المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
حبس الطعام، ونحوه انتظاراً لغلاء ثمنه . ومن أمثلته احتكار أنواع من الأطعمة بمناسبة قرب شهر رمضان بغية المغالاة في أسعارها . ومن شواهده في الحديث الشريف : "مَنِ احْتَكَرَ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَالىَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ خَاطِئٌ، وَقَدْ بَرِئَ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ ". الحاكم : 2166. مسلم :1605.
حبس الطعام، ونحوه انتظاراً لغلاء ثمنه.
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِحْتِكَارُ لُغَةً: حَبْسُ الطَّعَامِ إِرَادَةَ الْغَلاَءِ، وَالاِسْمُ مِنْهُ: الْحُكْرَةُ (1) .
أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَدْ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: اشْتِرَاءُ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ وَحَبْسُهُ إِلَى الْغَلاَءِ. وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ رَصْدُ الأَْسْوَاقِ انْتِظَارًا لاِرْتِفَاعِ الأَْثْمَانِ، وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ اشْتِرَاءُ الْقُوتِ وَقْتَ الْغَلاَءِ، وَإِمْسَاكُهُ وَبَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لِلتَّضْيِيقِ. وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ. بِأَنَّهُ اشْتِرَاءُ الْقُوتِ وَحَبْسُهُ انْتِظَارًا لِلْغَلاَءِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الاِدِّخَارُ: ادِّخَارُ الشَّيْءِ تَخْبِئَتُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ. وَعَلَى هَذَا فَيَفْتَرِقُ الاِدِّخَارُ عَنِ الاِحْتِكَارِ فِي أَنَّ الاِحْتِكَارَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِيمَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ حَبْسُهُ، عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ، أَمَّا الاِدِّخَارُ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَضُرُّ وَمَا لاَ يَضُرُّ، وَفِي الأَْمْوَال النَّقْدِيَّةِ وَغَيْرِهَا. كَمَا أَنَّ الاِدِّخَارَ قَدْ يَكُونُ مَطْلُوبًا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ، كَادِّخَارِ الدَّوْلَةِ حَاجِيَّاتِ الشَّعْبِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ " ادِّخَارٌ ".
صِفَةُ الاِحْتِكَارِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
3 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِحْتِكَارَ بِالْقُيُودِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ مَحْظُورٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ بِالنَّاسِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْحَظْرِ. فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ صَرَّحُوا بِالْحُرْمَةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} (3) فَقَدْ فَهِمَ مِنْهَا صَاحِبُ الاِخْتِيَارِ أَنَّهَا أَصْلٌ فِي إِفَادَةِ التَّحْرِيمِ (4) وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَى عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ الرَّسُول ﷺ قَال: احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إِلْحَادٌ فِيهِ. وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (5) . وَاسْتَدَل الْكَاسَانِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ: الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ (6) وَحَدِيثِ: مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ. ثُمَّ قَال الْكَاسَانِيُّ: وَمِثْل هَذَا الْوَعِيدِ لاَ يَلْحَقُ إِلاَّ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَلأَِنَّهُ ظُلْمٌ؛ لأَِنَّ مَا يُبَاعُ فِي الْمِصْرِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي عَنْ بَيْعِهِ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَقَدْ مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ، وَمَنْعُ الْحَقِّ عَنِ الْمُسْتَحِقِّ ظُلْمٌ وَحَرَامٌ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ قَلِيل الْمُدَّةِ وَكَثِيرُهَا، لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ (7) .
