَوْ يُطَل، وَكَيْ لاَ يَفْلِتَ مُجْرِمٌ مِنَ الْعِقَابِ، قَال عَلِيٌّ لِعُمَرَ ﵄ فِيمَنْ مَاتَ مِنْ زِحَامٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ يُطَل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِنْ عَلِمْتَ قَاتِلَهُ، وَإِلاَّ فَأَعْطِهِ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال (13) .
فَالشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ تَحْرِصُ أَشَدَّ الْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ الدِّمَاءِ وَصِيَانَتِهَا وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْقَتْل يَكْثُرُ بَيْنَمَا تَقِل الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْقَاتِل يَتَحَرَّى بِالْقَتْل مَوَاضِعَ الْخَلَوَاتِ، جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ (14) .
شُرُوطُ الْقَسَامَةِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ لَوْثٌ:
6 - سَبَقَ تَعْرِيفُ اللَّوْثِ فِي الأَْلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (15) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لَوْث) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُكَلَّفًا:
7 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ بِالْقَتْل مُكَلَّفًا حَتَّى تَصِحَّ الدَّعْوَى بِالْقَسَامَةِ حَيْثُ لاَ قَسَامَةَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (16) .
أَمَّا غَيْرُهُمْ فَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا:
8 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا، فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَى صَبِيٍّ وَلاَ مَجْنُونٍ، بَل يَدَّعِي لَهُمَا الْوَلِيُّ أَوْ يُوقَفُ إِلَى كَمَالِهِمَا، وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا وَقْتَ الْقَتْل كَامِلاً مُكَلَّفًا عِنْدَ الدَّعْوَى سُمِعَتْ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ الْحَال بِالتَّسَامُعِ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا عَرَفَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْجَانِي، أَوْ بِسَمَاعٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ (17) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعَيَّنًا:
9 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى أَهْل مَدِينَةٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أَوْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا لاَ تَجِبُ الْقَسَامَةُ (18) ، فَإِنِ ادَّعَى الْقَتْل عَلَى شَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ، إِذَا ذَكَرَهُمْ لِلْقَاضِي وَطَلَبَ إِحْضَارَهُمْ أَجَابَهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ جَمَاعَةً لاَ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتْل لاَ يُبَالِي بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُ دَعْوَى مُحَالٍ. وَلَوْ قَال: قَتَل أَبِي أَحَدُ هَذَيْنِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الْعَشَرَةِ، وَطَلَبَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ، وَيُحَلِّفَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهَل يُجِيبُهُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لاَ، وَلَوْ قَال فِي دَعْوَاهُ عَلَى حَاضِرِينَ قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ، أَوْ قَتَلَهُ هَذَا أَوْ هَذَا، وَطَلَبَ تَحْلِيفَهُمْ لَمْ يُحَلِّفْهُمُ الْقَاضِي عَلَى الأَْصَحِّ، لإِِبْهَامِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلاَ تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى (19) ، وَذَلِكَ مِثْل لَوِ ادَّعَى وَدِيعَةً، أَوْ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرِّجَال، لَمْ يُسْمَعْ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ تَعْيِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَ يُشْرَطُ لِلْقَسَامَةِ، بَل إِنَّهُ إِذَا عَيَّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لاَ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ ابْتِدَاءً عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ، فَتَعْيِينُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لاَ يُنَافِي مَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ، فَتَثْبُتُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الأُْصُول: أَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ، وَيُكَلَّفُ الْوَلِيُّ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِلاَّ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدًا (20) . الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلاَّ تَتَنَاقَضَ دَعْوَى الْمُدَّعِي:
10 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ أَلاَّ تَتَنَاقَضَ دَعْوَى الْمُدَّعِينَ، فَإِنْ قَال الْقَتِيل قَبْل مَوْتِهِ: قَتَلَنِي فُلاَنٌ عَمْدًا، وَقَالُوا: بَل قَتَلَهُ خَطَأً أَوِ الْعَكْسَ، فَإِنَّهُ لاَ قَسَامَةَ لَهُمْ وَبَطَل حَقُّهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى قَوْل الْمَيِّتِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلاَ يُجَابُونَ لِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمْ كَذَّبُوا أَنْفُسَهُمْ (21) .
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ انْفِرَادَهُ بِالْقَتْل، ثُمَّ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ شَرِيكُهُ، أَوْ أَنَّهُ الْقَاتِل مُنْفَرِدًا لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ لِمُنَاقَضَتِهَا الدَّعْوَى الأُْولَى وَتَكْذِيبِهَا، وَلَوِ ادَّعَى عَمْدًا وَوَصَفَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ أَوْ عَكْسُهُ بَطَل الْوَصْفُ، وَلَمْ يَبْطُل أَصْل دَعْوَى الْقَتْل فِي الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُظَنُّ مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ عَمْدًا، أَوْ عَكْسُهُ فَيَعْتَمِدُ تَفْسِيرَهُ (22) .
