العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
إِدْرَاكُ المؤمن الأمور الخفية بالاِسْتِدلال بالظَّاهِرة عليها . و من أمثلته حُكْم العمل بِالْفِرَاسَةِ، والتَّخْمِينِ. و من شواهده قوله تعَالَى: ﭽﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭼالحجر :٧٥ . "للمتوسمين " لِلْمُتَفَرِّسِينَ . و من شواهده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : "اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ؛ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ "، ثُمَّ قَرَأَ : ﱫﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﱪالحجر :75." الترمذي :3127.
إِدْرَاكُ المؤمن الأمور الخفية بالاِسْتِدلال بالظَّاهِرة عليها.
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفِرَاسَةُ لُغَةً: مِنْ فَرُسَ فُلاَنٌ بِالضَّمِّ، يَفْرُسُ فُرُوسَةً وَفِرَاسَةً: إِذَا حَذَقَ أَمْرَ الْخَيْل، وَالْفِرَاسَةُ بِالْفَتْحِ: الثَّبَاتُ عَلَى الْخَيْل، وَالْحِذْقُ بِأَمْرِهَا، وَالْعِلْمُ بِرُكُوبِهَا، وَالْفِرَاسَةُ بِكَسْرِ الْفَاءِ هِيَ: النَّظَرُ وَالتَّثَبُّتُ وَالتَّأَمُّل فِي الشَّيْءِ وَالْبَصَرُ بِهِ، يُقَال: تَفَرَّسْتُ فِيهِ الْخَيْرَ: تَعَرَّفْتُهُ بِالظَّنِّ الصَّائِبِ، وَتَفَرَّسَ فِي الشَّيْءِ: تَوَسَّمَهُ، وَرَجُلٌ فَارِسٌ عَلَى الدَّابَّةِ: بَيِّنُ الْفُرُوسِيَّةِ.
وَالْفَارِسُ أَيْضًا: الْحَاذِقُ بِمَا يُمَارِسُ مِنَ الأَْشْيَاءِ كُلِّهَا. (1)
وَفِي الْحَدِيثِ: اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ﷿. (2) وَاصْطِلاَحًا: هِيَ الاِسْتِدْلاَل بِالأُْمُورِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الأُْمُورِ الْخَفِيَّةِ، وَأَيْضًا هِيَ مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِغَيْرِ نَظَرٍ وَحُجَّةٍ (3) . وَقَسَّمَهَا ابْنُ الأَْثِيرِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: مَا دَل ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَيْهِ اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ مَا يُوقِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَحْوَال بَعْضِ النَّاسِ بِنَوْعٍ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَإِصَابَةِ الظَّنِّ وَالْحَدْسِ.
الثَّانِي: نَوْعٌ يُتَعَلَّمُ بِالدَّلاَئِل وَالتَّجَارِبِ وَالْخَلْقِ وَالأَْخْلاَقِ فَتُعْرَفُ بِهِ أَحْوَال النَّاسِ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِيَافَةُ:
2 - الْقِيَافَةُ: لُغَةً مِنْ قَافَ يَقُوفُ قِيَافَةً فَهُوَ قَائِفٌ، وَهُوَ: الَّذِي يَتَتَبَّعُ الآْثَارَ وَيَعْرِفُهَا، وَيَعْرِفُ شَبَهَ الرَّجُل بِأَخِيهِ وَأَبِيهِ، وَالْجَمْعُ: الْقَافَةُ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِيَافَةِ وَالْفِرَاسَةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا يَقُومُ عَلَى النَّظَرِ إلاَّ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَارِقًا.
وَقَدْ سُئِل ابْنُ فَرْحُونَ: هَل الْقِيَافَةُ مِنَ الْفِرَاسَةِ لِكَوْنِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى الْحَدْسِ؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا، بَل هِيَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَهُوَ أَصْلٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ. (5)
ب - الْعِيَافَةُ:
3 - الْعِيَافَةُ لُغَةً مِنْ عَافَ يَعِيفُ عَيْفًا إِذَا زَجَرَ، وَحَدَسَ، وَظَنَّ.
