المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
* شرح حدود ابن عرفة : (ص 177)
* القواعد : (1/236)
* المعيار المعرب : (6/388)
* الموسوعة الفقهية الكويتية : (36/332) -
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُرَاعَاةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ رَاعَاهُ: إِذَا لاَحَظَهُ وَرَاقَبَهُ، وَرَاعَيْتُ الأَْمْرَ: نَظَرْتُ فِي عَاقِبَتِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالْخِلاَفُ فِي اللُّغَةِ: الْمُضَادَّةُ (3) .
وَالْخِلاَفُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مُنَازَعَةٌ تَجْرِي بَيْنَ الْمُتَعَارَضِينَ لِتَحْقِيقِ حَقٍّ أَوْ إِبْطَال بَاطِلٍ (4) .
وَمُرَاعَاةُ الْخِلاَفِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْمَال دَلِيلٍ فِي لاَزِمِ مَدْلُول الَّذِي أُعْمِل فِي نَقِيضِهِ دَلِيلٌ آخَرُ (5) .
وَقَال أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَبَّابُ: حَقِيقَةُ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ هُوَ إِعْطَاءُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الدَّلِيلَيْنِ حُكْمَهُ (6) .
وَكَثِيرًا مَا يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنْ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ (7) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اسْتِحْبَابِ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ فِي الْجُمْلَةِ بِاجْتِنَابِ مَا اخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهِ وَفِعْل مَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ (8) .
وَلِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي: قَال أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَبَّابُ الْمَالِكِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مُرَاعَاةَ الْخِلاَفِ مِنْ مَحَاسِنِ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَحَقِيقَةُ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ، هُوَ إِعْطَاءُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الدَّلِيلَيْنِ حُكْمَهُ.
وَبَسْطُهُ: أَنَّ الأَْدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْهَا مَا تَتَبَيَّنُ قُوَّتُهُ تَبَيُّنًا يَجْزِمُ النَّاظِرُ فِيهِ بِصِحَّةِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ وَالْعَمَل بِإِحْدَى الأَْمَارَتَيْنِ فَهَاهُنَا لاَ وَجْهَ لِمُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ وَلاَ مَعْنًى لَهُ، وَمِنَ الأَْدِلَّةِ مَا يَقْوَى فِيهَا أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ وَتَتَرَجَّحُ فِيهَا إِحْدَى الأَْمَارَتَيْنِ قُوَّةً مَا وَرُجْحَانًا لاَ يَنْقَطِعُ مَعَهُ تَرَدُّدُ النَّفْسِ وَتَشَوُّفُهَا إِلَى مُقْتَضَى الدَّلِيل الآْخَرِ فَهَاهُنَا تَحْسُنُ مُرَاعَاةُ الْخِلاَفِ، وَيُعْمَل ابْتِدَاءً عَلَى الدَّلِيل الأَْرْجَحِ، لِمُقْتَضَى الرُّجْحَانِ فِي غَلَبَةِ ظَنِّهِ، فَإِذَا وَقَعَ عَقْدٌ أَوْ عِبَادَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيل الآْخَرِ لَمْ يُفْسَخِ الْعَقْدُ، وَلَمْ تَبْطُل الْعِبَادَةُ، لِوُقُوعِ ذَلِكَ عَلَى مُوَافَقَةِ دَلِيلٍ لَهُ فِي النَّفْسِ اعْتِبَارٌ.
وَلَيْسَ إِسْقَاطُهُ بِالَّذِي يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: إِعْطَاءُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الدَّلِيلَيْنِ حُكْمَهُ، فَيَقُول ابْتِدَاءً بِالدَّلِيل الَّذِي يَرَاهُ أَرْجَحَ، ثُمَّ إِذَا وَقَعَ الْعَمَل عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيل الآْخَرِ رَاعَى مَا لِهَذَا الدَّلِيل مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْقُطِ اعْتِبَارُهَا فِي نَظَرِهِ جُمْلَةً، فَهُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ مُوجِبِ الدَّلِيلَيْنِ (9) .
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَال: الْخِلاَفُ أَقْسَامٌ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ فِي التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيمِ فَالْخُرُوجُ مِنَ الْخِلاَفِ بِالاِجْتِنَابِ أَفْضَل.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ فِي الاِسْتِحْبَابِ وَالإِْيجَابِ، فَالْفِعْل أَفْضَل.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ فِي الشَّرْعِيَّةِ، كَقِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ صَلاَةُ الْكُسُوفِ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهَا سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَنْكَرَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فَالْفِعْل أَفْضَل.