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيل ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ:
11 - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْل عَمْدًا، فَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَحْلِفُ الأَْيْمَانَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا مُكَلَّفًا، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلاَ يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْل خَطَأً، فَإِنَّ الَّذِي يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ هُوَ مَنْ يَرِثُ الْمَقْتُول ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا (23) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ كَانَ لِلْقَتِيل وَرَثَةٌ وُزِّعَتِ الأَْيْمَانُ بِحَسَبِ الإِْرْثِ، وَجُبِرَ الْمُنْكَسِرُ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ (24) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيل ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ، وَلاَ يَقْدَحُ غَيْبَةُ بَعْضِهِمْ أَوْ نُكُولُهُ، فَلِلذَّكَرِ الْحَاضِرِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْلِفَ بِقِسْطِهِ وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ قَدِمَ مِنَ الْخَارِجِ، أَوْ كُلِّفَ أَنْ يَحْلِفَ بِقِسْطِ نَصِيبِهِ وَيَأْخُذَ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَدَلِيلُهُمْ فِي هَذَا قَوْل النَّبِيِّ ﷺ: يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلاً مِنْكُمْ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ (25) ؛ وَلأَِنَّهَا حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا قَتْل الْعَمْدِ، فَلاَ تُسْمَعُ مِنَ النِّسَاءِ كَالشَّهَادَةِ؛ وَلأَِنَّ الْجِنَايَةَ الْمُدَّعَاةَ الَّتِي تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا هِيَ الْقَتْل، وَلاَ مَدْخَل لِلنِّسَاءِ فِي إِثْبَاتِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَال ضِمْنًا، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَجُلٍ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا لِيَرِثَهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلاَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهَا الْمَال (26) .
الشَّرْطُ السَّابِعُ: وَصْفُ الْقَتْل فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ:
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَى الْقَسَامَةِ مُفَصَّلَةً (27) .
الشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ بِالْقَتِيل أَثَرُ قَتْلٍ:
13 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَتِيل أَثَرُ قَتْلٍ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ قَسَامَةَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْل فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَلاَ يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِذَا وُجِدَ وَالدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ أَوْ أَنْفِهِ أَوْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لاَ شَيْءَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً بِدُونِ الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا بِسَبَبِ الْقَيْءِ أَوِ الرُّعَافِ وَنَحْوِهِمَا، فَلاَ يُعْرَفُ كَوْنُهُ قَتِيلاً. وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِهِ، أَوْ أُذُنِهِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الدَّمَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً فَكَانَ خُرُوجُهُ بِسَبَبِ الْقَتْل، وَعَلَى هَذَا لاَ يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ اللَّوْثَ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ تُوجَدَ الْجُثَّةُ فِي مَحَلَّةٍ وَبِهَا أَثَرُ الْقَتْل، وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُودَ أَثَرِ الْقَتْل سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ اللَّوْثِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ ظُهُورُ دَمٍ وَلاَ جُرْحٍ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَسْأَل الأَْنْصَارَ هَل بِقَتِيلِهِمْ أَثَرٌ أَمْ لاَ؟ وَلأَِنَّ الْقَتْل يَحْصُل بِالْخَنْقِ وَعَصْرِ الْبَيْضَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ قَامَ مَقَامَ الدَّمِ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ أَثَرٌ أَصْلاً فَلاَ قَسَامَةَ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَإِنْ قَال فِي الْمُهِمَّاتِ: إِنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْصُوصَ وَقَوْل الْجُمْهُورِ بِثُبُوتِ الْقَسَامَةِ (28) .
الشَّرْطُ التَّاسِعُ: أَنْ يُوجَدَ الْقَتِيل فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لأَِحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيل مِلْكًا لأَِحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لأَِحَدٍ وَلاَ فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلاً فَلاَ قَسَامَةَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ، وَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَكَانِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لاَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلاَ لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ لاَ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَسَامَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ اللاَّزِمِ (29) .
وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ وُجِدَ الْقَتِيل فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَْرْضِ لَيْسَ بِمِلْكٍ لأَِحَدٍ فَإِنَّهُ لاَ قَسَامَةَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ لاَ يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنَ الأَْمْصَارِ وَلاَ مِنْ قَرْيَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْمَعُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَقْتُول فِي قَرْيَةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ إِذَا كَانَ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا لاَ يُعْتَبَرُ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ يَدْخُل قَرْيَتَهُمْ سِوَاهُمْ، وَوُجِدَ قَتِيلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، كَمَا فِي قَضِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ ﵁، فَإِنَّهُ ﵊ جَعَل فِيهِ الْقَسَامَةَ لاِبْنَيْ عَمِّهِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لأَِنَّ خَيْبَرَ مَا كَانَ يُخَالِطُ الْيَهُودَ فِيهَا غَيْرُهُمْ (30) .
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَلاَّ يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ الْقَتِيل غَيْرُ الْعَدُوِّ. لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَسْأَل الأَْنْصَارَ هَل كَانَ فِي خَيْبَرَ غَيْرُ الْيَهُودِ أَمْ لاَ؟ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُ غَيْرِهِمْ فِيهَا (31) .
الشَّرْطُ الْعَاشِرُ: إِنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
15 - ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ، قَال ﵊: وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (32) فَجَعَل جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ، فَيَنْفِي وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُنْكِرِ (33) .
الشَّرْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الإِْسْلاَمُ:
16 - وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَقْتُول (34) فَلاَ تَصِحُّ الْقَسَامَةُ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا، فَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيل الْكَافِرِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَتَلَهُ بِشَاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ دِيَتَهُ فِي الْعَمْدِ مِنْ مَالِهِ، وَمَعَ الْعَاقِلَةِ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ شَاهِدٌ، فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَأْخُذُ دِيَتَهُ، وَيُضْرَبُ الْجَانِي مِائَةً فِي الْعَمْدِ وَيُحْبَسُ سَنَةً.
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ أَثْبَتُوا الْقَسَامَةَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا؛ لأَِنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَا نُصَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ؛ وَلأَِنَّ دَمَ الذِّمِّيِّ مَصُونٌ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ لِذِمَّتِهِ (35) ، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (36) .
كَيْفِيَّةُ الْقَسَامَةِ:
17 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَسَامَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو الزِّنَادِ فَقَالُوا: إِنَّ الأَْيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إِلَى الْمُدَّعِينَ، فَيُكَلَّفُونَ حَلِفَهَا لِيَثْبُتَ مُدَّعَاهُمْ وَيُحْكَمَ لَهُمْ بِهِ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا وُجِّهَتِ الأَْيْمَانُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَيَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيل خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَظْهِرَ الْحَالِفُ أَلْفَاظَ الْيَمِينِ حَتَّى تَكُونَ الْيَمِينُ مُؤَكَّدَةً فَيَقُول: وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَْعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. . . وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ بَاتَّةً قَاطِعَةً فِي ارْتِكَابِ الْمُتَّهَمِ الْجَرِيمَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالاِشْتِرَاكِ مَعَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ مَا إِذَا كَانَ الْجَانِي قَدْ تَعَمَّدَ الْقَتْل أَمْ لاَ فَيَقُول: وَاللَّهِ إِنَّ فُلاَنًا ابْنَ فُلاَنٍ قَتَل فُلاَنًا مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ مَا شَرِكَهُ غَيْرُهُ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ (37) أَنْ تَكُونَ الأَْيْمَانُ مُتَوَالِيَةً، فَلاَ تُفَرَّقُ عَلَى أَيَّامٍ أَوْ أَوْقَاتٍ؛ لأَِنَّ لِلْمُوَالاَةِ أَثَرًا فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةِ مُوَالاَتُهَا؛ لأَِنَّ الأَْيْمَانَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَجِ، وَالْحُجَجُ يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا كَمَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنْ حَلَفُوا ثَبَتَ مُدَّعَاهُمْ، وَحُكِمَ لَهُمْ إِمَّا بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ عَلَى الْخِلاَفِ فِي مُوجِبِ الْقَسَامَةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ، فَيَقُول: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلاَ شَارَكْتُ فِي قَتْلِهِ وَلاَ تَسَبَّبْتُ فِي مَوْتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِئَ الْمُتَّهَمُونَ، وَكَانَتْ دِيَةُ الْقَتِيل فِي بَيْتِ الْمَال عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (38) ، وَإِنْ نَكَل الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الأَْيْمَانُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمُدَّعِينَ (39) ، فَإِنْ حَلَفُوا عُوقِبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا لاَ شَيْءَ لَهُمْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (40) مَنْ نَكَل مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَمُوتَ فِي السِّجْنِ، وَقِيل: يُجْلَدُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا، وَلاَ يُحْبَسُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَسَائِرِ الأَْيْمَانِ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ لِمَذْهَبِهِمْ هَذَا بِمَا رَوَى سَهْل بْنُ أَبِي حَثْمَةَ " أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِل وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَال: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَل حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَل هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ - وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ أَخُو الْمَقْتُول فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ يَتَكَلَّمُ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ - فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُول اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا لاَ، قَال: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ، قَالُوا لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ مِنْ عِنْدِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ قَال سَهْلٌ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ (41) .
فَقَدْ وَجَّهَ النَّبِيُّ ﷺ الْيَمِينَ أَوَّلاً إِلَى الْمُدَّعِينَ حِينَمَا سَأَلَهُمْ قَائِلاً: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِمُ ابْتِدَاءً مَا وَجَّهَهَا الرَّسُول ﷺ إِلَيْهِمْ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، فَقَدْ قَالُوا بِتَوْجِيهِ تِلْكَ الأَْيْمَانِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً، فَإِنْ حَلَفُوا لَزِمَ أَهْل الْمَحَلَّةِ الدِّيَةُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ " عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ زَعَمَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ يُقَال لَهُ سَهْل بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلاً وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا مَا قَتَلْنَا وَلاَ عَلِمْنَا قَاتِلاً، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا يَا رَسُول اللَّهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلاً، فَقَال: الْكُبْرَ الْكُبْرَ، فَقَال لَهُمْ تَأْتُونِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَال: فَيَحْلِفُونَ، قَالُوا لاَ نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنْ يُطَل دَمُهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ (42) .
