الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
جاءت الشريعةُ الإسلامية لتصنع من شخصية المسلم شخصيةً تجمع بين تحقيق العبودية، واستقلال الشخصية، فلا تخضع إلا لسلطان الشرع المطهّر.. فنهت عن التشبّه بالكفّار، ونهت الرجلَ عن التشبه بالمرأة، والمرأةَ عن التشبه بالرجل. وحينما يقال: إن الشريعة الإسلامية تربِّي في المسلم أن يكون شخصيةً تجمع بين تحقيق العبودية واستقلال الشخصية؛ فهذا يعني أن حدود استقلالنا تقف عند عتبة العبودية، ولا تتجاوز الأحكام الشرعية،..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ....، أما بعد:
فحينما بعثَ الله نبيَّه محمداً -صلى الله عليه وسلم- وصدع بدعوته؛ قابله قومه - إلا قليلاً منهم- بالرفض والرد، والعداء والصدّ، واجتهد -صلى الله عليه وسلم- في تنويع أساليب دعوته، وطُرُق حجاجه ومناظرته، لكنَّ القوم كثيراً ما يقابلون الحق بالرد، والحجة بالهروب عن الجواب المقنع إلى الجواب الفاسد: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون)[الزخرف: 22]، (.. وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزخرف: 23]، ليتبين أن من أعظم أسس منهج الكفر هو: ثبات المرجعية الباطلة, وزعمهم أن مَن سبق يهدي مَن لحِق, وأن القديم فوق الجديد!
ولم يكتف القومُ بهذا، بل حاولوا تصديرَ هذا المذهب الفاسد في ردّ الحق إلى غيرهم، فكلما قَدِم على مكة قادم حذّروه من السماع له -صلى الله عليه وسلم-، فردّ الله عليهم هذا التقليد الأعمى في آيات كثيرة، كقوله: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)[البقرة: 170]، (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون)[المائدة: 104]، (أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِير)[لقمان: 21].
وفي مشهد من أشدّ المشاهد حسرةً في الآخرة، يعرض القرآن هذا الحوار بين المقلدّين ومَن قلَّدوهم: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)[إبراهيم: 21].
وما النهاية؟ وما النتيجة؟ اسمعها: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)[الأحزاب: 64 - 68]، قال بعض العلماء: "مضاعفة العذاب للرؤساء بإضلالهم وضلالهم، ومضاعفته للأتباع بتقليدهم الأعمى، وتعصبهم للكفر". ينظر: العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (3/ 228).
أيها المسلمون: وبمحاربة هذا المسلك الأعوج جاءت الشريعةُ الإسلامية؛ لتصنع من شخصية المسلم شخصيةً تجمع بين تحقيق العبودية، واستقلال الشخصية، فلا تخضع إلا لسلطان الشرع المطهّر.. فنهت عن التشبّه بالكفّار، ونهت الرجلَ عن التشبه بالمرأة، والمرأةَ عن التشبه بالرجل.
وحينما يقال: إن الشريعة الإسلامية تربِّي في المسلم أن يكون شخصيةً تجمع بين تحقيق العبودية واستقلال الشخصية؛ فهذا يعني أن حدود استقلالنا تقف عند عتبة العبودية، ولا تتجاوز الأحكام الشرعية، وإنما نبّهتُ على هذا مع وضوحه؛ لأن بعض الناس- خصوصاً من الشباب والفتيات- يخلط بين الأمرين، ويردد- دون وعي- مصطلح (الاستقلال في التفكير)، و(الحريّة في اتخاذ الرأي)! فيقلد ما يشاء ومن يشاء بحجة الحرية الشخصية!!
وفي الأثر: "لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تُحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"(رواه الترمذي برقم (2007) ولا يصح مرفوعًا).
أما التقليد الذي يقف عند حدود الشرع، ويتبع أوامره ونواهيه، فحيّهلاً به، وهو التقليد على بصيرة وبيّنة، بل هذا هو والله حقيقة التعبد، والسير خلف محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين)[يوسف: 108]، والتقليد لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ثمرته الهداية المطلقة: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النور: 54].
إنها آيات وأحاديث تبني في نفس المؤمن العزّة والإبداع والتميّز، فحُقّ لمن قرأ هذه النصوص أن يكون كذلك، وحُقّ له أن يحزن حين يرى في واقع المسلمين صوراً متنوعة للتقليد الأعمى، الذي أردى في مهاوٍ كثيرة، ومسخ شخصيةَ بعض الناس، وأذهب جمال التميّز، وروعة العزّة، ومن ذلك:
1) تفشي تقليد الآخرين سواء كانوا من الكفار أو فُساق المسلمين، وصار حالهم كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه»، قلنا يا رسول الله! اليهود، والنصارى قال: «فمن»؟!
وهذا المسلك القبيح- وهو تقليد الكفّار- حاربته سورةُ الفاتحة التي نرددها كل ركعة بشكل واضح، حين نقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)[الفاتحة: 6، 7]، فلو كان المقلِّدون للكفار يَعُون هذا المعنى جيداً؛ لنفروا وتبرءوا مما هم عليه من التقليد الأعمى.
أليس من المحزن أن ترى شاباً أو فتاةً يقصّ قصةً، أو يلبس لباساً -وقد يكون قبيحاً في مظهره أو شكله- فتبحث عن السر في هذا الأمر، فتجده تقليداً لكافر لم يسجد لله سجدة! بل قد يكون حاقداً على الإسلام وأهله!!
وأعرف قصةَ لاعب عالمي مشهور، قلّده بعضُ شباب المسلمين في قَصّة له، مع أنه صرّح ذات مرةً أنه يتمنى لو أنه شارك القوات التي شاركت في غزو البلد الفلاني المسلم ليقتل المسلمين هناك!!! فسبحان الله! إن لم يكن فيك- أيها المقلد- دينٌ يردع، فأين الحميّة والأنفة وعزة النفس للإسلام وأهله؟!
وقل مثل ذلك عن الموضات التي فتنت كثيراً من بنات المسلمين بتقليدها، وقد تكون صاحبة تلك الموضة كافرةً فاجرة داعرة! فسبحان الله! ماذا صنع التقليد بأهله؟ استحسَنوا القبيح، واستقبَحوا الحسن!
2) ومن صور التقليد الأعمى المشاهدة: أن بعض الشباب يلبس على صدره ألبسةً كتب عليها عبارات فيها محذور شرعاً، أو عليها صورةٌ لشخصٍ ما، أو يلبس قناعاً على وجهه- كقناع "فانديتا"- وهذه الصور وتلك الأقنعةُ ترمز لمعانٍ تشجّع- دون وعي- على العنف، والتطرف، والثورات على مجتمعهم، ... الخ تلك المعاني التي تحملها أمثال تلك الأقنعة والصور.
والعاقل لا يرضى أن يكون أداةً لتمرير أمثال هذه المعاني الفاسدة، فضلاً عن أن يدعو لها بمثل هذه التصرفات.
3) ومن التقليد الأعمى -والذي يكثر مع مناسبات الأعراس بالذات- ما يحصل فيها من منكرات تتصل بالإسراف في الطعام! أو جلب المغنين والمغنيات! أو تشغيل المواد الصوتية! دون رادع من خوفٍ الله بزوال النعمة، وتحوّلها عنّا، في الوقت الذي تبيت فيه بعضُ البيوت جائعةً لا أقول في سوريا أو الصومال، بل هنا!
4) ومن صور التقليد الأعمى الذي وقع ويقع من بعض الناس في مناسبات الأعراس: إدخالُ بعض المصوّرين لقاعة النساء ليلتقطوا صورة اللقاء بين الزوجين!! كله تقليداً أعمى للآخرين، ودون رادع من حياء أو مروءة- ولو مروءةَ أهلِ الجاهلية- حين يُدخِل الرجال على النساء!!
فلله .. كم أضاع هؤلاء دينهم بإضاعة الحياء! فالحياء شعبة من الإيمان كما قال -صلى الله عليه وسلم-!
ولا يدري العاقلُ الذي عنده ذرة من مروءة وغيرة -فضلاً عن الدين- كيف تجاوز هؤلاء الحدود الشرعية، والمروءات المرعية إلى عادات أُخذِتْ من الكفار أو من مقلدي الكفار؟ كيف تركوا ما يأمرهم به دينهم وما عليه مجتمعهم من الحياء والحشمة، والبُعْد عن أسباب الفتنة إلى ما عليه المجتمعات الفاسدة التي عاث بها الشر والفساد؛ فيقلدونهم ذلك التقليد الأعمى!
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم |
الخطبة الثانية:
الحمد لله....، أما بعد:
فحينما تتحدث مع شاب، أو تناقش مفتوناً بتقليد الغرب أو الشرق بلباسه أو بعض عاداته؛ يتحدث من منطق الحريّة الشخصية، والحقيقة أنه لو تأمل حاله لوجد نفسه خرج من عزّ العبودية إلى ذل التقليد للأمم الغربية والشرقية:
هربوا من الرقّ الذي خلقوا له | فبلوا برِق النفس والشيطان |
والعجيب أن هذا المقلد لو قيل له عندما يحتاج قطعة غيار لسيارته أو جهازه الحاسوبي: إن هذه بضاعة مقلَّدة، فإنه ينفر منها ولا يرضاها، وهذا شيء فطري، والسؤال: لماذا نفرتَ من تقليد بضاعةٍ جامدة، ورضيت أن تجعل بعضَ دينك تقليداً لكافرٍ بربك وبنيك -صلى الله عليه وسلم-؟!
أخي المقلّد: لم تكن الصورة يوماً من الأيام خيراً من الأصل! فإذا كنت تتغنى بمعاني الشرف والرجولة؛ فكن أصلاً لا صورة.
أخي المقلد: تذكَّر أن الذوبان في الغيرِ يعني قتل شخصيتك، وأن تقمُّصَ صفاتِ الآخرين يعني قتلَ مواهبك وقدراتك.
أخي المقلّد:
فإذا اقتديت فبالكتابِ وسنةِ الـ | مبعوثِ بالدينِ الحنيفِ الطاهرِ |
ثمّ الصحابةِ عندَ عَدْمِكِ سنةً | فأُوْلاكَ أهلُ نهىً وأهلُ بصائر |
اللهم اهدنا صراطك المستقيم، واسلكنا في عبادك الصالحين، وأعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن..