الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | علي باوزير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
هذا الابتلاء الذي هو المرض يحمل في طياته منح وهبات وفيه هدايا وأعطيات وفيه خيرات كثيرات وبركات قد لا يتصورها كثير من الناس، الغالب في الناس أنهم ينظرون إلى هذا الابتلاء من الجانب المظلم فقط بينما لو نظروا إلى الجانب المشرق فيه لوجدوا أن الخير الذي فيه أعظم من الشر والبلاء الذي فيه، بل لو تصور كثيرا من الناس ما في هذا الابتلاء من الخيرات لتمنى كثيرا منهم المرض؛ بل لتمنى أن ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
أيها المسلمون عباد الله: الله -سبحانه وتعالى- خلق بني آدم وأوجدهم على هذه الأرض؛ ليبتليهم وليمتحنهم وليختبرهم، فيتميز منهم الصادق من الكاذب، ويتبين المؤمن من الكافر، ولولا هذا الابتلاء لما حصل هذا التميز.
قال الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ) وقال الله -سبحانه وتعالى- (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:1-3].
أخبر الله -سبحانه وتعالى- أن خلق هذا الإنسان وأن حياته كلها مبنية على التعب والمشقة والمكابدة والعناء قال الله -سبحانه وتعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4] أي في مكابدة وتعب ومشقة وقد أحسن من قال في وصف هذه الدار الدنيا، قال "أولها بكاء وأوسطها عناء وأخرها فناء.
هذه هي سنة الله -عز وجل- في هذه الحياة لا تتغير ولا تتبدل، وليس للعبد إلا أن يواجه هذا الابتلاء، وأن يصبر على مشاقه، وأن يتحمل آلامه وأوجاعه.
وإن الابتلاءات في هذه الدنيا كثيرة متنوعة متعددة؛ ومن هذه الابتلاءات ابتلاء لا يسلم منه أحد من الناس كائن من كان ولو كان أحد سالما من هذا الابتلاء لسلم منه محمد -صلى الله عليه وسلم-: ألا وهو "المرض" وذهاب العافية وضعف الصحة والقوة.
ما سلم من هذا أحد حتى صفوة الخلق رسل الله -عز وجل- وأنبياءه ابتلوا بهذا ابتلاءً عظيما، ولم يسلم منهم أحد؛ لأن هذا من مقتضيات الطبيعة البشرية؛ فالبشر معرضون للمرض أجسامهم ضعيفة، وقوتهم محدودة يضعفها ويذهبها أدنى سبب وأقل سبب.
لكن -أيها الأحباب- هذا الابتلاء الذي هو المرض يحمل في طياته منح وهبات وفيه هدايا وأعطيات وفيه خيرات كثيرات وبركات قد لا يتصورها كثير من الناس، الغالب في الناس أنهم ينظرون إلى هذا الابتلاء من الجانب المظلم فقط بينما لو نظروا إلى الجانب المشرق فيه لوجدوا أن الخير الذي فيه أعظم من الشر والبلاء الذي فيه، بل لو تصور كثيرا من الناس ما في هذا الابتلاء من الخيرات لتمنى كثيرا منهم المرض؛ بل لتمنى أن يقضي حياته وهو مبتلى ومصاب بالأمراض.
هل تعجبون من هذا ؟
تعالوا -أيها الأحباب- لنسمع ولنتعرف على شيء من هذه البركات ومن هذه الخيرات الموجودة في طيات هذا الابتلاء.
أيها الأحباب الكرام: المرض سبب من أعظم أسباب تكفير الذنوب والسيئات يمحو الله -عز وجل- به الخطايا، ويتجاوز به عن الذنوب والسيئات يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله عنه سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" ويقول -صلى الله عليه وسلم- "ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله عز وجل وما عليه خطيئة" لا يزال البلاء في المؤمن من مرض ونحو ذلك وفي ماله وولده حتى يلقى الله عز وجل وما عليه خطيئة.
دخل -صلى الله عليه وسلم- ذات مرة على أم السائب وهي تشتكي من الحمى فقال لها -صلى الله عليه وسلم-: "مالك يا أم السائب تزفزفين؟" أي ترتعشين، فقالت -رضي الله عنها-: "الحمى لا بارك الله فيها" فقال -صلى الله عليه وسلم- "يا أم السائب لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد"
لا تسبي الحمى هي خير وليست بشر؛ فإنها تذهب خطايا بني أدم كما يذهب الكير –نار الحداد- خبث الحديد.
وفي مسند أحمد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طرقه وجع وأصابه فجعل يتقلب على فراشه ويشتكي -أي يتألم ويتوجع- فقالت عائشة -رضي الله عنها-: لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصالحين يشدد عليهم وإنه لا يصيب مؤمناً نكبة من شوكة فما فوق ذلك إلا حطت عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة".
