الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحكمة وتعليل أفعال الله |
من النَّاسِ من كتبَ اللهُ -تعالى- له منزلةً عظيمةً في الجنَّةِ .. ولكنَّه لم يَصلْها بعملِه .. فعندَها يأتي المرضُ رحمةً من ربِّ العالمينَ .. ليَصلَ بسببِه إلى منازلِ الشُّهداءِ والصَّالحينَ .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى" .. وهنا قد يتبيَّنُ لنا سببَ مرضِ كثيرٍ من المسلمينَ في آخرِ حياتِهم .. وهذا من إرادةِ اللهِ -تعالى- بعبدِه الخيرَ .. فأهلُه بينَ الهمومِ والأحزانِ .. وهو يُهيَّأُ للحورِ الحِسانِ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا" .. فالسيِّئاتِ تُكَّفرُ .. والخطايا تُحطُّ.. والدرجةُ تُرفعُ .. حتى يقبضَه اللهُ -تعالى- وهو خفيفُ الحِملِ من الذُّنوبِ والآثامِ .. مُستحِّقٌ لدخولِ جنَّةِ الخُلدِ ودارِ السَّلامِ.
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لله الْخَبِيرِ الْبَصِيرِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ، خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ بِقَدَرٍ، وَرَزَقَ عِبَادَهُ بِقَدَرٍ، (وَلَو بَسَطَ اللهُ الْرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: 27]، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الْشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ المُذْنِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَعْلَمُ الْنَّاسِ بِالله تَعَالَى، وَأَكْثَرُهُمْ شُكْرًا لَهْ سُبْحَانَهُ، وَإِقْرَارًا بِفَضْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَانَ يَفْتَتِحُ صَبَاحَهُ وَمَسَاءَهُ بِحَمْدِ الله تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَيَمْلَأُ مَا بَينَ الْصَّبَاحِ وَالمَسَاءِ شُكْرًا بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَومِ الْدِّينِ .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
أما بعدُ:
من يتأملْ -يا عبادَ اللهِ- في المرضِ .. فإنه سيحتارُ في هذا المَخلوقِ الَّذي يُصيبُ الكبيرَ والصَّغيرَ .. ويشتكي منه الغنيُّ والفَقيرُ .. لا يدعُ مُسلماً ولا كافراً .. ولا يتركُ مُحسِناً ولا فاجِراً .. ولم يسلمْ منه أحدٌ حتى سيَّدَ ولدِ آدمَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- ..
فَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَقُلْتُ: "أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟"، قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، قَالَتْ: فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَصَلَّى النَّاسُ؟"، قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟"، قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟"، فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ السَّلَام- لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ".. فانظر كيفَ بلغَ به المرضُ بأبي هو وأمي كلَّ مَبلغٍ حتى اُغميَ عليه ثلاثُ مراتٍ، ولم يستطعْ أن يَخرجَ إلى الصَّلاةِ التي هي قُرَّةُ عَينِه.
وحيثُ إن اللهَ –تعالى- لم يخلقْ شيئاً عبثاً .. بل هو القائلُ: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً) [ص: 27]، فيا تُرى ما هي بعضُ فوائدِ المرضِ وأسرارِه؟
أوَّلاً: لا بُدَّ أن نعرفَ أن المرضَ من الضَّرَّاءِ الَّذي هو جندٌ من جنودِ اللهِ -تعالى- الَّذي يُحذِّرُ بها عبادَه ليرجعوا إليه ويتوبوا، قالَ سبحانَه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام: 42]، فكم تابَ بسببِ المرضِ مُذنِبٌ، وكم أقبلَ بسببِه مُدبرٌ، وكم أسلمَ بسببِه كافرٌ، كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ"، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ"، ويصدقُ على هذا المريضِ وأمثالِه قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور: 11].
ولنعلمْ بعدَ ذلك .. أن البَلاءَ واقعٌ على ابنِ آدمَ لا محالةٍ .. وذلك مما أخبرنا اللهُ -تعالى- به في كتابِه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) [البقرة: 155] .. فأخبرنا اللهُ برحمتِه بأننا مُبتَلونَ وذلك للتَّهيئةِ النَّفسيَّةِ والاستعدادِ، وذكرَ لنا أنواعَ البَلاءِ حتى لا نتفاجأَ بالمصيبةِ، وأعلمنَا أن هناك من سيصبرُ على ذلك .. وأن لهم البُشرى (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، بل وعلَّمنا طريقةَ الصَّبرِ وكيفَ نتصرفُ عندَ البلاءِ (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)، ثُمَّ أخبرَ بعظيمِ أجرِهم (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ) ثناءٌ عليهم من اللهِ -تعالى- في الملأِ الأعلى، (وَرَحْمَةٌ) منه ومغفرةٌ للذُّنوبِ، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 156] إلى طريقِ الحقِّ والثابتونَ على الصِّراطِ المُستقيمِ.