وَالْعَائِفُ: مَنْ كَانَ صَادِقَ الْحَدْسِ وَالظَّنِّ، وَالطَّائِرُ عَائِفٌ عَلَى الْمَاءِ بِمَعْنَى: يَحُومُ حَوْلَهُ لِيَجِدَ فُرْصَةً فَيَشْرَبَ.
وَالْعِيَافَةُ: زَجْرُ الطَّائِرِ وَالتَّفَاؤُل بِأَسْمَائِهَا وَأَصْوَاتِهَا وَمَمَرِّهَا، وَهِيَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَذُكِرَتْ كَثِيرًا فِي أَشْعَارِهِمْ.
وَمِمَّنِ اشْتَهَرَ بِهَا بَنُو أَسَدٍ، فَكَانُوا يُوصَفُونَ بِهَا، وَيُلْجَأُ إِلَيْهِمْ لِلْبَحْثِ عَنِ الْحَيَوَانَاتِ الضَّالَّةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (6) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْعِيَافَةِ وَالْفِرَاسَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى النَّظَرِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - فِرَاسَةُ الْمُؤْمِنِ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا فِي الْجُمْلَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (7) . قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} رَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الأُْصُول مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَال: " لِلْمُتَفَرِّسِينَ " (8) . وَلِقَوْلِهِ ﷺ: اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ. (9)
وَنَقَل الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمَا كَانَا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَرَجُلٌ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَال أَحَدُهُمَا: أُرَاهُ نَجَّارًا، وَقَال الآْخَرُ: بَل حَدَّادًا، فَتَبَادَرَ مَنْ حَضَرَ إِلَى الرَّجُل فَسَأَلَهُ فَقَال: كُنْتُ نَجَّارًا وَأَنَا الْيَوْمَ حَدَّادٌ (10) .
اعْتِبَارُ الْفِرَاسَةِ مِنْ وَسَائِل الإِْثْبَاتِ:
5 - لِلْمُتَفَرِّسِ الْمُؤْمِنِ الأَْخْذُ بِفِرَاسَتِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى مَحْظُورٍ شَرْعِيٍّ.
أَمَّا فِيمَا يَتَّصِل بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الْفِرَاسَةِ مِنْ وَسَائِل الإِْثْبَاتِ فِي الْقَضَاءِ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهَا:
فَذَهَبَ الطَّرَابُلُسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْحُكْمِ بِالْفِرَاسَةِ؛ لأَِنَّهُ حُكْمٌ بِالظَّنِّ وَالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ، وَوُصِفَ الْحَاكِمُ الَّذِي يَعْتَمِدُ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِهِ بِالْفِسْقِ وَالْجَوْرِ، لأَِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلأَِنَّ مَدَارِكَ الأَْحْكَامِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا مُدْرَكَةٌ قَطْعًا، وَلَيْسَتِ الْفِرَاسَةُ مِنْهَا.
وَذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّامِيُّ الْمَالِكِيُّ بِبَغْدَادَ إِلَى الأَْخْذِ بِالْفِرَاسَةِ وَالْحُكْمِ بِهَا، جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي قَضَائِهِ، وَذَهَبَ إِلَى هَذَا ابْنُ الْقَيِّمِ وَقَال: وَلَمْ يَزَل حُذَّاقُ الْحُكَّامِ وَالْوُلاَةِ يَسْتَخْرِجُونَ الْحُقُوقَ بِالْفِرَاسَةِ وَالأَْمَارَاتِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ لَمْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا شَهَادَةً تُخَالِفُهَا وَلاَ إِقْرَارًا (11) .
مَقَايِيسُ الْفِرَاسَةِ:
6 - الْفِرَاسَةُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ تَحْصُل لِلإِْنْسَانِ دُونَ سَبَبٍ، فَهِيَ ضَرْبٌ مِنَ الْحَدْسِ، وَنَوْعٌ يَكُونُ نَتِيجَةَ التَّعَلُّمِ وَالتَّجْرِبَةِ.
