الباسط
كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...
الثَّوْبُ الذي يستر العورة . ومن شواهده قوله تَعَالَى : ﱫﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﱪ المائدة :87 .
الثَّوْبُ الذي يستر العورة.
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكِسْوَةُ - بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا - فِي اللُّغَةِ: الثَّوْبُ يُسْتَتَرُ بِهِ وَيُتَحَلَّى، وَالْجَمْعُ كُسًى، مِثْل مُدًى، وَالْكِسَاءُ: اللِّبَاسُ، وَالْجَمْعُ أَكْسِيَةٌ، يُقَال: كَسَوْتُهُ ثَوْبًا إِذَا أَلْبَسْتُهُ، وَالْكَاسِي خِلاَفُ الْعَارِي، وَجَمْعُهُ كُسَاةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَمَّ قَوْمًا عُرَاةً وَكُسَاةً.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَي اللُّغَوِيِّ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْكِسْوَةِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ:
أَوَّلاً - كِسْوَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْكِسْوَةُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ (3) .
وَقَوْلِهِ ﷺ: وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (4) .
وَلأَِنَّ الْكِسْوَةَ لاَ بُدَّ مِنْهَا عَلَى الدَّوَامِ، فَلَزِمَتْهُ كَالنَّفَقَةِ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْكِسْوَةُ كَافِيَةً لِلْمَرْأَةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْكِفَايَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ طُولِهَا وَقِصَرِهَا وَسِمَنِهَا وَهُزَالِهَا، وَبِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ الَّتِي تَعِيشُ فِيهَا فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.
3 - وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكِسْوَةَ يُعْتَبَرُ فِيهَا حَال الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ لاَ حَال الْمَرْأَةِ، هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ عَامَّةٌ تَجِبُ بِحَسَبِ حَال الزَّوْجَيْنِ مَعًا.
فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا يَكْسُوهَا أَدْنَى مَا يَكْفِيهَا مِنَ الْمَلاَبِسِ الصَّيْفِيَّةِ وَالشَّتْوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا يَكْسُوهَا أَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ،
وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا كَسَاهَا أَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَتِ الْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ لأَِنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ فِي إِيجَابِ الْوَسَطِ مِنَ الْكِفَايَةِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمَعْرُوفِ، فَيَكْفِيهَا مِنَ الْكِسْوَةِ فِي الصَّيْفِ، قَمِيصٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ وَسَرَاوِيل عَلَى قَدْرِ حَالِهِ مِنَ الْخُشُونَةِ وَاللُّيُونَةِ وَالْوَسَطِيَّةِ.
فَالْخَشِنُ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَاللَّيِّنُ إِذَا كَانَ مِنَ الأَْغْنِيَاءِ، وَالْوَسَطُ إِذَا كَانَ مِنَ الأَْوْسَاطِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ عَلَى حَسَبِ عَادَةِ الْبُلْدَانِ، إِلاَّ الْخِمَارَ، فَإِنَّهُ يُفْرَضُ عَلَى الْغَنِيِّ خِمَارٌ مِنْ حَرِيرٍ، وَيَجِبُ لَهَا كَذَلِكَ مَدَاسُ رِجْلِهَا وَالإِْزَارُ، وَالْمُكَعَّبُ وَمَا تَنَامُ عَلَيْهِ، وَتُزَادُ عَلَى ذَلِكَ جُبَّةٌ حَشْوِيًّا وَفَرْوَةٌ، لِحَافًا وَفِرَاشًا، وَكُل مَا يُدْفَعُ بِهِ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَيَجِبُ فِي الشِّتَاءِ جُبَّةٌ وَخُفٌّ وَجَوْرَبٌ لِدَفْعِ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الأَْمَاكِنِ وَالأَْزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ وَالأَْعْرَافِ.
وَتُفْرَضُ الْكِسْوَةُ لِلزَّوْجَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي كُل نِصْفِ حَوْلٍ مَرَّةً؛ لِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ حَرًّا وَبَرْدًا، وَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْكِسْوَةِ إِلَيْهَا فِي أَوَّل هَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّهَا تَسْتَحِقُّهَا مُعَجَّلَةً لاَ بَعْدَ تَمَّامِ الْمُدَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجَدِّدَ الْكِسْوَةَمَا لَمْ يَتَخَرَّقْ مَا عِنْدَهَا، فَإِذَا مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ وَبَقِيَ مَا عِنْدَهَا صَالِحًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كِسْوَةٌ أُخْرَى؛ لأَِنَّ الْكِسْوَةَ فِي حَقِّهِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ لَهَا كِسْوَةً أُخْرَى إِذَا تَخَرَّقَتِ الْقَدِيمَةُ بِالاِسْتِعْمَال الْمُعْتَادِ قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِظُهُورِ الْخَطَأِ فِي التَّقْدِيرِ، حَيْثُ وَقَّتَ وَقْتًا لاَ تَبْقَى مَعَهُ الْكِسْوَةُ.
أَمَّا إِذَا أَسْرَفَتْ فِي الاِسْتِعْمَال عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ، أَوْ سُرِقَ مِنْهَا، أَوْ هَلَكَ عِنْدَهَا قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ لَهَا كِسْوَةٌ أُخْرَى (5) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلَى مِثْل مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَقَالُوا: وَتُقَدَّرُ الْكِسْوَةُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، بِالشِّتَاءِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ فَرْوٍ وَلَبَدٍ وَلِحَافٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِالصَّيْفِ مَا يُنَاسِبُهُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تُنَاسِبْ كِسْوَةُ كُلٍّ مِنَ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ الآْخَرَ عَادَةً، وَإِلاَّ كَفَتْ وَاحِدَةٌ إِذَا لَمْ تَخْلَقْ، قَالُوا: وَمِثْل ذَلِكَ الْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ صَيْفًا وَشِتَاءً (6) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ كِسْوَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مُقَدَّرَةً مِنَ الشَّرْعِ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ، فَيَفْرِضُ لَهَا عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا فِي كُل سِتَّةِ أَشْهُرٍ قَمِيصٌ، وَهُوَ ثَوْبٌ مَخِيطٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ - وَخِيَاطَتُهُ عَلَى الزَّوْجِ - وَسَرَاوِيل - وَهُوَ ثَوْبٌ مَخِيطٌ يَسْتُرُ أَسْفَل الْبَدَنِ وَيَصُونُ الْعَوْرَةَ - وَقَدْ يَقُومُ الإِْزَارُ أَوِ الْفُوطَةُ مَقَامَ السَّرَاوِيل إِذَا اعْتَادَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى لُبْسِهِمَا.
وَخِمَارٌ، وَهُوَ مَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ، وَمُكَعَّبٌ، وَهُوَ مَدَاسُ الرِّجْل مِنْ نَعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَجِبُ لَهَا الْقَبْقَابُ إِنِ اقْتَضَاهُ الْعُرْفُ.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ جَرَتْ عَادَةُ نِسَاءِ أَهْل الْقُرَى أَنْ لاَ يَلْبَسْنَ فِي أَرْجُلِهِنَّ شَيْئًا فِي دَاخِل الْبُيُوتِ لَمْ يَجِبْ لأَِرْجُلِهِنَّ شَيْءٌ.
وَيُزَادُ فِي الشِّتَاءِ وَفِي الْبِلاَدِ الْبَارِدَةِ جُبَّةٌ مَحْشُوَّةٌ قُطْنًا، فَإِنِ اشْتَدَّ الْبَرْدُ فَجُبَّتَانِ فَأَكْثَرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِدَفْعِ الْبَرْدِ، وَقَدْ يَقُومُ الْفَرْوُ مَقَامَ الْجُبَّةِ إِذَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْل الْبَلَدِ عَلَى لُبْسِهَا.
وَيَجِبُ لَهَا تَوَابِعُ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ كُوفِيَّةٍ لِلرَّأْسِ، وَتِكَّةٍ لِلِّبَاسِ، وَزِرٍّ لِلْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَالُوا: لاَ يَخْتَلِفُ عَدَدُ الْكِسْوَةِ بِاخْتِلاَفِ يَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ، وَلَكِنَّهُمَا يُؤَثِّرَانِ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ (7) . وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَأَقَل الْكِسْوَةِ الْوَاجِبَةِ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيل وَمُقَنِّعَةٌ وَمَدَاسٌ وَجُبَّةٌ لِلشِّتَاءِ، وَيَزِيدُ مِنْ عَدَدِ الثِّيَابِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِلُبْسِهِ مِمَّا لاَ غِنَى عَنْهُ، دُونَ مَا لِلتَّجَمُّل وَالزِّينَةِ.