حتى الشوكة إذا أصيب بها فإن الله -سبحانه وتعالى- يحط عنه به خطيئة بهذا الألم الذي يصيبه من هذه الشوكة ويرفعه الله عز وجل بها درجة.
المرض -أيها الأحبة- سبب لرفعة الدرجات والمؤمن قد يقصر في العمل وتضعف همته وعزيمته عن الطاعة فيبتليه الله -سبحانه وتعالى- بالمرض ليرفع به درجته.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا العبد إذا سبقت له منزلة من الله فلم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده وفي ماله وولده ثم صبره -أي ألهمه أن يصبر على هذا البلاء- حتى يبلغ المنزلة الذي سبقت له من الله تعالى" رواه أبو داود.
العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعلمه قصرت صلاته، قلت صدقاته، ندر صيامه؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- يبلغه هذه المنزلة من حيث لا يشعر من حيث يظن أن هذا شر يصيبه يرفعه الله -عز وجل- بهذا المرض حتى يصل إلى هذه الدرجة وهذه المنزلة.
وفي يوم القيامة حين يرى أهل العافية أصحاب الصحة في أجسادهم حين يرون ثواب أهل البلاء وأجور أهل الأمراض يتمنون لو كانوا أمراض في الدنيا، يقول -صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي- "يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ".
أهل العافية يتمنون يوم القيامة أن لو كانوا في الدنيا قد قرضت جلودهم قطعت بالمقاريض لما يرونه من عظيم الأجر والثواب الذي أعده الله -سبحانه وتعالى- لأهل البلاء والأمراض.
وليس معنى هذا أن الإنسان يبحث عن المرض ويتطلب أسبابه فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) والمسلم مطالب بأن يحافظ على صحته وعافيته؛ ليقوم بطاعة الله، ولكن من ابتلى وقدر الله -عز وجل- المرض فليصبر فإن هذا رفعة له عند الله -سبحانه وتعالى-.
من فوائد المرض -أيها الأحباب-: أنه تعجيل للعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، والله ثم والله مهما كانت العقوبة في الدنيا ومهما كانت الآلام والأوجاع في الدنيا ومهما كانت المصائب في الدنيا فإنها لا تعدل غمسه واحدة في نار جهنم؛ فلأن يعجل للمرء عقوبته في الدنيا خيرا له من ادخر هذه العقوبة فيلقاها يوم القيامة كاملة غير منقوصة.
عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل من الصحابة كان مريضا ومعه أبو هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الصحابي " أَبْشِرْ فَإِنَّ اللَّهَ -عز وجل- يَقُولُ هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنْ النَّارِ فِي الآخِرَةِ"
يسمع هذا كل من كره الحمى وكل من سبها أو تضايق منها، الله عز وجل يقول: "هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرة" فأيهما أفضل، وأيهما أحسن؟ حمى في الدنيا -ولو كانت دائمة غير منقطعة- أم نار جهنم التي لا يتصور المرء ولا يتخيل مقدار حرارتها وسعيرها؟!
وإذا أراد الله بعبده خيرا عجل الله له العقوبة في الدنيا وإذا أراد بعبده شرا أمسك عنه حتى يوافيه بها يوم القيامة، هكذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما روى ذلك الترمذي.
المرض -أيها الأحباب- هو من سيم المؤمنين، والصحة الدائمة وعدم المرض -أبداً- هذا من سيما المنافقين، كان السلف -رحمهم الله- إذا طالت العافية بأحدهم ولم يمرض اتهم نفسه بالنفاق، اللهم -سبحانه وتعالى- يقول عن المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) أجسام مملوءة بالصحة والقوة والفتوة ولكنها تشتمل على قلوب ضعيفة وعلى قلوب خبيثة منتنة والعياذ بالله.
النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب مثل المؤمن ومثل المنافق فقال: "مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال البلاء بالمؤمن".
المؤمن كالزرع الذي يتمايل مع الريح تأتيه مصيبة من هنا فتميله قليلا ويأتيه بلاء من هنا فيميله قليلا يتعرض للمحن والابتلاءات والأمراض والمصائب
قال: "ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز"
وهي شجرة قوية صلبة لا تتمايل مع الرياح كشجرة الصنوبر في وقتها وثباتها وعدم تأثرها بالرياح قال: "ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد" تقطع مرة واحدة لا تتمايل يمينا ويسارا بل تبقى ثابتة حتى تجتث من أصلها مرة واحدة.