دَل هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَوَّل مَا يُطْلَبُ فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى هُوَ الْبَيِّنَةُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ بَيِّنَةٌ لِلْمُدَّعِي وُجِّهَتِ الأَْيْمَانُ الْخَمْسُونَ الْخَاصَّةُ بِدَعْوَى الْقَسَامَةِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، كَمَا نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ حَلَفُوا بَرِئُوا وَانْتَهَتِ الْخُصُومَةُ، وَلَكِنَّ الأَْنْصَارَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ لَمْ يَقْبَلُوا أَنْ يَحْلِفَ لَهُمُ الْيَهُودُ لِكُفْرِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَعْطَى رَسُول اللَّهِ ﷺ دِيَتَهُ لأَِهْلِهِ مِنْ عِنْدِهِ كَيْ لاَ يُهْدَرَ دَمُ مُسْلِمٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا نَكَل مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، وَكَذَا إِنْ نَكَل جَمِيعُ الْمُحَلَّفِينَ؛ لأَِنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَيْسَتْ وَسِيلَةً لِتَحْصِيل غَيْرِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدِّيَةِ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُحَلَّفُونَ لَمْ تَسْقُطِ الدِّيَةُ عَنْهُمْ، بِخِلاَفِ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الأَْمْوَال، فَإِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْمَال بَرِئَ وَسَقَطَ الْمَال الَّذِي أَرَادَهُ الْمُدَّعِي، لِهَذَا فَإِنَّ مَنْ نَكَل حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.
وَالْحَبْسُ عِنْدَ النُّكُول إِنَّمَا يَكُونُ فِي دَعْوَى الْقَتْل الْعَمْدِ، أَمَّا فِي الْخَطَأِ فَيُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ وَلاَ يُحْبَسُونَ؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْخَطَأِ الْمَال فَيُقْضَى بِهِ عِنْدَ النُّكُول.
وَدَلِيلُهُمْ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الأَْزْمَعِ أَنَّهُ قَال لِسَيِّدِنَا عُمَرَ ﵁: أَنَبْذُل أَيْمَانَنَا وَأَمْوَالَنَا؟ فَقَال نَعَمْ (43) .
مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْقَسَامَةُ:
18 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إِلَى الرِّجَال الأَْحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلاَءِ مِنْ عَشِيرَةِ الْمَقْتُول الْوَارِثِينَ لَهُ، كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ تَوَجُّهِهَا إِلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي تَوْجِيهِهَا إِلَى النِّسَاءِ أَوْ غَيْرِ الْوَارِثِينَ مِنَ الْعَصَبَةِ.
وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْل عَمْدًا، وَبَيْنَ كَوْنِهِ خَطَأً، وَاشْتَرَطُوا فِي الْقَتْل الْعَمْدِ الذُّكُورَةَ وَالْعُصُوبَةَ وَالْعَدَدَ (44) .
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَحْلِفَ وَرَثَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا طَلَبُوا الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ، وَتُوَزَّعُ الأَْيْمَانُ عَلَى الْعَصَبَةِ، وَلاَ يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَل مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لأَِنَّ النِّسَاءَ لاَ يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ لِعَدَمِ شَهَادَتِهِنَّ فِيهِ فَإِنِ انْفَرَدْنَ عَنْ رَجُلَيْنِ صَارَ الْمَقْتُول كَمَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، فَتُرَدُّ الأَْيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَيَحْلِفُ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَال إِذَا كَانَ الْقَتْل خَطَأً بِخِلاَفِ الْعَمْدِ، لاِنْفِرَادِ الرِّجَال بِهِ، وَتُوَزَّعُ الأَْيْمَانُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْخَطَأِ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهَا تُحَلَّفُ الأَْيْمَانَ كُلَّهَا وَتَأْخُذُ حَظَّهَا مِنَ الدِّيَةِ، وَيَسْقُطُ مَا عَلَى الْجَانِي مِنَ الدِّيَةِ لِتَعَذُّرِ الْحَلِفِ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَال.
وَإِذَا كُسِرَتِ الْيَمِينُ يُكْمَل عَلَى ذِي الأَْكْثَرِ مِنَ الْكُسُورِ وَلَوْ أَقَلَّهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِهِ، كَابْنٍ وَبِنْتٍ عَلَى الاِبْنِ ثَلاَثَةٌ وَثَلاَثُونَ يَمِينًا وَثُلُثٌ وَعَلَى الْبِنْتِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيُجْبَرُ كَسْرُ الْيَمِينِ عَلَى الْبِنْتِ لأَِنَّ كَسْرَ يَمِينِهَا أَكْثَرُ مِنْ كَسْرِ يَمِينِ الاِبْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبِنْتُ أَقَل نَصِيبًا فَتَحْلِفُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا فَإِنْ تَسَاوَتِ الْكُسُورُ جَبَرَ كُل وَاحِدٍ كَسْرَهُ، كَثَلاَثَةِ بَنِينَ فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَتَكْمُل عَلَى كُلٍّ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا.
جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: وَإِنَّمَا يَحْلِفُ وُلاَةُ الدَّمِ فِي الْخَطَأِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنَ الْمَيِّتِ فِي قَوْل مَالِكٍ، قَال: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهَل يُقْسِمُالنِّسَاءُ فِي قَتْل الْعَمْدِ فِي قَوْل مَالِكٍ؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: فَهَل يُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ فِي قَوْل مَالِكٍ؟ قَال: نَعَمْ (45) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْلِفُ كُل وَارِثٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ، رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ بِالْقَتْل، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ؛ لأَِنَّ الْقَسَامَةَ عِنْدَهُمْ يَمِينٌ فِي الدَّعْوَى، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى.