4 - كَمَا اعْتَبَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَيَقُول: إِنَّ كَوْنَهُ كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ الأَْحَادِيثِ، مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، كَاللَّعْنَةِ وَبَرَاءَةِ ذِمَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَالضَّرْبِ بِالْجُذَامِ وَالإِْفْلاَسِ. وَبَعْضُ هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْكَبِيرَةِ (8) وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ الْحَنَابِلَةُ عَلَى التَّحْرِيمِ مَا رَوَى الأَْثْرَمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ (9) ، وَمَا رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ (10) ، وَمَا رُوِيَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَرَأَى طَعَامًا كَثِيرًا قَدْ أُلْقِيَ عَلَى بَابِ مَكَّةَ، فَقَال: مَا هَذَا الطَّعَامُ؟ فَقَالُوا: جُلِبَ إِلَيْنَا. فَقَال: بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ وَفِيمَنْ جَلَبَهُ. فَقِيل لَهُ: فَإِنَّهُ قَدِ احْتُكِرَ. قَال: مَنِ احْتَكَرَهُ؟ قَالُوا: فُلاَنٌ مَوْلَى عُثْمَانَ، وَفُلاَنٌ مَوْلاَكَ، فَاسْتَدْعَاهُمَا، وَقَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ يَقُول: مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَضْرِبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ أَوِ الإِْفْلاَسِ. (11)
5 - لَكِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ عَبَّرُوا عَنْهُ بِالْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ (12) . وَتَصْرِيحُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْكَرَاهَةِ عَلَى سَبِيل الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ. وَفَاعِل الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا عِنْدَهُمْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، كَفَاعِل الْحَرَامِ، كَمَا أَنَّ كُتُبَ الشَّافِعِيَّةِ الَّتِي رَوَتْ عَنْ بَعْضِ الأَْصْحَابِ الْقَوْل بِالْكَرَاهَةِ قَدْ قَالُوا عَنْهُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ (13) .
الْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الاِحْتِكَارِ:
6 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَحْرِيمِ الاِحْتِكَارِ رَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ. وَلِذَا فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ احْتَكَرَ إِنْسَانٌ شَيْئًا، وَاضْطُرَّ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ - عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ، وَتَعَاوُنًا عَلَى حُصُول الْعَيْشِ (14) . وَهَذَا مَا يُسْتَفَادُ مِمَّا نُقِل عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ هُوَ الْقَصْدُ مِنَ التَّحْرِيمِ، إِذْ قَال: إِنْ كَانَ ذَلِكَ لاَ يَضُرُّ بِالسُّوقِ فَلاَ بَأْسَ (15) وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ كَلاَمُ الْجَمِيعِ (16) .
مَا يَجْرِي فِيهِ الاِحْتِكَارُ:
7 - هُنَاكَ ثَلاَثُ اتِّجَاهَاتٍ:
الأَْوَّل: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ احْتِكَارَ إِلاَّ فِي الْقُوتِ خَاصَّةً. الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ الاِحْتِكَارَ يَجْرِي فِي كُل مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ، وَيَتَضَرَّرُونَ مِنْ حَبْسِهِ، مِنْ قُوتٍ وَإِدَامٍ وَلِبَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لاَ احْتِكَارَ إِلاَّ فِي الْقُوتِ وَالثِّيَابِ خَاصَّةً. وَهَذَا قَوْلٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ (17) . وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ - أَصْحَابُ الاِتِّجَاهِ الأَْوَّل - بِأَنَّ الأَْحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْضُهَا عَامٌّ، كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ (18) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى رَوَاهَا مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ، وَحَدِيثُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغَلِّيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ. وَزَادَ الْحَاكِمُ: وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ. فَهَذِهِ نُصُوصٌ عَامَّةٌ فِي كُل مُحْتَكَرٍ.
وَقَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ أُخْرَى خَاصَّةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ: مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالإِْفْلاَسِ. وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى بِلَفْظِ: مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ. (19) وَزَادَ الْحَاكِمُ. وَأَيُّمَا أَهْل عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ.
وَإِذَا اجْتَمَعَتْ نُصُوصٌ عَامَّةٌ وَأُخْرَى خَاصَّةٌ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ حُمِل الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَالْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ بِالأَْحَادِيثِ الْعَامَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الْخَاصَّةِ فَهِيَ مِنْ قَبِيل اللَّقَبِ، وَاللَّقَبُ لاَ مَفْهُومَ لَهُ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ الثَّانِي فَإِنَّهُ حَمَل الثِّيَابَ عَلَى الْقُوتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنَ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ (20) .
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِحْتِكَارُ:
8 - يَتَحَقَّقُ الاِحْتِكَارُ فِي صُوَرٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ كَوْنُ الشَّيْءِ الْمُحْتَكَرِ طَعَامًا وَأَنْ يَحُوزَهُ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ وَأَنْ يَقْصِدَ الإِْغْلاَءَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الإِْضْرَارُ وَالتَّضْيِيقُ عَلَيْهِمْ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَحْرِيمِهَا بِحَسَبِ الشُّرُوطِ.
شُرُوطُ الاِحْتِكَارِ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الاِحْتِكَارِ مَا يَأْتِي:
1 - أَنْ يَكُونَ تَمَلُّكُهُ لِلسِّلْعَةِ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ إِنَّمَا هِيَ بِاحْتِبَاسِ السِّلَعِ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ تَمَلُّكُهَا بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ، أَوِ الْجَلْبِ، أَوْ كَانَ ادِّخَارًا لأَِكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ وَمَنْ يَعُول.
وَعَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لاَ احْتِكَارَ فِيمَا جُلِبَ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ سُوقٍ غَيْرِ سُوقِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مِنَ السُّوقِ الَّذِي اعْتَادَتِ الْمَدِينَةُ أَنْ تَجْلُبَ طَعَامَهَا مِنْهُ. وَيَرَى كُلٌّ مِنْ صَاحِبِ الاِخْتِيَارِ وَصَاحِبِ الْبَدَائِعِ (21) أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ سُوقٍ اعْتَادَتِ الْمَدِينَةُ أَنْ تَجْلُبَ طَعَامَهَا مِنْهُ، فَاشْتَرَاهُ قَاصِدًا حَبْسَهُ، يَكُونُ مُحْتَكِرًا (22) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الشِّرَاءِ لِتَحَقُّقِ الاِحْتِكَارِ أَنَّ حَبْسَ غَلَّةِ الأَْرْضِ الْمَزْرُوعَةِ لاَ يَكُونُ احْتِكَارًا. وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ. وَهُنَاكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مَنِ اعْتَبَرَ حَبْسَ هَذِهِ الْغَلَّةِ مِنْ قَبِيل الاِحْتِكَارِ. وَمِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ يَرَى - أَيْضًا - أَنَّ هَذَا رَأْيٌ لأَِبِي يُوسُفَ. وَقَدْ نَقَل الرَّهُونِيُّ عَنِ الْبَاجِيِّ أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ قَال: " إِذَا وَقَعَتِ الشِّدَّةُ أُمِرَ أَهْل الطَّعَامِ بِإِخْرَاجِهِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ جَالِبًا لَهُ، أَوْ كَانَ مِنْ زِرَاعَتِهِ ". وَالْمُعْتَمَدُ مَا أَفَادَهُ ابْنُ رُشْدٍ (23) . 2 - أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ وَقْتَ الْغَلاَءِ لِلتِّجَارَةِ انْتِظَارًا لِزِيَادَةِ الْغَلاَءِ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ. فَلَوِ اشْتَرَى فِي وَقْتِ الرُّخْصِ، وَحَبَسَهُ لِوَقْتِ الْغَلاَءِ، فَلاَ يَكُونُ احْتِكَارًا عِنْدَهُمْ (24) .
3 - وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ لِمُدَّةٍ، وَلَمْ نَقِفْ لِفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى كَلاَمٍ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا الَّذِي تَعَرَّضَ لِذِكْرِ الْمُدَّةِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَقُول الْحَصْكَفِيُّ نَقْلاً عَنِ الشَّرْنَبَلاَلِيِّ عَنِ الْكَافِي (25) : إِنَّ الاِحْتِكَارَ شَرْعًا اشْتِرَاءُ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ وَحَبْسُهُ إِلَى مُدَّةٍ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا، فَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدِهِ: مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ (26) . لَكِنْ حَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ مُنْكَرٌ. وَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهَا شَهْرٌ؛ لأَِنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ.
وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ بَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ قِلَّةَ الصِّنْفِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْقَحْطَ. وَقِيل إِنَّ هَذِهِ الْمُدَدَ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا. أَمَّا الإِْثْمُ الأُْخْرَوِيُّ فَيَتَحَقَّقُ وَإِنْ قَلَّتِ الْمُدَّةُ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَصْكَفِيُّ هَذَا الْخِلاَفَ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ أَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَال بِأَكْثَرَ مِنَ الْمُدَّتَيْنِ. وَقَدْ نَقَل ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ (27) . 4 - أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَكِرُ قَاصِدًا الإِْغْلاَءَ عَلَى النَّاسِ وَإِخْرَاجَهُ لَهُمْ وَقْتَ الْغَلاَءِ.
احْتِكَارُ الْعَمَل:
10 - تَعَرَّضَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِمِثْل هَذَا لاَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيل الاِحْتِكَارِ الاِصْطِلاَحِيِّ، وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الاِحْتِكَارِ، لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْعَامَّةِ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، مَنَعُوا الْقَسَّامِينَ - الَّذِينَ يَقْسِمُونَ الْعَقَارَ وَغَيْرَهُ بِالأُْجْرَةِ - أَنْ يَشْتَرِكُوا، فَإِنَّهُمْ إِذَا اشْتَرَكُوا وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ أَغْلَوْا عَلَيْهِمُ الأُْجْرَةَ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَمْنَعَ مُغَسِّلِي الْمَوْتَى وَالْحَمَّالِينَ لَهُمْ مِنَ الاِشْتِرَاكِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِغْلاَءِ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ اشْتِرَاكُ كُل طَائِفَةٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى مَنَافِعِهِمْ (28) .
احْتِكَارُ الصِّنْفِ:
11 - وَقَدْ صَوَّرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَلْزَمَ النَّاسَ أَلاَّ يَبِيعَ الطَّعَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الأَْصْنَافِ إِلاَّ نَاسٌ مَعْرُوفُونَ، فَلاَ تُبَاعُ تِلْكَ السِّلَعُ إِلاَّ لَهُمْ، ثُمَّ يَبِيعُونَهَا هُمْ بِمَا يُرِيدُونَ. فَهَذَا مِنَ الْبَغْيِ فِي الأَْرْضِ وَالْفَسَادِ بِلاَ تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَيَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَبِيعُوا وَيَشْتَرُوا بِقِيمَةِ الْمِثْل مَنْعًا لِلظُّلْمِ. وَكَذَلِكَ إِيجَارُ الْحَانُوتِ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْقَرْيَةِ بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ، عَلَى أَلاَّ يَبِيعَ أَحَدٌ غَيْرُهُ، نَوْعٌ مِنْ أَخْذِ أَمْوَال النَّاسِ قَهْرًا وَأَكْلِهَا بِالْبَاطِل، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ (29) .
الْعُقُوبَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لِلْمُحْتَكِرِ:
12 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِإِخْرَاجِ مَا احْتَكَرَ إِلَى السُّوقِ وَبَيْعِهِ لِلنَّاسِ. فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِل فَهَل يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ؟ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
أَوَّلاً: إِذَا خِيفَ الضَّرَرُ عَلَى الْعَامَّةِ أُجْبِرَ، بَل أَخَذَ مِنْهُ مَا احْتَكَرَهُ، وَبَاعَهُ، وَأَعْطَاهُ الْمِثْل عِنْدَ وُجُودِهِ، أَوْ قِيمَتَهُ. وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ، وَلاَ يُعْلَمُ خِلاَفٌ فِي ذَلِكَ.
ثَانِيًا: إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفٌ عَلَى الْعَامَّةِ فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ لِلْحَاكِمِ جَبْرَهُ إِذَا لَمْ يَمْتَثِل الأَْمْرَ بِالْبَيْعِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فَيَرَيَانِ أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْبَيْعِ عَزَّرَهُ الْحَاكِمُ.
وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْجَبْرَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْجَبْرَ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الإِْنْذَارَ مَرَّةً، وَقِيل اثْنَتَيْنِ، وَقِيل ثَلاَثًا. وَتَدُل النُّقُول عَنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَرْجِعُهَا مُرَاعَاةُ الْمَصْلَحَةِ. وَهُوَ مِنْ قَبِيل السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ (30) .
__________
(1) المصباح، واللسان مادة (حكر)
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 20 ط بولاق 1272، والشرح الصغير 1 / 639 ونهاية المحتاج 3 / 456 والمغني 4 / 244.
(3) سورة الحج / 22
(4) الاختيار 4 / 160 ط الثانية، ومواهب الجليل 4 / 227، 228، والمدونة 10 / 123، والرهوني 5 / 12 - 13، والمغني 4 / 243، ونهاية المحتاج 3 / 456
(5) الجامع لأحكام القرآن 12 / 34
(6) حديث " المحتكر ملعون " رواه ابن ماجه في سنته والحاكم من حديث عمر به مرفوعا. وسنده ضعيف. (المقاصد الحسنة ص 170)
(7) البدائع 5 / 129
(8) نهاية المحتاج 3 / 456، وشرح روض الطالب 2 / 37، وحاشية القليوبي على شرح منهاج الطالبين 2 / 186، والزواجر 1 / 216 - 217، والمجموع 12 / 64
(9) حديث: " نهى أن يحتكر الطعام " هكذا ذكره صاحب المغني (4 / 282) ورواه عبد الرزاق (المصنف 8 / 203) بلفظ " نهى عن بيع الحكرة ".
(10) حديث " من احتكر فهو خاطئ " رواه مسلم والترمذي. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الحاكم بلفظ " من احتكر يريد أن يغالي بها الملمين فهو خاطئ (تلخيص الحبير 2 / 13)
(11) المغني 4 / 244، وكشاف القناع 3 / 151 والحديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم. ورجال ابن ماجه ثقات. (فيض القدير 6 / 35)
(12) فتح القدير والعناية بهامشه، وحاشية ابن عابدين 5 / 255 ط 1272 هـ، والمجموع شرح المهذب 13 / 60.
(13) المجموع 12 / 60 ط الأولى.
(14) مواهب الجليل 4 / 228
(15) المدونة 10 / 291 ط الأولى.
(16) المغني 4 / 241 ط الرياض، والطرق الحكمية ص 243 مطبعة المحمدية 1372 هـ، والمجموع شرح المهذب 12 / 62 ط الأولى، وحاشية الرملي بهامش أسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 38 نشر المكتبة الإسلامية، والاختيار 4 / 160، والبدائع 5 / 129
(17) البدائع 5 / 129، وحاشيه الثسرنبلالي على درر الحكام بشرح غرز الأحكام 1 / 400، والدر المنتقى على متن الملتقى بهامش مجمع الأنهار 2 / 547 ط الآستانة، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 255 ط 1172. هـ، والتاج والإكليل 4 / 380، وحاشية محمد بن المدني كنون مطبوع بهامش حاشية الرهوني 5 / 11، والمدونة، المجلد الرابع 10 / 291 ط بيروت، ومواهب الجليل 4 / 277 ط الأولى، ونهاية المحتاج 3 / 456، والنووي على صحيح مسلم 12 / 42 ط المطبعة المصرية، والمجموع شرح المهذب 12 / 62، 64 ط الأولى، وكشاف القناع 3 / 151 ط أنصار السنة، والمغني 4 / 243 ط الرياض، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 38
(18) سبق تخريجه في حواش فقرة 4
(19) فيه أبو بشر الأملوكي ضعفه ابن معين (مجمع الزوائد 4 / 100)
(20) صحيح مسلم 11 / 43 المطبعة المصرية، والجامع الصغير 3 / 36 - 33، ونيل الأوطار 5 / 220
(21) الاختيار لتعليل المختار 3 / 115، والبدائع 5 / 129
(22) والناظر فيما قرره العلماء على اختلاف مذاهبهم يرى أن مناط الحكم في تحقق الاحتكار وعدمه إنما هوتحقق الضرر للعامة.
(23) التاج والإكليل 4 / 380، والرهوني 5 / 11، 12 وما ذهب إليه ابن رشد تؤيده قواعد الشريعة العامة، ولا تأباه قواعد المذاهب المختلفة. لكن أيعتبر ذلك احتكارا أم لا؟ فمن اشترط الشراء لا يعتبره احتكارا، وإن كان يعطي لولي الأمر حق الاستيلاء عليه دفعا للضرر على الوجه الذي سيبين بعد.
(24) المجموع شرح المهذب 12 / 64 ط الأولى.
(25) الدر المنتقى على متن الملتقى 2 / 547
(26) سبق تخريجه في حواش فقرة 7
(27) الهداية 3 / 74، ونتائج الأفكار (تكملة الفتح) 8 / 126، 127ط الأولى الأميرية بمصر، والدر المنتقى على شرح الملتقى 2 / 548، وحاشية ابن عابدين 5 / 255 ط بولاق 1272 هـ
(28) الطرق الحكمية ص 245 - 246 ط السنة المحمدية.
(29) المرجع السابق ص 245
(30) الطرق الحكمية ص 243 وانظر 262، والبدائع 5 / 129، وتكملة الفتح 8 / 126، 4 / 161 ط الثانية سنة 1370 هـ، ورد المحتار على الدر المختار 5 / 256 ط بولاق سنة 1272 هـ، والرهوني 5 / 12 - 15، والقوانين الفقهية 3 / 247، ومواهب الجليل 4 / 227، 228، ونهاية المحتاج، 4 / 456، وحاشية القليوبي 2 / 186، وكشاف القناع 3 / 151
الموسوعة الفقهية الكويتية: 90/ 2