وَالضَّابِطُ أَنَّ مَأْخَذَ الْخِلاَفِ، إِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ فَلاَ نَظَرَ إِلَيْهِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِمَّا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ تَقَارَبَتِ الأَْدِلَّةُ بِحَيْثُ لاَ يَبْعُدُ قَوْل الْمُخَالِفِ كُل الْبُعْدِ فَهَذَا مِمَّا يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنْهُ حَذَرًا مِنْ كَوْنِ الصَّوَابِ مَعَ الْخَصْمِ (10) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ: شَكَّكَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى قَوْلِنَا بِأَفْضَلِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ فَقَالُوا: الأَْوْلَوِيَّةُ وَالأَْفْضَلِيَّةُ إِنَّمَا تَكُونُ حَيْثُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الأُْمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ: قَوْلٌ بِالْحِل، وَقَوْلٌ بِالتَّحْرِيمِ وَاحْتَاطَ الْمُسْتَبْرِئُ لِدِينِهِ وَجَرَى عَلَى التَّرْكِ حَذَرًا مِنْ وَرَطَاتِ الْحُرْمَةِ لاَ يَكُونُ فِعْلُهُ ذَلِكَ سُنَّةً، لأَِنَّ الْقَوْل بِأَنَّ هَذَا الْفِعْل يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ مِنْ غَيْرِ عِقَابٍ عَلَى التَّرْكِ لَمْ يَقُل بِهِ أَحَدٌ، وَالأَْئِمَّةُ كَمَا تَرَى قَائِلٌ بِالإِْبَاحَةِ، وَقَائِلٌ بِالتَّحْرِيمِ فَمِنْ أَيْنَ الأَْفْضَلِيَّةُ (11) ؟ وَأَجَابَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: إِنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ لَيْسَتْ لِثُبُوتِ سُنَّةٍ خَاصَّةٍ فِيهِ، بَل لِعُمُومِ الاِحْتِيَاطِ وَالاِسْتِبْرَاءِ لِلدِّينِ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، فَكَانَ الْقَوْل بِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلاَفِ أَفْضَل، ثَابِتًا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ وَاعْتِمَادِهِ مِنَ الْوَرَعِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا (12) .
شُرُوطُ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ
3 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مَرَاتِبَ نَدْبِ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ قُوَّةِ دَلِيل الْمُخَالِفِ وَضَعْفِهِ، وَقَالُوا: يُنْدَبُ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلاَفِ، لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ لُزُومِ ارْتِكَابِ مَكْرُوهِ مَذْهَبِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ: بَقِيَ: هَل الْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ هُنَا مَا يَعُمُّ التَّنْزِيهِيَّةَ؟ تَوَقَّفَ فِيهِ الطَّحْطَاوِيُّ وَالظَّاهِرُ: نَعَمْ، كَالتَّغْلِيسِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَعَ أَنَّ الأَْفْضَل عِنْدَنَا الإِْسْفَارُ فَلاَ يُنْدَبُ مُرَاعَاةُ الْخِلاَفِ فِيهِ، وَكَصَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ الأَْفْضَل عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَرَامٌ، وَلَمْ أَرَ مَنْ قَال: يُنْدَبُ عَدَمُ صَوْمِهِ مُرَاعَاةً لِلْخِلاَفِ، وَكَالاِعْتِمَادِ وَجِلْسَةِ الاِسْتِرَاحَةِ، السُّنَّةُ عِنْدَنَا تَرْكُهُمَا، وَلَوْ فَعَلَهُمَا لاَ بَأْسَ، فَيُكْرَهُ فِعْلُهُمَا تَنْزِيهًا مَعَ أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (13) .
وَشُرُوطُ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ - هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُ الْمُخَالِفِ قَوِيًّا، فَإِنْ كَانَ وَاهِيًا لَمْ يُرَاعَ (14) . ب - أَنْ لاَ تُؤَدِّيَ مُرَاعَاةُ الْخِلاَفِ إِلَى خَرْقِ الإِْجْمَاعِ كَمَا نُقِل عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِل أُذُنَيْهِ مَعَ الْوَجْهِ، وَيَمْسَحُهُمَا مَعَ الرَّأْسِ، وَيُفْرِدُهُمَا بِالْغَسْل مُرَاعَاةً لِمَنْ قَال: إِنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ أَوِ الرَّأْسِ أَوْ عُضْوَانِ مُسْتَقِلاَّنِ، فَوَقَعَ فِي خِلاَفِ الإِْجْمَاعِ، إِذْ لَمْ يَقُل أَحَدٌ بِالْجَمْعِ.
ج - أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ مُمْكِنًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلاَ يَتْرُكُ الرَّاجِحَ عِنْدَ مُعْتَقَدِهِ لِمُرَاعَاةِ الْمَرْجُوحِ، لأَِنَّ ذَلِكَ عُدُولٌ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ قَطْعًا، وَمِثَالُهُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اشْتِرَاطِ الْمِصْرِ الْجَامِعِ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ، لاَ يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ عِنْدَ مَنْ يَقُول إِنَّ أَهْل الْقُرَى إِذَا بَلَغُوا الْعَدَدَ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ لَزِمَتْهُمْ وَلاَ يَجْزِيهِمُ الظُّهْرُ، فَلاَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَمِثْلُهَا أَيْضًا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ أَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ مَصِيرُ ظِل الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ، وَقَوْل الإِْصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا: هَذَا آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ مُطْلَقًا وَيَصِيرُ بَعْدَهُ قَضَاءً وَإِنْ كَانَ هَذَا وَجْهًا ضَعِيفًا غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْخُرُوجُ مِنْ خِلاَفِهِمَا جَمِيعًا.
وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ فَإِنَّ الإِْصْطَخْرِيَّ يَخْرُجُ عِنْدَهُ وَقْتُ الْجَوَازِ بِالإِْسْفَارِ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ الأَْفْضَل.وَكَذَلِكَ يَضْعُفُ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلاَفِ إِذَا أَدَّى إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الْعِبَادَةِ لِقَوْل الْمُخَالِفِ بِالْكَرَاهَةِ، أَوِ الْمَنْعِ مِنَ الْعِبَادَةِ لِقَوْل الْمُخَالِفِ بِالْكَرَاهَةِ أَوِ الْمَنْعِ.
كَالْمَشْهُورِ مِنْ قَوْل مَالِكٍ: إِنَّ الْعُمْرَةَ لاَ تَتَكَرَّرُ فِي السَّنَةِ، وَقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهَا تُكْرَهُ لِلْمُقِيمِ بِمَكَّةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ التَّمَتُّعُ مَشْرُوعًا لَهُ، وَرُبَّمَا قَالُوا: إِنَّهَا تَحْرُمُ، فَلاَ يَنْبَغِي لِلشَّافِعِيِّ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ، لِضَعْفِ مَأْخَذِ الْقَوْلَيْنِ وَلِمَا يَفُوتُهُ مِنْ كَثْرَةِ الاِعْتِمَارِ، وَهُوَ مِنَ الْقُرُبَاتِ الْفَاضِلَةِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلاَفِ لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ تَعَبُّدٍ كَالْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ فِي غُسْل الْجَنَابَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَلِكَ الاِسْتِنْشَاقُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْغُسْل مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَمَانِي مَرَّاتٍ وَالْغُسْل مِنْ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ ثَلاَثًا لِخِلاَفِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَبْعًا لِخِلاَفِ أَحْمَدَ وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِخِلاَفِ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِهَا، وَالتَّبْيِيتُ فِي نِيَّةِ صَوْمِ النَّفْل، فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ وُجُوبُهُ، وَإِتْيَانُ الْقَارِنِ بِطَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ مُرَاعَاةً لِخِلاَفِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُوَالاَةُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لأَِنَّ مَالِكًا يُوجِبُهَا، وَكَذَلِكَ التَّنَزُّهُ عَنْ بَيْعِ الْعِينَةِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْعُقُودِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَأَصْل هَذَا الاِحْتِيَاطِ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ:فَأَمَّا أَنَا فَأُحِبُّ أَنْ لاَ أُقْصِرَ فِي أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: أَفْتَى بِمَا قَامَتِ الدَّلاَلَةُ عِنْدَهُ عَلَيْهِ أَيٌّ مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ، ثُمَّ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ اخْتِيَارًا لَهَا، وَقَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: أَرَادَ خِلاَفَ أَبِي حَنِيفَةَ (15) .
الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلاَفِ بِإِتْيَانِ مَا لاَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ
4 - إِذَا وَقَعَ الْخِلاَفُ فِي وُجُوبِ شَيْءٍ، فَأَتَى بِهِ مَنْ لاَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ احْتِيَاطًا، كَالْحَنَفِيِّ يَنْوِي فِي الْوُضُوءِ وَيُبَسْمِل فِي الصَّلاَةِ، فَهَل يَخْرُجُ مِنَ الْخِلاَفِ وَتَصِيرُ الْعِبَادَةُ مِنْهُ صَحِيحَةً بِالإِْجْمَاعِ؟ .
قَال الزَّرْكَشِيُّ نَقْلاً عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الإِْسْفَرَايِينِيِّ: لاَ يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْخِلاَفِ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِ مِمَّنْ يُخَالِفُهُ لاَ تَكُونُ صَلاَتُهُ صَحِيحَةً بِالإِْجْمَاعِ.
وَقَال الْجُمْهُورُ: بَل يَخْرُجُ لأَِجْل وُجُودِ الْفِعْل، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ حَنَفِيٌّ هَذَا حَالُهُ وَآخَرُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ، فَالصَّلاَةُ خَلْفَ الثَّانِي أَفْضَل، لأَِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ بِالأَْوَّل عَنِ الْخِلاَفِ بِالإِْجْمَاعِ، فَلَوْ قَلَّدَ فِيهِ فَكَذَلِكَ لِلْخِلاَفِ فِي امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ (16) .