ثَمَانِيَةٌ تَجْرِيْ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ | وَلا بُدَّ لِلإِنْسَانِ يَلْقَى الثَّمَانِيَهْ |
سُرُوْرٌ وَحُزْنٌ، وَاجْتِمَاعٌ وَفُرْقَةٌ | وَعُسْرٌ وَيُسْرٌ، ثُمَّ سُقْمٌ وَعَافِيَهْ |
والنَّاسُ مع المرضِ أحوالٌ شتى مُتَفَاوِتونَ .. منهم المأجورُ ومنهم المأزورُ .. قال رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ" .. ولذلك كانَ لأهلِ الإيمانِ مع المرضِ شأنٌ آخرُ .. سُئلَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَشَدُّ الناسِ بَلاءًا؟" قال: "الأنْبياءُ" قِيلَ: "ثُمَّ مَنْ؟"، قال: "العلماءُ" قِيلَ: "ثُمَّ مَنْ؟"، قال: "الصَّالِحُونَ" وكان أحدُهُمْ يُبْتَلَى بِالقَمْلِ حتى يَقْتُلَهُ، ويُبْتَلَى أحدُهُمْ بِالفَقْرِ حتى ما يَجِدُ إلَّا العَباءَةَ يَلْبَسُها، ولأحدُهُمْ كان أَشَدَّ فَرَحًا بِالبلاءِ من أَحَدِكُمْ بِالعَطَاءِ" .. وذلك لأنهم يعلمونَ بمحبةِ اللهِ -تعالى- لأهلِ البلاءِ .. وعزاءُهم في ذلك قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ".
ما هو إحساسُك عندما تسمعُ هذا الحديثَ؟ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" .. سبحانَ اللهِ ..كلُّنا واللهِ يحتاجُ إلى تكفيرِ سيئاتِه في الدُّنيا قبلَ الآخرةِ .. عَنْ سَعِيدِ بنِ وَهْبٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَعَادَ مَرِيضًا فِي كِنْدَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ: أَبْشِرْ، فَإِنَّ مَرَضَ الْمُؤْمِنِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ لَهُ كَفَّارَةً وَمُسْتَعْتَبًا، وَإِنَّ مَرَضَ الْفَاجِرِ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ، ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، فَلا يَدْرِي لِمَ عُقِلَ وَلِمَ أُرْسِلَ .. بل هناك من لا يزالُ به البلاءُ حتى تُكفِّرَ جميعُ ذُنوبِه .. كما جاءَ في الحديثِ: "ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ".
ومما يُذهبُ الخطايا بخاصةٍ، تلك الحمَّى التي تُصيبُ الإنسانَ عندَ كلِّ مرضٍ، فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ، فَقَالَ: "مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ، تُزَفْزِفِينَ؟" أي: تَرْتَعِدِينَ، قَالَتْ: الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَقَالَ: "لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ".
وهناك من النَّاسِ من كتبَ اللهُ -تعالى- له منزلةً عظيمةً في الجنَّةِ .. ولكنَّه لم يَصلْها بعملِه .. فعندَها يأتي المرضُ رحمةً من ربِّ العالمينَ .. ليَصلَ بسببِه إلى منازلِ الشُّهداءِ والصَّالحينَ .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى" ..
وهنا قد يتبيَّنُ لنا سببَ مرضِ كثيرٍ من المسلمينَ في آخرِ حياتِهم .. وهذا من إرادةِ اللهِ -تعالى- بعبدِه الخيرَ .. فأهلُه بينَ الهمومِ والأحزانِ .. وهو يُهيَّأُ للحورِ الحِسانِ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا" .. فالسيِّئاتِ تُكَّفرُ .. والخطايا تُحطُّ.. والدرجةُ تُرفعُ .. حتى يقبضَه اللهُ -تعالى- وهو خفيفُ الحِملِ من الذُّنوبِ والآثامِ .. مُستحِّقٌ لدخولِ جنَّةِ الخُلدِ ودارِ السَّلامِ.