وهكذا المؤمن تتمايل به المصائب في الدنيا فيأتي يوم القيامة وقد خفف عنه، وأما الكافر والمنافق فيبقى في الدنيا غير متعرض للبلاء فيأتي يوم القيامة فيؤاخذ بالأولى والآخرة وينال -والعياذ بالله- العقوبة الكاملة.
والمؤمن -أيها الأحباب- بطبيعته لا بد أن يتعرض للبلاء؛ لأن دين الله -سبحانه وتعالى- يحتاج إلى صبر وإلى مجاهدة وإلى ثبات وإلى مرابطة يحتاج إلى أن يمنع الإنسان نفسه من الشهوات، يحتاج أن يحجز نفسه عن النزوات وهذا كله يتطلب جهدا وصبرا وثباتا ويعرض المسلم لكثير من البلاء.
دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : "هل أَخَذَتْكَ أُمُّ مِلْدَمٍ قَطُّ؟" قَالَ : وَمَا أُمُّ مِلْدَمٍ ؟ قَالَ : "حَرٌّ يَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ" يعني الحمى، قَالَ الأعرابي : مَا وَجَدْتُ هَذَا قَطُّ، قَالَ : "فَهَلْ وَجَدْت هَذَا الصُّدَاعَ؟" قَالَ : وَمَا الصُّدَاعُ ؟ قَالَ : "عُرُوقٌ تَضْرِبُ عَلَى الإِنْسَانِ رَأْسَهُ" يشعر بوجع في رأسه قَالَ : مَا وَجَدْتُ هَذَا قَطُّ، -لم يمرض ولم يتعب أبدا صحة كاملة-، فلما انصرف الرجل قَالَ -صلى الله عليه وسلم- : "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا".
فلا يغتر الإنسان بالصحة الكاملة، ولا يظن أنها خيرا له عند الله -سبحانه وتعالى- بل قد يكون خيره في المرض والبلاء.
إن المرض -أيها الأحباب- يهذب النفس، يهذب القلب، يربي الإنسان، يشعره بضعفه، يشعره بفقره وحاجاته -سبحانه وتعالى-، الصحة قد تطغيه، الصحة قد تنسيه، الصحة قد توقعه في الغفلة، فيأتي المرض؛ ليذكره بأنه عبد ضعيف محتاج إلى الله -سبحانه وتعالى-، أمره بيد الله وشفاءه بيد الله تسد أمامه الأبواب فلا يجد بابا مفتوحا إلا باب الله -سبحانه وتعالى-: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء: 78-80]
وكما يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "مصيبة تقبل بها على الله خيرا لك من نعمة تنسيك ذكر الله".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله صحبه وسلم تسليما مزيدا.
وبعد:
أيها الأحباب الكرام: إذا ابتلي الإنسان بالمرض وأصيب بذهاب القوة والعافية فإنه مطالب بأمور:
أولها: أن يصبر على بلاء الله -عز وجل- وأن يصبر على هذا المرض وعلى هذا الألم والوجع؛ بأن يحبس لسانه عن التشكي، ويمنع قلبه عن الاعتراض على أقدار الله، ويحجز جوارحه عن فعل ما ينافي الصبر والرضا بأقدار الله.
العبد المؤمن ينبغي أن يسلم ويفوض أمره لله -عز وجل- ويكون قلبه مطمئنا بما قدره الله -عز وجل- عليه (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11]
قال علقمة -رحمه الله-: "هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم"
هذا هو أهم شيء ينبغي أن يستحضره الإنسان في وقت مرضه أن يستصحب الصبر، أن يستصحب الرضا بقدر الله -سبحانه وتعالى- مهما اشتد عليه المرض ومهما اشتد عليه الألم والوجع، ومما يعينه على الصبر أن يعلم أن هذه هي طبيعة الحياة الدنيا، دار طبعت على المشقة والألم، ولا يمكن أن يعيش الإنسان فيها حياة سعيدة حياة هنيئة دائمة، بل لابد أن يتعرض فيها للابتلاء وقد أحسن من قال:
جبلت على كدرٍ وأنت تريدها | صفواً من الآلام والأكدار |
ومُكلّفُ الأيام ضد طباعها | مُتطلبٌ في الماء جذوة نار |
فالجزع والهلع والتسخط على أقدار الله لن يغير من الحال شيئا، لن يرفع عنك مرضا، ولن يكشف عنك بلاء، بل يزيد ألمك ويزيد وجعك ويزيد من معاناتك.
ومما يعين على الصبر: أن يتذكر الإنسان ويستحضر البركات والخيرات والأجور العظيمة التي ينالها بصبره على المرض، والتي قد تقدم ذكر شيء منها؛ فإن الإنسان إذا تذكر الأجر العظيم هان عليه ألم المرض.
قال بعض الصالحين وقد أصيب في أصبعه ورآه الناس يتبسم قال: "حلاوة أجرها أنستني ألم جرحها".
ومما يعين على الصبر كذلك: أن ينظر الإنسان إلى من هو أشد منه بلاء؛ إن مرض بمرض ما فلينظر إلى من هو أشد مرضا منه، إن أصيب في يد فلينظر إلى من أصيب في يديه الاثنتين، ومن أصيب بشلل نصفي فلينظر إلى من أصيب بشلل كلي، ومن فقد النظر بأحد عينيه فلينظر إلى من أصيب بفقد عينيه.
وهكذا ينظر الإنسان إلى من هو أشد منه مصيبة فتهون عليه مصيبته، وقبل ذلك كله أن ينظر الإنسان إلى أن مصيبته في جسده خيرا له من أن تكون مصيبته في دينه؛ فلئن ابتلاه الله -عز وجل- بمرض في جسده خيرا من أن يبتليه الله -سبحانه وتعالى- بمرض في دينه.
يقول عمر -رضي الله عنه-: "ما أصبت ببلاء إلا كان لله -عز وجل- علي فيه أربع نعم" ما هي هذه الأربع؟ يقول: "أنّه لم يكن في ديني، وأنّه لم يكن أكبر منه، وأني لم أُحرم الرّضا والصّبر، وأنّي أرجو ثواب الله -تعالى- عليه".
واسمع إلى خبر الصابر المحتسب عروة بن الزبير -رحمه الله ورضي عنه- فقد أحد أولاده وقطعت رجله وهو صابر محتسب ولم يزد على أن يقول: "يا رب لئن أخذت فلقد أبقيت ولئن ابتليت فلقد عافيت" لئن أخذت من أولادي فقد أبقيت لي ولد أكثر، ولئن ابتليتني في شيء من جسدي فالعافية في جسدي أعظم.
ومما يطلب من المريض أن يأخذ بالأسباب المشروعة المباحة من التداوي فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تداووا عباد الله فإن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له دواء".
فالأخذ بهذه الأسباب الحسية مطلوب من العبد خاصة وأنه مطالب بأن يحافظ على جسده وأن يبقى على قوته؛ ليقوم بطاعة الله -سبحانه وتعالى-، ولكن لا يعلق قلبه بالدواء ولا يعلق قلبه بهذا السبب الحسي، بل ينبغي أن يجعل غاية رجاءه وأمله في الله -سبحانه وتعالى- فهو الشافي على الحقيقة، وهذا الدواء ما هو إلا سبب والله -عز وجل- مسبب الأسباب لا تعمل الأسباب إلا بإذنه فإن شاء -سبحانه وتعالى- لم تنفعك شيء من أدوية الدنيا كلها.
ولا يلجأ الإنسان إلى الأسباب الممنوعة؛ كالذهاب إلى السحرة أو المشعوذين والدجالين ونحو ذلك؛ فإن من ذهب إلى أحد منهم وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ولم يجد عنده شفاء ولا عافية.
وإذا أصابك المرض فاجعل شكواك إلى الله -سبحانه وتعالى- وارفع بلاءك وضراءك إلى الله -عز وجل- ولا تشكو إلى الناس
وَإِذَاعَرَتْكَ بَلِيَّةٌ فَاصْبِرْ لَهَا | صَبْرَ الْكَرِيمِ فَإِنَّهُ بِكَ أَعْلَمُ |
وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا | تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لاَ يَرْحَمُ |
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى- يقول: "إذا ابتليت عبدي المؤمن؛ فصبر، فلم يشكني إلى عُوَّاده" جاءه الزوار يزورنه في مرضه فلم يشتكي ومعنى الشكوى وليس من الشكوى أن يتحدث الإنسان بما أصابه من المرض فيقول أصابني كذا وكذا وإنما الشكوى التي تتضمن بث الهموم والأحزان وانزال المصيبة بالخلق وإظهار أو واشتماله على شيء من التسخط أو شيء من قدر الله -سبحانه وتعالى-.
يقول الله -عز وجل- "إذا ابتليت عبدي المؤمن؛ فصبر، فلم يشكني إلى عُوَّاده أطلقته من أساري، ثم أبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيراً من دمه، ثم يستأنف العمل"
أما إذا أنزل العبد شكواه بالخلق فإنه لن يجد عندهم شفاء ولن يجد عندهم خيرا فلا تنزل شكواك إلا بالله وتوجه وتضرع إلى الله (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62]
اللهم ارفع عنا البلاء والفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن..