الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
إنها صورة من صور البر الفذة الثابتة من قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ما أحوجنا لتدارسها وتفهمها لما فيها من مثلٍ أعلى للبر.. البر الذي تقبله ربنا بقبول حسن، وجعله عملاً صالحاً يُستجلب به الخير ويُدفع به الشر؛ فما أشد حاجتنا في وقت تكالبت علينا فيه الأمم إلى فئام من الأمة ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
أما بعد:
أيها الإخوة: صورة فذة ومشهد عظيم ينقله النبي الكريم نقف معه اليوم لنستلهم منه العبرة ونتخذ منه القدوة..
هي قصة لكنها ليست من نسج الخيال فقد ذكرها الصادق المصدوق -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمن كان قبلنا، وقد وردت في أصح الكتب بعد كتاب الله -تعالى- صحيحي البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى-، سمعها ورواها رجل صالح من أصحاب رسول الله إنه عَبدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-.
قَالَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مُحَدِّثاً عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ؛ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ صَالِحَةً فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا عَنْكُم..
وفي رواية: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ..
فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ -أي رجعت في المساء- فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ -أي: أنه حلب وظل قائماً ينتظر استيقاظهما وأولاده الصغار يبكون بصوت ذليل مقهور من الجوع- حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ"..
ثم دعا الآخران بأعمال عظام يقول كل واحد منهما: "فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا بَقِيَ"..
أيها الإخوة: ولنا مع قصة هذا الرجل وقفات نستلهم منها العبرة، ونتخذ منها القدوة:
الأولى: لم يمض هذا الرجل ليله في محرابه قائما لله راكعاً وساجداً.. ولم يكن في ثغر من الثغور مرابطاً في سبيل الله.. مع فضل هذه الأعمال بلا شك.. وإنما قام طوال الليل حاملاً إناء الحليبِ ينتظر استيقاظ والديه برّاً بهما.. فما أعظمه من عمل وأجله من بر!!
الثانية: أنه لم يوقظ والديه من أجل إعطائهما الحليب، وقد باتا طاويين مع أنه بإمكانه ذلك ولو فعله لعُدَّ بمقاييس كثير من الناس من البر، لكنه لم يشأ أن يفسد على والديه نومهما وظل منتظرًا..!!
الثالثة: إن مشهدَ أطفالٍ صغارٍ يتضورون جوعاً يدعو الإنسان إلى رحمتهم والتلطف بهم.. كيف وإن كان مشهد أبناء الإنسان وبناته، وهو يراهم يبكون بصوت ذليل مقهور من الجوع عند قدميه في مشهد ومسمع منه .. وهو مع ذلك كله يستطيع أن يعطي الأبناء نصيبهم أو بعضه ليسد جوعتهم أو بعضها ..
لكنه امتنع برّاً بوالديه كل هذه الجواذب تجذبه ليقدم الأبناء، لكنه مع ذلك ثبت على موقفه، ولم يؤثر به الموقف حتى برق الفجر برّاً بوالديه. فقد كان منعهم من أجل والديه براً بهما؛ فقد كان لا يعطي قبلهما أهلاً ولا مالاً ..
الرابعة: وقف هذا الرجل الوقفة الطويلة طوال الليل لم يطعم شيئاً يقويه، مع أنه أمضى نهاره وراء غنمه يرعاها، بل هو في هذا اليوم بالذات كان في مكان بعيد قد نأى به طلب الشجر لغنمه؛ فهو في نهاره في كدّ وكدح من طلوع الشمس حتى غروبها؛ في مسير ومتابعة قد جلَّله غبار مسير الغنم في غدوه ورواحه، وقد وصل إلى داره منهوك القوى قد أعياه التعب وكَلَّ من السعي مع تألم نفسه من مرأى أبنائه وهم يبكون من الجوع، ومع ذلك قام الليل كله طاوياً قد خلا جوفه من الطعام والقدح على يده ينتظر استيقاظ والديه حتى برق الفجر..
أحبتي: إنها صورة من صور البر الفذة الثابتة من قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ما أحوجنا لتدارسها وتفهمها لما فيها من مثلٍ أعلى للبر.. البر الذي تقبله ربنا بقبول حسن، وجعله عملاً صالحاً يُستجلب به الخير ويُدفع به الشر؛ فما أشد حاجتنا في وقت تكالبت علينا فيه الأمم إلى فئام من الأمة يستجلبون بأعمالهم الصالحة الرحمات، ويدفعون بها الشرور والآفات!! اللهم اجعل لنا من هذه الأعمال نصيباً يا رب العالمين.
أيها الأحبة: لقد أجمع علماء الإسلام على وجوب بر الوالدين، وقد بيَّن الحسن البصري -رحمه الله تعالى- معنى بر الوالدين بقوله: "أن تبذل لهما ما ملكت، وأن تطيعهما فيما أمراك به إلا أن يكون معصية".
وعَنْ أَبِي بُرْدَةَ الأَسْلَمي قَالَ: "شَهِدْتُ ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَرَجُلٌ يَمَانِيٌّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ قَدْ حَمَلَ أُمَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلْ
ثُمَّ قَالَ: أَتُرَانِي يَا ابْنَ عُمَرَ جَزَيْتُهَا؟ قَالَ: "لَا، وَلاَ بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةً" (رواه البخاري بالأدب المفرد وصححه الألباني)، والزفرة هي تردُّد النفس حتى تختلف الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع.
وقبل ذلك: قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23-24].
فانظر -يا رعاك الله- كيف أن الله -تعالى- جعل الإحسان إلى الوالدين قرينًا لتوحيد الله وعبادته، وفي هذا ما لا يخفى من عظيم شأن البر..
وقال -سبحانه-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان:14]، قال ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "ثلاثُ آيات مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها، فذكر منها قوله تعالى: (..أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان:14] قال: فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه".
قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ" (رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا).
ومن اهتمام الرسول ببر الوالدين تقديمه للبر على الجهاد في سبيل الله؛ ففي الصحيحين عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا"، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ" قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي..
أسأل الله أن يوفقنا للبر بوالدينا؛ إنه جواد كريم.. بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: إن بر الوالدين يكون ببذل المعروف والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال، أما الإحسان إليهما بالقول فهو أن تخاطبهما باللين واللطف، مستصحباً كل لفظ طيب يدل على اللين والتكريم.
وأما الإحسان إليهما بالفعل فيكون بخدمهتما ببدنك ما استطعت؛ من قضاء الحوائج والمساعدة على شئون حياتهما، وتيسير أمورهما وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك أو دنياك.. والله أعلم بما يضرك في ذلك فلا تفتِ نفسك في شيء لا يضرك بأنه يضرك ثم تعصهما في ذلك..
وأما الإحسان إليهما في المال فهو أن تبذل لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه طيبةً به نفسك منشرحًا به صدرك.. غير متبع له بمنَّة ولا أذى، بل تبذله وأنت ترى أنَّ المنة لهما في قبوله والانتفاع به..
أيها الإخوة: إن آثار البر عظيمة منها الثواب الجزيل في الآخرة ومن أعظم الثواب دخول الجنة.. وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ" قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ" (رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ومعنى "رَغِمَ" ذل، وقيل كره وخزي، وأصله لصق أنفه بالرغام وهو تراب مختلط برمل.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ" (رواه الترمذي عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وحسنه الألباني).
والمعنى: أَنَّهُ يُبَارَكُ لَهُ فِي عُمُرِهِ فَيُيَسِّرُ لَهُ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا لَا يَتَيَسَّرُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ..
والبر بالوالدين سبب لتفريج الكُربات كما في حديث أصحاب الغار السابق.. وكما أن البر من أعظم القربات؛ فإن العقوق من أكبر الكبائر، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟" ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ" قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. (رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).
فاتقوا الله عباد الله واسمعوا وأطيعوا، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون، وصلوا على نبيكم يعظم الله أجركم..