ومن فوائدِ المرضِ أنَّ اللهَ -تعالى- يكونُ قريباً من المريضِ يرحمُه ويجيبُ دعاءَه ويُثيبُ زوَّارَه .. ولذلك تحتفي الملائكةُ بعائدِ المريضِ كما قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ–أي بُستانٌ- فِي الْجَنَّةِ"..
بل ويعتبُ –سبحانَه- على من تركَ عيادتَه في مرضِه كما جاءَ في الحديثِ: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ".
ومن عجائبِ المرضِ .. أنَّ صاحبَه تُكتبْ له جميعُ أعمالِه التي كانَ يَعملُها وهو صحيحٌ .. فتستمرُ حسناتُه على ما كانَ يعملُ وهو مُعافى لا ينقصُ منها شيءٌ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا".
فأما فوائدُ المرضِ في الآخرةِ .. فقد جاء في الحديثِ: "يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاَءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بالْمَقَارِيضِ".. ولعلَّ هذا تَوضيحٌ لقولِه تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] .. فأيُّ أجرٍ بعد هذا؟!.. وأيُّ نعيمٍ فوقَ هذا؟!
وكثيرةٌ هي فوائدُ المرضِ في الدُّنيا والآخرةِ .. يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ -تعالى- في كتابِه شفاءِ العليلِ: "وقدْ أحصيتْ فوائدَ الأمراضِ فزادتْ على مائةِ فائدةٍ".
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ .. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ اللَّطيفِ الخبيرِ، العليِ القديرِ، يبتلي عبادهَ بالمصائبِ والأمراضِ، ليُخفِّفَ عنهم الذُّنوبَ والسيِّئاتِ، فيكونُ حسابُه لهم بإذنِه خفيفًا يومَ بَعثِ الأمواتِ، وأشهدُ أن لا الهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أرسلَه إلينا شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، فصلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم إلى يومِ الدِّينِ.
أما بعد: يا عبادَ اللهِ .. كلُّ هذه الفوائدِ في المرضِ لا يعني أن الإنسانَ يسألَ ربَّه البلاءَ .. فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَادَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ –أيْ: ضَعُفَ- فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟"، قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تُطِيقُهُ أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ، أَفَلَا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ.
بل عليكَ بسؤالِ اللهِ -تعالى- العافيةِ .. فعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ: "سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ"، فَمَكَثْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ، فَقَالَ لِي: "يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ! سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" ..
بل إنه من خيرِ ما يَسألُ المسلمُ ربَّه في دعائه .. قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْأَوَّلِ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: "اسْأَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ" ..
وكانَ من أذكارِه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- في الصَّباحِ والمساءِ أن يقولَ ثلاثاً: "اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ".
ولذلك كانت العافيةُ من النعمِ التي لا يَعدِلُها شيئاً .. قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا".
فالمرضُ نعمةٌ .. والعافيةُ نعمةٌ .. ولا نقولُ إلا "عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ، إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ، وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ، إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ، وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ".
واسمع إلى أدبِ أيوبَ عليه السَّلامُ مع ربِّه مع شدَّةِ ما أصابَه من المرضِ، (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ)، لمَّا طالَ عليه البلاءُ، (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ)، فذكرَ حالَه وما أصابَه وما يشعرُ به، ثُمَّ ذكرَ وصفَ اللهِ تعالى، (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء: 83]، فلم يذكرْ بعد ذلك شيئاً، ولم يقترحْ على ربِّه شيئاً، أدباً وتوقيراً وصبراً، وكأنَه يقولُ هذا حالي، وهذه رحمتُك، والأمرُ لك فإنك تعلمُ ولا أعلمُ، وتدري ولا أدري، فاخترْ لي خيرَ الأمرينِ من بلاءٍ وعافيةٍ، فلَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّهُ، فأتتْه الإجابةُ السَّريعةُ، التي فيها قرارُ نهايةِ الابتلاءِ، (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء: 84].
اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِينِنا وَدُنْيَانا وَأَهْلِنا وَأمَوالِنا، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنا، اللَّهُمَّ احْفَظْنِا مِنْ بَيْنَ أيَدَيَّنا، وَمِنْ خَلْفِنا، وَعَنْ أيَمِاننا، وَعَنْ شِمَائلِنا، وَمِنْ فَوْقِنا، وَنعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتنا ..
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ .. رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ.