الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
قوة في مصارحة المخالفين وتنبيه الخاطئين، إنها نقد للعيوب المعلنة، لا خوف من وجيهٍ، ولا حياء من قريبٍ، ولا خجل من صديقٍ. وبعبارة جامعةٍ مانعةٍ: لا تأخذه في الله لومة لائم.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ ففي تقوى الله الفرج من كل هم، والمخرج من كل ضيق، وفيها صلاح أمر الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة، أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله، وما شاء فعل. فإن "لو" تفتح عمل الشيطان)).
إنه حديث عظيم من كلامه صلى الله عليه وسلم يرسم فيه جانباً من منهاج القوة، وحرص المؤمن على ما ينفع، واقتران ذلك بالبعد عن العجز مع صدق التوكل والرضا بما يجري به القضاء.
أيها الإخوة في الله، ومن أجل مزيد تعليق على هذا التوجيه النبوي الكريم، فلتعلموا أن العقيدة حين تتمكن من القلوب فهي معين لا ينضب للنشاط المتواصل، والعمل الدؤوب، والحماس الذي لا ينقطع.
إن صدق العقيدة وصحتها تضفي على صاحبها قوة تظهر في أعماله كلِّها، فإذا تكلم كان واثقاً، وإذا عمل كان ثابتاً، وإذا جادل كان واضحاً، وإذا فكر كان مطمئناً. لا يعرف التردد ولا تميله الرياح. يأخذ تعاليم دينه بقوة لا وهن معها: (خُذُواْ مَا ءاتَيْنَـاكُم بِقُوَّةٍ) [البقرة:63] (يايَحْيَى خُذِ الْكِتَـابَ بِقُوَّةٍ) [مريم:12]. (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا) [الأعراف:145]. إنه أخذٌ بعزيمة لا رخاوة معها، لا قبول لأنصاف الحلول، ولا هزال ولا استهزاء.
هذا هو عهد الله مع أنبيائه والمؤمنين، جدٌ وحقٌ، وصراحةٌ وصرامةٌ.
هذا جانب من القوة في رجل الإيمان، وجانبٌ آخر يتمثل في ثبات الخطى. حين يكون المؤمن مستنير الدرب، يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إذا رآهم على الحق أعانهم، وإن رآهم على الخطأ جانبهم، ونأى بنفسه عن مسايرتهم، متمثلاً التوجيه النبوي: ((لا تكونوا إمَّعةً؛ تقولون: إنْ أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا. ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)).
إنه توطين للنفس، وقسرٌ لها على المسار الصحيح، وإذا أردت أن تمتحن قوة الرجل في هذا فأستخبره أما الأعراف والتقاليد التي لا تستند إلى شرع: (إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَـارِهِم مُّقْتَدُونَ) [الزخرف:23].
ينضمُّ إلى ذلك ـ أيها الإخوة ـ القوة في الحق، والقوة في المصارحة فيه. حين يبتعد المؤمن القوي عن المداهنة والمجاملة المذمومة؛ فتراه يواجه الناس بقلبٍ مفتوحٍ، ومبادئ واضحةٍ، لا يصانع على حساب الحق. ومن يحيا بالحق لا يتاجر بالباطل. المؤمن القوي غنيٌّ عن التستر بستار الدجل والاستغلال. سيرته مبنية على ركائز ثابتة من القوة والفضيلة والكمال.
ومن أجل هذا، فإن الصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبثق من هذا السمو النفسي والقوة الإيمانية، وقوة الاستمساك بالحق والرضا به ولو كره الكارهون ((لتأخذن على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطراً))، من حديث أبي عبيدة واللفظ للترمذي.
إنها قوة في مصارحة المخالفين وتنبيه الخاطئين، إنها نقد للعيوب المعلنة، لا خوف من وجيهٍ، ولا حياء من قريبٍ، ولا خجل من صديقٍ. وبعبارة جامعةٍ مانعةٍ: لا تأخذه في الله لومة لائم.
هذا ضرب من القوة محمود في معاصي معلنة، ومذنبين مجاهرين. ولا تكون قوة بصدق، خالصة بحق إلا حين تبتعد عن مشاعر الشماتة، وحب الأذى، وقصد التشهير.
ويقترن بذلك ـ أيها الإخوة ـ نوعٌ من القوة آخر، إنه القوة في ضبط النفس والتحكم في الإرادة التي تنشأ من كمال السجايا وحميد الخصال. كإباء الضيم، وعزة النفس، والتعفف، وعلوِّ الهمة، وإنك لترى فقيراً قليل ذات اليد ولكنه ذو إرادةٍ قويةٍ، ونفسٍ عازمةٍ. شريف الطبع، نزيه المسلك، بعيدٌ عن الطمع والتذلل.
إن القوة في ضبط النفس، آخذة بصاحبها بالسير في مسالك الطهر، ودروب النزاهة، والاستقامة على الجادة. أما الرجلُ الخربُ الذمةِ، الساقط المروءةِ فلا قوة له ولو لبس جلود السباع، ومشى في ركاب الأقوياء.