مُرَاعَاةُ الْخِلاَفِ فِيمَا بَعْدَ وُقُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ
5 - قَال الشَّاطِبِيُّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ النَّظَرِ فِي مَآلاَتِ الأَْفْعَال مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا: هَذَا الأَْصْل يَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ مِنْهَا: قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْنُوعَاتِ فِي الشَّرْعِ إِذَا وَقَعَتْ فَلاَ يَكُونُ إِيقَاعُهَا عَنِ الْمُكَلَّفِ سَبَبًا فِي الْحَيْفِ عَلَيْهِ بِزَائِدٍ عَمَّا شُرِعَ لَهُ مِنَ الزَّوَاجِرِ أَوْ غَيْرِهَا كَالزَّانِي إِذَا حُدَّ لاَ يُزَادُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ لأَِنَّهُ ظُلْمٌ لَهُ، وَكَوْنُهُ جَانِيًا لاَ يُجْنَى عَلَيْهِ زَائِدًا عَلَى الْحَدِّ الْمُوَازِي لِجِنَايَتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ التَّعَدِّي أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ وَاقَعَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَقَدْ يَكُونُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الأَْحْكَامِ زَائِدٌ عَلَى مَا يَنْبَغِي بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لاَ بِحُكْمِ الأَْصَالَةِ، أَوْ مُؤَدٍّ إِلَى أَمْرٍ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُقْتَضَى النَّهْيِ فَيُتْرَكُ وَمَا فَعَل مِنْ ذَلِكَ، أَوْ نُجِيزُ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَسَادِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِالْعَدْل، نَظَرًا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَاقِعَ وَاقِعُ الْمُكَلَّفِ فِيهِ دَلِيلاً عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا فَهُوَ رَاجِحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِبْقَاءِ الْحَالَةِ عَلَى مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِزَالَتِهَا مَعَ دُخُول ضَرَرٍ عَلَى الْفَاعِل أَشَدَّ مِنْ مُقْتَضَى النَّهْيِ، فَيَرْجِعُ الأَْمْرُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ دَلِيلُهُ أَقْوَى قَبْل الْوُقُوعِ، وَدَلِيل الْجَوَازِ أَقْوَى بَعْدَ الْوُقُوعِ لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُرَجِّحَةِ كَمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَل بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَل مِنْ فَرْجِهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ (17) وَهَذَا تَصْحِيحٌ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِيهِ الْمِيرَاثُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْوَلَدِ، وَإِجْرَاؤُهُمُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ مَجْرَى الصَّحِيحِ فِي هَذِهِ الأَْحْكَامِ، وَفِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِلاَّ كَانَ فِي حُكْمِ الزِّنَا وَلَيْسَ فِي حُكْمِهِ بِاتِّفَاقٍ، فَالنِّكَاحُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ قَدْ يُرَاعَى فِيهِ الْخِلاَفُ فَلاَ تَقَعُ فِيهِ الْفُرْقَةُ إِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ الدُّخُول مُرَاعَاةً لِمَا يَقْتَرِنُ بِالدُّخُول مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تُرَجِّحُ جَانِبَ التَّصْحِيحِ. هَذَا كُلُّهُ نَظَرٌ إِلَى مَا يَئُول إِلَيْهِ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ بِالنَّقْضِ وَالإِْبْطَال مِنْ إِفْضَائِهِ إِلَى مَفْسَدَةٍ تُوَازِي مَفْسَدَةَ النَّهْيِ أَوْ تَزِيدُ (1) .
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 99.
(3) لسان العرب، والمغرب للمطرزي.
(4) قواعد الفقه للبركتي.
(5) المعيار المعرب للونشريسي 6 / 378 - ط. دار الغرب الإسلامي - بيروت.
(6) المعيار المعرب للونشريسي 6 / 388.
(7) ابن عابدين 1 / 61، والأشباه والنظائر للسيوطي 136.
(8) حاشية ابن عابدين 1 / 99، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 85، والمعيار للونشريسي 6 / 388، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 127 - 128، والأشباه والنظائر للسيوطي ص136، والمغني 1 / 518.
(9) المعيار المعرب للونشريسي 6 / 388 ط دار الغرب.
(10) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 128 - 129.
(11) الأشباه والنظائر للسيوطي ص137.
(12) الأشباه والنظائر للسيوطي ص137.
(13) الدر المختار ورد المحتار 1 / 99 - 100 - ط. بولاق، وانظر حاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 85.
(14) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 129.
(15) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 131 - 133.
(16) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 137 - 138.
(17) حديث: " أيما امرأة نكحت. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 407، 408) من حديث عائشة ﵂، قال الترمذي: هذا حديث حسن.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 331/ 36
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".