فَيُفْرَضُ مَثَلاً لِلْمُوسِرَةِ تَحْتَ الْمُوسِرِ مِنْ أَرْفَعِ الثِّيَابِ فِي الْبَلَدِ، مِنَ الْكَتَّانِ، وَالْحَرِيرِ، وَالإِْبْرَيْسَمِ، وَلِلْمُعْسِرَةِ تَحْتَ الْمُعْسِرِ غَلِيظُ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَلِلْمُتَوَسِّطَةِ تَحْتَ الْمُتَوَسِّطِ الْمُتَوَسِّطُ مِنَ الثِّيَابِ، وَهَكَذَا يَكْسُوهَا مَا جَرَتْ عَادَةُ أَمْثَالِهِمَا بِهِ مِنَ الْكِسْوَةِ.
ثُمَّ قَال الْحَنَابِلَةُ: عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَ الْكِسْوَةَ إِلَى زَوْجَتِهِ فِي كُل عَامٍ مَرَّةً؛ لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعَادَةُ، وَيَكُونُ الدَّفْعُ فِي أَوَّل الْعَامِ؛ لأَِنَّهُ أَوَّل وَقْتِ الْوُجُوبِ فَإِنْ بَلِيَتِ الْكِسْوَةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَبْلَى فِيهِ مِثْلُهَا لَزِمَهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا كِسْوَةً أُخْرَى؛ لأَِنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَإِنْ بَلِيَتْ قَبْل ذَلِكَ لِكَثْرَةِ دُخُولِهَا وَخُرُوجِهَا أَوِ اسْتِعْمَالِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِبْدَالُهَا، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَى الْكِسْوَةِ فِي الْعُرْفِ.
وَإِنْ مَضَى الزَّمَانُ الَّذِي تَبْلَى فِي مِثْلِهِ الثِّيَابُ بِالاِسْتِعْمَال الْمُعْتَادِ وَلَمْ تَبْل، فَهَل يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا لأَِنَّهَا غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إِلَى الْكِسْوَةِ.ثَانِيهُمَا: يَلْزَمُهُ الْبَدَل لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ دُونَ حَقِيقَةِ الْحَاجَةِ، بِدَلِيل أَنَّهَا لَوْ بَلِيَتْ قَبْل ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهَا.
وَلَوْ أَهْدَى إِلَيْهَا كِسْوَةً لَمْ تَسْقُطْ كِسْوَتُهُ (8) .
4 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا لَوْ كَسَاهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ قَبْل أَنْ تَبْلَى الثِّيَابُ، فَهَل لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَوْ لِوَرَثَتِهِ الاِسْتِرْجَاعُ، لأَِنَّهُ وَفَّاهَا مَا عَلَيْهِ وَدَفَعَ إِلَيْهَا الْكِسْوَةَ بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهَا النَّفَقَةَ بَعْدَ وُجُوبِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل أَكْلِهَا، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا مُضِيَّ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ بَعْدَ دَفْعِ الْكِسْوَةِ إِلَيْهَا، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ طَلَّقَهَا لِشَهْرَيْنِ أَوْ أَقَل، فَلَهُ اسْتِرْجَاعُ الْكِسْوَةِ مِنْهَا.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ لَهُ اسْتِرْجَاعَ الْكِسْوَةِ مِنْهَا؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْكِسْوَةَ لِمُدَّةٍ لَمْ تَأْتِ، كَنَفَقَةِ الْمُسْتَقْبَل، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْل مُضِيِّهِ كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهَا نَفَقَةً لِلْمُسْتَقْبَل ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ أَعْطَاهَا كِسْوَةَ سَنَةٍ فَمَاتَتْ أَوْ طَلَّقَهَا فِي أَثْنَاءِ الْفَصْل الأَْوَّل اسْتَرَدَّ كِسْوَةَ الْفَصْل الثَّانِي، كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ.
وَلَوْ لَمْ تَقْبِضِ الْكِسْوَةَ حَتَّى مَاتَتْ فِي أَثْنَاءِ فَصْلٍ أَوْ طُلِّقَتْ فِيهِ، اسْتَحَقَّتْ كِسْوَةَ كُل الْفَصْل كَنَفَقَةِ الْيَوْمِ؛ لأَِنَّ الْكِسْوَةَ تُسْتَحَقُّ بِأَوَّل الْفَصْل.
وَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا الْكِسْوَةَ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ يَجِبُ قَضَاؤُهَا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا، حَكَمَ بِهَا قَاضٍ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْكِسْوَةَ مُجَرَّدُ إِمْتَاعٍ لِلْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ تَمْلِيكًا لَهَا، كَالْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ، بِجَامِعِ الاِنْتِفَاعِ فِي كُلٍّ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، بِخِلاَفِ الطَّعَامِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا اسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي، فَإِنِ اسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ لَمْ يُعْطِهَا الْكِسْوَةَ بِسَبَبِ إِعْسَارِهِ، فَلاَ تَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ غَنِيًّا وَمَرَّتْ مُدَّةٌ لَمْ يُعْطِهَا الْكِسْوَةَ، فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ، أَيْ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ، سَوَاءٌ فَرَضَهَا حَاكِمٌ أَوْ لَمْ يَفْرِضْ (9) . 5 - وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ عَنْ كِسْوَةِ الزَّوْجَةِ؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِكِسْوَةِ زَوْجَتِهِ فَلِلزَّوْجَةِ الْفَسْخُ إِنْ لَمْ تَصْبِرْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (10) .
فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الأَْوَّل - وَهُوَ الإِْمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ - تَعَيَّنَ الثَّانِي؛ وَلأَِنَّ الْكِسْوَةَ لاَ بُدَّ مِنْهَا وَلاَ يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهَا وَلاَ يَقُومُ الْبَدَنُ بِدُونِهَا.
قَال الشِّرْبِينِيُّ: سَكَتَ الشَّيْخَانِ عَنِ الإِْعْسَارِ بِبَعْضِ الْكِسْوَةِ، وَأَطْلَقَ الْفَارِقِيُّ أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ، وَالتَّحْرِيرَ فِيهَا كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ: مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلاَحِ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْجُوزَ عَنْهُ إِنْ كَانَ مِمَّا لاَ بُدَّ مِنْهُ، كَالْقَمِيصِ وَالْخِمَارِ وَجُبَّةِ الشِّتَاءِ، فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُ بُدٌّ كَالسَّرَاوِيل وَالنَّعْل وَبَعْضِ مَا يُفْرَشُ وَالْمِخَدَّةِ، فَلاَ خِيَارَ (11) .
وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْعَجْزُ عَنِ الْكِسْوَةِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ إِذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ حَقِّهَا، فَلَهَا أَنْ تَصْبِرَ وَتَرْضَى بِالْمَقَامِ مَعَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ عَجْزِهِ عَنِ الْكِسْوَةِ، بَل يَفْرِضُ الْحَاكِمُ لَهَا الْكِسْوَةَ ثُمَّ يَأْمُرُهَا بِالاِسْتِدَانَةِ لِتُحِيل عَلَيْهِ (12) .
ثَانِيًا: الْكِسْوَةُ الْوَاجِبَةُ لِلْقَرِيبِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ كِسْوَةِ الْقَرِيبِ الَّذِي تَجِبُ نَفَقَتُهُ، بِشَرْطِ الْيَسَارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (13) .
وَلاَ شَكَّ أَنَّ كِسْوَتَهَا مِنَ الإِْحْسَانِ الَّذِي أَمَرَتْ بِهِ الآْيَةُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} إِلَى أَنْ قَال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْل ذَلِكَ} (14) .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ لِهِنْدَ ﵂: خُذِي مَا يَكْفِيكِ، وَوَلَدَكَ بِالْمَعْرُوفِ (15) .
وَالْوَاجِبُ فِي كِسْوَةِ الْقَرِيبِ هُوَ قَدْرُ الْكِفَايَةِ؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ لِلْحَاجَةِ، فَتُقَدَّرُ بِمَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ، مَعَ اعْتِبَارِ سِنِّهِ وَحَالِهِ وَعَادَةِ الْبَلَدِ. قَال ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيَكُونُ قَدْرُهَا - أَيِ الْكِسْوَةِ - وَجَوْدَتُهَا عَلَى حَسَبِ حَال الْمُنْفِقِ وَعَوَائِدِ الْبِلاَدِ (16) .
ثَالِثًا: الْكِسْوَةُ الْوَاجِبَةُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
7 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَحَدُ أَنْوَاعِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَنَّ الْحَالِفَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالإِْطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمِ الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (17) .
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ مِنَ الْكِسْوَةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّهَا تَتَقَدَّرُ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلاَةُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ رَجُلاً فَثَوْبٌ تُجْزِئُ الصَّلاَةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَدِرْعٌ وَخِمَارٌ، أَيْ مَا تَصِحُّ صَلاَتُهَا فِيهِ (18) ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ غَيْرُ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنَّ كِسْوَةَ الْمِسْكِينِ تَتَقَدَّرُ بِمَا يَصْلُحُ لأَِوْسَاطِ النَّاسِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ حَال الْقَابِضِ، وَقِيل: يُعْتَبَرُ فِي الثَّوْبِ حَال الْقَابِضِ، إِنْ كَانَ يَصْلُحُ لَهُ يَجُوزُ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَبِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ؛ لأَِنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ مُدَّةِ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ، وَعَلَيْهِ فَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ جَدِيدًا.
وَبِمَا يَسْتُرُ عَامَّةَ الْبَدَنِ كَالْمُلاَءَةِ أَوِ الْجُبَّةِ أَوِ الْقَمِيصِ أَوِ الْقَبَاءِ لاَ السَّرَاوِيل؛ لأَِنَّ لاَبِسَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا، وَلاَ الْعِمَامَةِ وَلاَ الْقَلَنْسُوَةِ إِلاَّ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ الإِْطْعَامِ (19) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي الْكِسْوَةِ الْوَاجِبَةِ بِسَبَبِ الْكَفَّارَةِ كُل مَا يُسَمَّى كِسْوَةً مِمَّا يُعْتَادُ لُبْسُهُ، كَقَمِيصٍ أَوْ عِمَامَةٍ أَوْ إِزَارٍ أَوْ رِدَاءٍ أَوْ طَيْلَسَانٍ أَوْ مِنْدِيلٍ أَوْ جُبَّةٍ أَوْ قَبَاءٍ أَوْ دِرْعٍ مِنْ صُوفٍ، لاَ خُفٍّ وَقُفَّازَيْنِ وَمُكَعَّبٍ وَقَلَنْسُوَةٍ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ صَلاَحِيَّتُهُ لِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ فَيَجُوزُ سَرَاوِيل صَغِيرٍ لِكَبِيرٍ لاَ يَصْلُحُ لَهُ؛ لِوُقُوعِ اسْمِ الْكِسْوَةِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ لَبِيسٌ لَمْ تَذْهَبْ قُوَّتُهُ، فَإِنْ ذَهَبَتْ قُوَّتُهُ فَلاَ يَجُوزُ، وَلاَ يَجُوزُ نَجِسُ الْعَيْنِ مِنَ الثِّيَابِ، وَيَجُوزُ الْمُتَنَجِّسُ مِنْهُ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ مَنْ يُعْطِيهِ إِيَّاهَا بِتَنَجُّسِهَا حَتَّى يُطَهِّرَهَا مِنْهَا (20) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وغريب القرآن والمغرب، والمعجم الوسيط.
(2) سورة البقرة / 233.
(3) حديث: " وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن. . . " أخرجه الترمذي (3 / 458) من حديث عمرو بن الأحوص وقال: حديث حسن صحيح.
(4) حديث: " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ". أخرجه مسلم (2 / 890) من حديث جابر بن عبد الله.
(5) البدائع 4 / 24، وحاشية ابن عابدين 2 / 645، 649، 652، 654.
(6) جواهر الإكليل 1 / 403، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 513، ومواهب الجليل 4 / 187.
(7) مغني المحتاج 3 / 429، 430، وروضة الطالبين 9 / 47 - 48.
(8) المغني لابن قدامة 7 / 568، 572.
(9) حاشية ابن عابدين 2 / 660، 656، وجواهر الإكليل 1 / 404، والفواكه الدواني 2 / 104، ومغني المحتاج 3 / 434 - 435، وروضة الطالبين 9 / 55، والمغني لابن قدامة 7 / 572 وما بعدها.
(10) سورة البقرة / 229.
(11) مغني المحتاج 3 / 443.
(12) المصادر السابقة كلها الواردة في الصفحة السابقة عمود (1) هامش (1) .
(13) سورة الإسراء / 23.
(14) سورة البقرة / 233.
(15) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 507) من حديث عائشة.
(16) حاشية ابن عابدين 2 / 678 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص 222، ومغني المحتاج 3 / 446 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 7 / 594.
(17) سورة المائدة / 89.
(18) القوانين الفقهية ص 163، والمغني لابن قدامة 8 / 742 وابن عابدين 3 / 61.
(19) حاشية ابن عابدين 3 / 61.
(20) مغني المحتاج 4 / 327.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 250/ 34
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".