وقد قال هودٌ عليه السلام لقومه آمراً لهم بالاستغفار، والبعد عن مزالق الخاطئين: (وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ) [هود:52]. وابن آدم إذا انحرف؛ فقد يتعرض للعنة أهل الأرض والسماء، ويكون في ضعفه وحقارته أقل من الذر والهباء.
ولمثل هذا جاء الحديث الصحيح: ((ليس الشديد بالصرعة. إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).
وقد قال بعض أهل العلم في هذا الباب: إن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، وإذا ملك الإنسان نفسه فقد قسر شيطانه.
أما القوة العسكرية فمطلب في الشريعة معلوم: (وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:60].
إنها القوة التي تحفظ الإسلام وأهل الإسلام، فلا يُصدون عن الإسلام ولا يُفتنون. قوةٌ ترهب أعداء الله فعلى ديار الإسلام لا يعتدون. قوة ترهب أعداء الله فلا يقفون في وجه الدعوة والدعاة. وهي قوةٌ كذلك من أجل الاستنصار للمستضعفين والمغلوب على أمرهم؛ ليظهر أمر الله، ويحق الحق ويبطل الباطل.
وفي جميع مجالات القوة – أيها الإخوة- يكون الخير والمحبة الإلهية: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)).
أما قوله صلى الله عليه وسلم: ((استعن بالله ولا تعجز)). فإنه يمثل صورةً أخرى من صور القوة. إنها قوة العزم والأخذ بالأسباب على وجهها، يستجمع المؤمن في ذلك كل ما يستطيع في سبيل تحقيق غاياته، باذلاً قصارى جهده في بلوغ مآربه غير مستسلم للحظوظ: ((استعن بالله ولا تعجز)).
إن المرء مكلف بتعبئة قواه وطاقاته: لمغالبة مشكلاته إلى أن تنزاح عن طريقه، فإذا استطاع تذليلها فذلك هو المراد. وما وراء ذلك فيكله إلى ربه ومولاه.
أما التردد والاستسلام للهواجس، وتغليب جوانب الريب والتوجس. فهذا مجانب للقوة، وصدق العزيمة، فالقوة في الجزم، والحزم والأخذ بكل العزم.
ولهذا كان من أعظم المصائب الهدامة العجز، والكسل، والجبن، والبخل، إنها صورٌ من صور الضعف والخور، وقد استعاذ منها جميعاً نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في دعاءٍ رفعه إلى مولاه، قائلاً: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)). إنها كلها تصب في مصاب الضعف، والانهزام النفسي والعملي.
أما استعادة الأحزان، والتحسر على ما فات، والتعلق بالماضي، وتكرار التمني بـ (ليت) والتحسر في الزفرات بـ (لو) فليس من خلق المؤمن القوي؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، وما عمله إلا الهواجس، والوساوس، فهو الوسواس الخناس. فلا التفات إلى الماضي إلا بقدر ما ينفع الحاضر ويفيد المستقبل.
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ واستمسكوا بعرى دينكم، وخذوا أمركم بقوة، وسيروا في درب الحق بعزيمة، متوكلين على ربكم، معتصمين بحبله؛ تكونوا من الراشدين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتاب الله وبسنة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدانا الصراط المستقيم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده سبحانه وأشكره، على نعمه الباطنة والظاهرة؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جمع الله به القلوب المتنافرة، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الدجى والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله، لازلنا مع هذا الحديث العظيم وهو يرسم جانباً آخر من جوانب القوة إلى جانب قوة الأخذ بالأسباب وشد العزائم. إنها قوة اليقين، المتمثلة في عقيدة المسلم أمام الأحداث والغير: ((وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا)).
ثقةٌ بالله واعتمادٌ عليه حين تتوالى الظروف المحرجة، وتنعقد الأجواء المدلهمة، ويلتفت المرء يمنة ويسرة فلا يرى عوناً ولا أملاً ولا ملجأ ولا ملاذاً إلا إلى الله وبالله وعلى الله. ذلكم هو مسلك النبيين والمرسلين والصالحين من بعدهم: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ) [إبراهيم:12].
وجماع ذلك ـ أيها الأخوة ـ أن القوة هي عزيمة النفس، وإقدامها على الحق في أمور الدنيا والآخرة. إنها إقدام على العدو في الجهاد، وشد عزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصبر على الأذى في الدعوة إلى الله، واحتمال المشاق في ذات الله، واصطبار على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وسائر المفروضات، ونشاط ودأب في طلب الخيرات، والمحافظة عليها، وهي ـ بعد ذلك ـ قوة في القيام بمهمة الاستخلاف في هذه الأرض واستعمارها كما طلب ربنا الذي أنشأنا فيها.
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وخذوا بعزائم الأمور، واعتصموا بحبل الله وتوكلوا عليه.