أَمَّا الأَْوَّل فَلَيْسَتْ لَهُ مَقَايِيسُ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُتَفَرِّسُ، وَإِنَّمَا تَتِمُّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ السَّابِقِ، وَمِنْ شُرُوطِهَا الاِسْتِقَامَةُ وَغَضُّ النَّظَرِ عَنِ الْمَحَارِمِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ إِذَا أَطْلَقَ نَظَرَهُ تَنَفَّسَتْ نَفْسُهُ الصُّعَدَاءَ فِي مِرْآةِ قَلْبِهِ فَطَمَسَتْ نُورَهَا {وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (12) . وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُجَازِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ مِنْ جِنْسِهِ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ عَوَّضَهُ إِطْلاَقَ نُورِ بَصِيرَتِهِ، قَال الْبَعْضُ: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ، وَتَعَوَّدَ أَكْل الْحَلاَل، لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ، فَكُلَّمَا زَادَتْ تَقْوَى الْمُؤْمِنِ أَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّبَصُّرَ بِالأُْمُورِ وَسُرْعَةَ الْفَهْمِ، فَكَانَتْ فِرَاسَتُهُ أَثْبَتَ مِمَّنْ كَانَ أَقَل تَقْوَى مِنْهُ؛ لأَِنَّ هَذَا النَّوْعَ لاَ يَعْتَمِدُ فِيهِ الْمُتَفَرِّسُ عَلَى عَلاَمَاتٍ مَحْسُوسَةٍ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي، وَهُوَ الْفِرَاسَةُ الْمُكْتَسَبَةُ، فَإِنَّهَا تَنْطَلِقُ مِنْ مُلاَحَظَةِ الصِّفَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي أَبْدَانِ النَّاسِ، وَتَتَبُّعِ حَرَكَاتِهِمْ لِلتَّعَرُّفِ مِنْ خِلاَلِهَا عَلَى أَحْوَالِهِمُ الْبَاطِنَةِ، وَهِيَ وَإِنِ اشْتَرَكَتْ مَعَ النَّوْعِ الأَْوَّل فِي بَعْضِ هَذَا فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ عَنْهَا بِمَا وَضَعَهُ لَهَا الْقَائِلُونَ بِهَا مِنْ مَقَايِيسَ وَعَلاَمَاتٍ. (13)
عَلَى أَنَّ الأَْحْكَامَ الْمُتَوَصَّل إِلَيْهَا بِالْفِرَاسَةِ ظَنِّيَّةٌ يُمْكِنُ أَنْ يُصَدِّقَهَا الْوَاقِعُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْصُل مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهَا أَوْ عَكْسُهَا.
وَفِي كُل الأَْحْوَال فَإِنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لَهَا فِي حَيَاةِ النَّاسِ بِالتَّفَاؤُل أَوِ التَّشَاؤُمِ وَالشُّعُورِ بِالشَّقَاءِ أَوِ السَّعَادَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُسْتَعْمَل فِيمَا يَنْفَعُ النَّاسَ فِي حُدُودِ مَا أَجَازَهُ الشَّرْعُ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3 / 428 ط المكتبة الإسلامية، وفيض القدير للمناوي 1 / 43 ط دار المعرفة، بيروت.
(2) حديث: " اتقوا فراسة المؤمن. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 298) من حديث أبي سعيد الخدري. وقال: هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه.
(3) قواعد الفقه للبركتي.
(4) النهاية في غريب الحديث 3 / 428.
(5) النهاية لابن الأثير 4 / 121، وفتح الباري 12 / 56 ط المكتبة السلفية، وتبصرة الحكام 2 / 107.
(6) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3 / 330.
(7) سورة الحجر / 75.
(8) حديث أبي سعيد الخدري في تفسير قوله تعالى: (للمتوسمين) . أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (3 / 191) وأشار إلى إعلاله.
(9) حديث: " اتقوا فراسة المؤمن. . . ".
(10) القرطبي 10 / 42 - 44.
(11) معين الحكام ص206، تبصرة الحكام 2 / 103. وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1119 تفسير القرطبي 10 / 44 - 45، والطرق الحكمية ص24 - 34.
(12) سورة النور / 40.
(13) فيض القدير للمناوي 1 / 143.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 77/ 32