قَال الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيل وَارِثَانِ فَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْقَسَامَةِ لَمْ يُمْنَعْ ذَلِكَ الآْخَرُ مِنْ أَنْ يُقْسِمَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ (46) ، وَتُوَزَّعُ الأَْيْمَانُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِذَا كَانَ الْمَقْتُول بِلاَ وَارِثٍ سَقَطَتِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، إِلاَّ إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ الْقَتْل عَلَى مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَنْصِبَهُ لِلْحَلِفِ فِي الْقَسَامَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَسْتَحِقَّ بَيْتُ الْمَال الدِّيَةَ، وَإِنْ نَكَل فَقَدِ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَجْهٌ يُسْقِطُ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ، وَالْوَجْهُ الآْخَرُ يُوجِبُ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ (47) . وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي الأَْوْلِيَاءِ نِسَاءٌ وَرِجَالٌ أَقْسَمَ الرِّجَال وَسَقَطَ حُكْمُ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَرِجَالٌ بَالِغُونَ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ حَاضِرُونَ وَغَائِبُونَ لاَ تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، وَكَذَا لاَ تَثْبُتُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ كَامِلَةٍ، وَالْبَيِّنَةُ أَيْمَانُ الأَْوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَالأَْيْمَانُ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ (48) .
وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْل إِذَا كَانَ عَمْدًا لاَ يَحْلِفُ الْكَبِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ، وَلاَ الْحَاضِرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَمِنْ شَرْطِهِ عِنْدَهُمْ مُطَالَبَةُ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُول بِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْل غَيْرَ عَمْدٍ، فَأَجَازَ قَسَامَةَ الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ دُونَ اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَحُضُورِ الْغَائِبِ؛ لأَِنَّ مَا يَجِبُ بِقَسَامَتِهِمْ هُوَ الدِّيَةُ، فَيَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمْ قِسْطَهُ مِنْهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ يَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ - وَهُمْ وَرَثَتُهُ - وَتُوَزَّعُ الأَْيْمَانُ كَسِهَامِ التَّرِكَةِ، وَيُبْدَأُ بِالذُّكُورِ، وَتُرَدُّ الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُول إِلاَّ النِّسَاءُ، وَكَذَا إِذَا نَكَل الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ وَلَمْ يَرْضَوْا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَال، قِيَاسًا عَلَى مَنْ قُتِل فِي زِحَامٍ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ كَقَتِيلٍ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي جُمُعَةٍ (49) .
وَالْحَنَفِيَّةُ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يَخْتَارُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيل وَيُحَلِّفُهُمْ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الصَّالِحِينَ أَوِ الْفَسَقَةَ، كَمَا يَحِقُّ لَهُ اخْتِيَارُ الشُّبَّانِ وَالشُّيُوخِ، وَيَكُونُ الاِخْتِيَارُ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيل، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، أَيْ عَوَاقِل كُل مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ خَصَّ الْوَلِيُّ قَاتِلاً مُعَيَّنًا مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ (50) .
الْقَوْل الأَْوَّل: يُوجِبُ الْقَسَامَةَ عَلَى خَمْسِينَ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَسَامَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُمْ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ تُدِينُ الْقَاتِل الْمُخَصَّصَ، قَال السَّرَخْسِيُّ: وَإِنِ ادَّعَى أَهْل الْقَتِيل عَلَى بَعْضِ أَهْل الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيل بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَقَالُوا: قَتَلَهُ فُلاَنٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، لَمْ يُبْطِل هَذَا حَقَّهُ، وَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لأَِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا كَانَ مَعْلُومًا لَنَا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاتِل وَاحِدٌ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ، وَلَكِنَّا لاَ نَعْلَمُ ذَلِكَ حَقِيقَةً (51) . الْقَوْل الثَّانِي: رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ عَنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ، لأَِنَّ دَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، يَكُونُ إِبْرَاءً لأَِهْل الْمَحَلَّةِ عَنِ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيل الَّذِي لاَ يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَإِذَا زَعَمَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ يُعْرَفُ الْقَاتِل مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، صَارَ مُبْرِئًا لَهُمْ عَنِ الْقَسَامَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْوَلِيُّ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْمَحَلَّةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُل، فَقَدْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْل بِالْحُجَّةِ، فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ، وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمَا؛ لأَِنَّ أَهْل الْمَحَلَّةِ خُصُومٌ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مَا بَقِيَتِ الْقَسَامَةُ (52) .
وَتَسْقُطُ الْقَسَامَةُ عَنِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيل إِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْل عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيل، وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى إِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ، لِلتَّنَاقُضِ بَيْنَ الإِْبْرَاءِ وَالاِتِّهَامِ، وَإِذَا اتَّهَمَتِ الْمَحَلَّةُ قَاتِلاً مُعَيَّنًا فِيهَا أَوْ فِي غَيْرِهَا كُلِّفَتْ بِإِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أَحْضَرَتِ الْبَيِّنَةَ وَوَافَقَ الْوَلِيُّ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَلَوِ ادَّعَى أَهْل تِلْكَ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ تَصِحُّ دَعْوَاهُمْ، فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُل يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ إِنْ وَافَقَهُمُ الأَْوْلِيَاءُ فِي الدَّعْوَى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُل، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لأَِنَّ الأَْوْلِيَاءَ قَدْ أَبْرَءُوهُ حَيْثُ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْقَتْل مِنْهُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ أَيْضًا شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَتْل عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَحَلَفَ ذَلِكَ الرَّجُل، تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ (53) .
وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا مُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ ذِمِّيٌّ، فَلاَ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ لأَِنَّ تَدْبِيرَ الْمِلْكِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَل الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يُزَاحِمُهُمُ الذِّمِّيُّ، لأَِنَّهُ تَابِعٌ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النِّسَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْل فِي قَرْيَةٍ لأَِهْل الذِّمَّةِ، فَقَدْ وَجَبَتِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ، لأَِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْ تَدْبِيرِ مِلْكِهِمْ.
أَمَّا إِذَا كَانَ هَذَا الْحَادِثُ فِي زَمَانِنَا هَذَا فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ الَّتِي اشْتَرَكَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالذِّمِّيُّونَ، فَتَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسَاوِي، إِلاَّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَحَمَّل عَوَاقِلُهُمُ الدِّيَةَ، وَالذِّمِّيَّ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ. وَقَدْ اسْتَدَل السَّرَخْسِيُّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ بِقِصَّةِ الرَّجُل الْمَقْتُول مِنْ قِبَل الْيَهُودِ فِي خَيْبَرَ، إِذْ إِنَّ الرَّسُول ﷺ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ، قَال السَّرَخْسِيُّ: إِذَا وُجِدَ الْقَتِيل فِي قَرْيَةٍ أَصْلُهَا لِقَوْمٍ شَتَّى، فِيهِمُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْل الْقَرْيَةِ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ وَالْكَافِرُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لأَِنَّ الرَّسُول ﷺ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْل الْقَرْيَةِ (خَيْبَرَ) وَكَانُوا مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ، فَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ، وَمَا أَصَابَ أَهْل الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِل فَعَلَيْهِمْ وَإِلاَّ فَفِي أَمْوَالِهِمْ (54) ، وَتَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى الأَْحْرَارِ الْبَالِغِينَ؛ لأَِنَّهُمْ أَهْل النُّصْرَةِ، أَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلاَ قَسَامَةَ عَلَيْهِمَا؛ لأَِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْل النُّصْرَةِ، وَقَوْل الْمَجْنُونِ لَيْسَ صَحِيحًا، فَلاَ قَسَامَةَ عَلَيْهِمَا، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لاَ تَشْتَرِكُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ إِذَا كَانَ الْقَتِيل فِي غَيْرِ مِلْكِهَا، وَعَلَيْهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا إِذَا كَانَ الْقَتْل فِي مِلْكِهَا، وَهَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لأَِنَّهَا مَسْئُولَةٌ عَنْ تَدْبِيرِ مِلْكِهَا، لأَِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْمَالِكِ هُوَ الْمِلْكُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الْقَسَامَةِ، وَقَدْ وُجِدَا فِي حَقِّهَا، أَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لَهَا، وَأَمَّا الأَْهْلِيَّةُ فَلأَِنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ وَأَنَّهَا مِنْ أَهْل الْيَمِينِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهَا تُسْتَحْلَفُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَعْنَى النُّصْرَةِ يُرَاعَى وُجُودُهُ فِي الْجُمْلَةِ لاَ فِي كُل فَرْدٍ كَالْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ (55) .
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ: فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ الَّذِي يَرَى أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى الْحَاضِرِ فَقَطْ دُونَ الْغَائِبِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَسْئُولاً عَنْ تَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ أَثْنَاءَ غِيَابِهِ (56) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْقَسَامَةِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُجِّيَّةِ الْقَسَامَةِ، وَوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى عَوَاقِل الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَ الْقَتْل خَطَأً، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَجِبُ بِهَا إِذَا كَانَ الْقَتْل الْمُدَّعَى بِهِ عَمْدًا
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ، وَبِهِ قَال الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ (57) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وُجُوبَ الدِّيَةِ وَعَدَمَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ صَحَابَةِ رَسُول اللَّهِ ﷺ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمْ ﵃، وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ (58) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ وَذَكَرُوا الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لاَ (59) .
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَسَامَةُ الدَّمِ، فَأَقَرَّهَا رَسُول اللَّهِ ﷺ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُول اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أُنَاسٍ مِنَ الأَْنْصَارِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ (60) ، فَإِضَافَةُ قَسَامَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى الدَّمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُحْكَمُ بِهَا بِالْقِصَاصِ.
وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: " أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِل وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَال: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ فَأَقْبَل حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَل هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ - يُرِيدُ السِّنَّ - فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُول اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لاَ، قَال: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُول اللَّهِ ﷺ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ فَقَال سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ (61) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ ﵁ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا، فَقَال: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ قَالُوا: نَقُول الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَ بِهَا الْخُلَفَاءُ (62) ، قَال لِي: مَا تَقُول يَا أَبَا قِلاَبَةَ، وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَكَ رُءُوسُ الأَْجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى وَلَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصٍ أَنَّهُ سَرَقَ أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا قَتَل رَسُول اللَّهِ ﷺ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ فِي إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: رَجُلٍ قَتَل بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِل، أَوْ رَجُلٍ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٍ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الإِْسْلاَمِ. . . إِلَخْ. الْحَدِيثَ (63) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلاً فِي بَنِي فُلاَنٍ، فَقَال ﵊: اجْمَعْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلاَ عَلِمُوا لَهُ قَاتِلاً، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ لَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إِلاَّ هَذَا؟ فَقَال: بَل لَكَ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل (64) ، فَدَل عَلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ - وَهُمْ أَهْل الْمَحَلَّةِ - مَعَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَاصَ فِي الْحَدِيثِ، بَل قَصَرَهُ الرَّسُول ﷺ عَلَى دَفْعِ مِائَةٍ مِنَ الإِْبِل.
وَلأَِنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَ أَهْل الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ الْقَتِيل بِهَا بِالْقَتَلَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، لأَِنَّهُ يَلْزَمُهُمْ حِفْظُ مَحَلَّتِهِمْ وَصِيَانَتُهَا مِنَ النَّوَائِبِ وَالْقَتْل، فَكَانَ وُقُوعُ الْقَتْل بِمَحَلَّتِهِمْ تَقْصِيرًا مِنْهُمْ عَنْ هَذِهِ الصِّيَانَةِ وَحِفْظِهَا (65) .
مُبْطِلاَتُ الْقَسَامَةِ:
20 - تَبْطُل الْقَسَامَةُ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - بِالإِْبْرَاءِ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً.
أَمَّا الإِْبْرَاءُ الصَّرِيحُ: فَهُوَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الإِْبْرَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَقَوْلِهِ: أَبْرَأْتُ، أَوْ أَسْقَطْتُ، أَوْ عَفَوْتُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. لأَِنَّ رُكْنَ الإِْبْرَاءِ صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْل الإِْبْرَاءِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْبَرَاءَةِ، فَيَصِحُّ.
وَأَمَّا الإِْبْرَاءُ الضِّمْنِيُّ " دَلاَلَةً " فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ وَلِيُّ الْقَتِيل عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ قَتَل الْقَتِيل، فَيَبْرَأُ أَهْل الْمَحَلَّةِ مِنَ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ؛ لأَِنَّ ظُهُورَ الْقَتِيل فِي الْمَحَلَّةِ لَمْ يَدُل عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَاتِلٌ، فَإِقْدَامُ الْوَلِيِّ عَلَى الدَّعْوَى عَلَيْهِ يَكُونُ نَفْيًا لِلْقَتْل عَنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ فَيَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُمْ عَنِ الْقَسَامَةِ (66) .
كَمَا تَبْطُل الْقَسَامَةُ بِإِقْرَارِ رَجُلٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ الْقَاتِل، فَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَال: مَا قَتَلَهُ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَل أَنَا قَتَلْتُهُ، فَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ، لَمْ تَبْطُل دَعْوَاهُ، وَلَهُ الْقَسَامَةُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ رَدُّ الدِّيَةِ إِنْ كَانَ قَبَضَهَا، وَلاَ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلِيُّ أَوْ طَالَبَهُ بِمُوجِبِ الْقَتْل لَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، وَبَطَلَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الأَْوَّل، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ مُطَالَبَةُ الْمُقِرِّ قَوْلاَنِ.
وَكَذَلِكَ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْقَاتِل غَيْرُ هَذَا، كَأَنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْل فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُول لاَ يُمْكِنُ مَجِيئُهُ مِنْهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ تَبْطُل دَعْوَى الْقَسَامَةِ، وَإِنْ قَالَتِ الْبَيِّنَةُ: نَشْهَدُ أَنَّ فُلاَنًا لَمْ يَقْتُلْهُ لَمْ تُقْبَل الشَّهَادَةُ؛ لأَِنَّهَا نَفْيٌ مُجَرَّدٌ، وَإِنْ قَالاَ: مَا قَتَلَهُ فُلاَنٌ، بَل فُلاَنٌ، سُمِعَتْ؛ لأَِنَّهَا شَهَادَةُ إِثْبَاتٍ يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ (67) . وَإِذَا بَطَلَتِ الْقَسَامَةُ لأَِحَدِ الأُْمُورِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِيمَا أَخَذَهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ.
__________
(1) المصباح المنير، وترتيب القاموس المحيط.
(2) بدائع الصنائع 7 / 286، وتكملة فتح القدير 8 / 384.
(3) مواهب الجليل شرح مختصر خليل 6 / 273، والقوانين الفقهية ص 228.
(4) مغني المحتاج 4 / 109.
(5) المغني والشرح الكبير 10 / 2، والفروع لابن مفلح 6 / 46.
(6) القاموس المحيط.
(7) مطالب أولي النهى 6 / 357، 358.
(8) روضة الطالبين 10 / 10.
(9) حديث: سهل بن أبي حثمة. أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 229) ومسلم (3 / 1291 - 1292) واللفظ لمسلم.
(10) حديث: " رجل من الأنصار. . . " أخرجه مسلم (3 / 1295) .
(11) فتح الباري شرح صحيح البخاري 12 / 235.
(12) حديث: أن النبي ﷺ قال: " لو يعطى الناس بدعواهم. . . " أخرجه مسلم (3 / 1336) من حديث ابن عباس.
(13) المغني والشرح الكبير 10 / 9.
(14) بداية المجتهد 2 / 428.
(15) مغني المحتاج 4 / 111، وروضة الطالبين 10 / 10، والمغني والشرح الكبير 10 / 7، 8، وشرح الخرشي 8 / 51، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7 / 370.
(16) منتهى الإرادات 3 / 333، ومطالب أولي النهى 6 / 148، والوجيز في الفقه للغزالي 2 / 159، وروضة الطالبين 10 / 4.
(17) الوجيز في الفقه للغزالي 2 / 159، ومغني المحتاج 4 / 110.
(18) المغني والشرح الكبير 10 / 4، 5، وشرح الخرشي 8 / 55.
(19) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 7 / 368، والوجيز في الفقه للغزالي 2 / 158.
(20) ابن عابدين 5 / 403، وتكملة فتح القدير 8 / 388.
(21) شرح الخرشي 8 / 51، والأنوار لأعمال الأبرار 2 / 58، والمغني والشرح الكبير 10 / 4، وكشاف القناع 6 / 73.
(22) مغني المحتاج 4 / 110 - 111، والوجيز في الفقه للغزالي 2 / 159.
(23) حاشية الدسوقي 4 / 293 - 295.
(24) مغني المحتاج 4 / 115 - 116.
(25) حديث: " يقسم خمسون رجلاً منكم وتستحقون. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 231) من حديث أنس بمعناه.
(26) المغني لابن قدامة 10 / 24، كشاف القناع 6 / 72 - 79.
(27) شرح الخرشي 8 / 51، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 6 / 270، ونهاية المحتاج 7 / 369 - 370، والأنوار لأعمال الأبرار 2 / 456، وحاشية البجيرمي 4 / 137، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 103، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 35.
(28) بدائع الصنائع 10 / 4739، وبداية المجتهد 2 / 431، ومغني المحتاج 4 / 111، والفواكه الدواني 2 / 249، والمغني والشرح الكبير 10 / 20، وكشاف القناع 6 / 70.
(29) بدائع الصنائع 7 / 289.
(30) حاشية الدسوقي 4 / 292، والفواكه الدواني 2 / 250، وروضة الطالبين 10 / 10.
(31) المغني مع الشرح الكبير 10 / 8.
(32) حديث: " واليمين على من أنكر ". أخرجه البيهقي (10 / 252) ، من حديث ابن عباس وذكره ابن حجر في التلخيص (4 / 39) وأعله بالإرسال وتضعيف أحد رواته.
(33) بدائع الصنائع 7 / 288.
(34) القوانين الفقهية ص 378، وشرح الخرشي 8 / 59، وحاشية الدسوقي 4 / 298، والفواكه الدواني 2 / 254.
(35) بدائع الصنائع 10 / 4742، والقليوبي وعميرة 4 / 63، والأم للشافعي 6 / 98، والمغني والشرح الكبير 10 / 31 - 32.
(36) حديث: " من آذى ذميًا فأنا خصمه. . . " أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (8 / 380) من حديث عبد الله ابن مسعود واستنكره.
(37) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 293.
(38) بداية المجتهد 2 / 430، وحاشية الدسوقي 4 / 289، ومغني المحتاج 4 / 116، والمغني والشرح الكبير 10 / 30.
(39) مغني المحتاج 4 / 116.
(40) القوانين الفقهية لابن جزي ص 229، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 296، والمغني والشرح الكبير 10 / 22.
(41) حديث سهل بن أبي حثمة. تقدم تخريجه ف / 4.
(42) حديث سهل بن أبي حثمة. أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 229 ط. السلفية) .
(43) المبسوط للسرخسي. . / 111، وحاشية ابن عابدين 5 / 403.
(44) شرح الخرشي 8 / 56 - 57.
(45) المدونة الكبرى 6 / 418، والشرح الصغير 4 / 418.
(46) الأحكام السلطانية للماوردي ص 282، والأم للشافعي 6 / 101.
(47) مغني المحتاج 4 / 118، وحاشية البجيرمي 4 / 137.
(48) المغني والشرح الكبير 10 / 25.
(49) منتهى الإرادات 3 / 335.
(50) أحكام القرآن للجصاص 2 / 227 - 228.
(51) المبسوط 26 / 114، وحاشية ابن عابدين 6 / 634.
(52) المبسوط 26 / 114 - 115، وبدائع الصنائع 10 / 4757، والاختيار 5 / 56.
(53) بدائع الصنائع 10 / 4758.
(54) المبسوط للسرخسي 26 / 111.
(55) بدائع الصنائع 10 / 4756.
(56) المبسوط للسرخسي 26 / 111.
(57) المدونة الكبرى 6 / 416، وشرح الخرشي 8 / 98، ونهاية المحتاج 7 / 376.
(58) نهاية المحتاج 7 / 376، والأم للشافعي 6 / 97، والمبسوط 26 / 111 وما بعدها.
(59) حديث عبد الله بن سهل. تقدم ف 4.
(60) حديث: " أن القسامة كانت في الجاهلية ". أخرجه البيهقي (8 / 122) بهذا اللفظ وهو في صحيح مسلم (3 / 1295) دون قوله " قسامة الدم ".
(61) حديث: " أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر ". تقدم تخريجه ف 4.
(62) المراد بالخلفاء معاوية، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري 2 / 240.
(63) المبسوط للسرخسي 26 / 109 وحديث " أبي قلابة " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 230) .
(64) حديث زياد بن أبي مريم: " جاء رجل إلى النبي ﷺ. . . " ذكره الكاساني في بدائع الصنائع 10 / 4736 - 4737، ولم نهتد إليه في المراجع الموجودة بين أيدينا، وأخرج البزار (كشف الأستار 2 / 209) حديثًا بهذا المعنى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه. وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 290) .
(65) بدائع الصنائع 10 / 4736 - 3737.
(66) بدائع الصنائع 10 / 4756، والمبسوط 26 / 115، وبداية المجتهد 2 / 431 الطبعة السادسة.
(67) المغني والشرح الكبير 10 / 30، وكشاف القناع 6 / 72.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 166/ 33
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".