البحث

عبارات مقترحة:

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

الرحيم

كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...

المقيت

كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...

ويسألونك عن الروح

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - التوحيد
عناصر الخطبة
  1. سبب نزول (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) .
  2. ما هي الروح؟ .
  3. حديث خروج الروح من الجسد .
  4. الفوائد المستفادة من الحديث .
  5. الجسد والروح .
  6. النوم والموت والروح .

اقتباس

فالروح مخلوق عجيب لا يعلم الخلق حقيقتها وكيفيتها فلا داعي للتنطع والتكلف في معرفة تفاصيلها، وحسبنا أن نعلم أن أرواح المؤمنين في عليين وأرواح أهل الشقاء في سافلين، كما نعلم أن الروح إذا خرج من الإنسان تبعه البصر...

الخطبة الأولى:

الْحَمد الله فالق الإصباح، وخالق الْأَرْوَاح والأشباح، فاطر الْعُقُول والحواس، ومبدع الْأَنْوَاع والأجناس، الَّذِي لَا بداية لقدمه، وَلَا غَايَة لكرمه، وَلَا أمد لسلطانه، وَلَا عدد لإحسانه، خلق الْأَشْيَاء كَمَا شَاءَ، تحلت بعقود حكمته صُدُور الْأَشْيَاء، وتجلت بنجوم نعْمَته وُجُوه الْأَحْيَاء، جمع بَين الرّوح وَالْبدن بِأَحْسَن تأليف، ومزج بقدرته اللَّطِيف بالكثيف، قضى كل أَمر مُحكم، وأبدع كل صنع مبرم، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، أحْمَده وَلَا حمد إِلَّا دون نعمائه، وأمجده بأكرم صِفَاته وأشرف أَسْمَائِهِ.

وأصلي واسلم على رَسُوله الدَّاعِي إِلَى الدّين القويم، التَّالِي لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم، سيد الْأَوَّلين والآخرين، وَخَاتم الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ، صلوَات الله عَلَيْهِ وعَلى آله الطيبين الطاهرين، وعَلى أَصْحَابه الْأَنْصَار مِنْهُم والمهاجرين، وَسلم عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.

أما بعد:

عباد الله: أخرج البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَرْثٍ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالُوا: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ، لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَسَأَلَهُ عَنِ الرُّوحِ، قَالَ: فَأَسْكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَقُمْتُ مَكَانِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85] [ البخاري (125) مسلم (2794) ].

إن هذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن الروح كانت معروفة منذ العهد القديم، وأنها ذكرت في الأديان السابقة، ولهذا سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها ليعلموا علمه بها، فدل على أنهم كانوا يعلمونها، وعندهم معلومات عنها، وكذلك هذه الأمة أجمع أهل السنة فيها على أن الروح موجودة، ومخلوقة، وأن مسكنها جميع أجزاء البدن فتسري فيه كله.

إن الروح جنس مخلوق لا يشبه شيء من الموجودات، ولا يعرف الإنسان عنها كل المعلومات، وإنما جاءت في بعض الأحاديث الصحيحة عدداً من الصفات التي تتصف بها، فقد صح أنها تصعد وتهبط، وتسمع وتبصر وتتكلم إلى غير ذلك، ولا شك أن صعودها وهبوطها، وسمعها وبصرها، وقيامها وقعودها ليس من جنس ما نعرف ونعلم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الروح يصعد بها إلى السماوات العلى، ثم تعاد إلى القبر، وأنها تتنعم أو تعذب في القبر، ولا شك أن هذا النعيم والعذاب على نحو مخالف لما نعلمه ونعرفه، فإذا لم نعرف كنهها وحقيقتها فلن نعرف كيف تنعم أو تعذب؟، وإنما يكفينا أن نعلم أنها تتنعم أو تعذب، ولا داعي للتكلف في التعرف على المعلومات حولها أو كنهها، لأن الله قد قال لنا: ( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء : 85].

وفي الحديث المشهور يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الْآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا جَاءَهُ مَلَكٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ فَتَخْرُجُ نَفْسُهُ وَتَسِيلُ كَمَا يَسِيلُ قَطْرُ السِّقَاءِ وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ غَيْرَ ذَلِكَ وَتَنْزِلُ مَلَائِكَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ أَكْفَانٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِهَا فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَلَكُ لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَذَلِكَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام: 61] " قَالَ: "فَتَخْرُجُ نَفْسُهُ كَأَطْيَبِ رِيحٍ وُجِدَتْ فَتَعْرُجُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فَلَا يَأْتُونَ عَلَى جُنْدٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى بَابِ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُفْتَحُ لَهُ وَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي عِلِّيِّينَ (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين: 20] فَيُكْتَبُ كِتَابُهُ فِي عِلِّيِّينَ ثُمَّ يُقَالُ: رُدُّوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا نُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى فَيُرَدُّ إِلَى الْأَرْضِ وَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ شَدِيدَا الِانْتِهَارِ فَيَنْتَهِرَانِهِ وَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ فَيَقُولَانِ: فَمَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولَانِ وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّنَا فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُهُ" قَالَ: "وَذَلِكَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم: 27]" قَالَ: "وَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ قَدْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَفْرِشُوهُ مِنْهَا وَأَرُوهُ مَنْزِلَهُ مِنْهَا فَيَلْبِسُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُفْرَشُ مِنْهَا وَيَرَى مَنْزِلَهُ مِنْهَا وَيُفْسَحُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَيُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ طَيِّبِ الرِّيحِ حَسَنِ الثِّيَابِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَكَ، أَبْشِرْ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَجَنَّاتٍ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ فَيَقُولُ: بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي جَاءَ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ: هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ وَالْأَمْرُ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا كُنْتَ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ كَيْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.

قَالَ: وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَكَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الْآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا جَاءَهُ مَلَكٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ أَبْشِرِي بِسَخَطِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ فَتَنْزِلُ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ مُسُوحٌ فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَلَكُ قَامُوا فَلَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَالَ: فَتَغْرَقُ فِي جَسَدِهِ فَيَسْتَخْرِجُهَا يَقْطَعُ مَعَهَا الْعُرُوقَ وَالْعَصَبَ كَالسُّفُّودِ الْكَبِيرِ الشُّعَبِ فِي الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَتُؤْخَذُ مِنَ الْمَلَكِ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحٍ وُجِدَتْ فَلَا تَمُرُّ عَلَى جُنْدٍ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: هَذَا فُلَانٌ بِأَسْوَإِ أَسْمَائِهِ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَلَا تُفْتَحُ لَهُ، فَيَقُولُ: رُدُّوهُ إِلَى الْأَرْضِ إِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا نُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى" قَالَ: فَيُرْمَى بِهِ مِنَ السَّمَاءِ قَالَ: "فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ) [الحج: 31] الْآيَةَ" قَالَ: "وَيُعَادُ إِلَى الْأَرْضِ وَتُعَادُ فِيهِ رُوحُهُ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ شَدِيدَا الِانْتِهَارِ فَيَنْتَهِرَانِهِ وَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ: فَمَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَلَا يَهْتَدِي لِاسْمِهِ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَاكَ قَالَ: فَيُقَالَ: لَا دَرَيْتَ فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ وَيُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ قَبِيحِ الْوَجْهِ مُنْتِنِ الرِّيحِ قَبِيحِ الثِّيَابِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِعَذَابٍ مِنَ اللَّهِ وَسَخَطِهِ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي جَاءَ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ سَرِيعًا إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ" [صحيح الجامع( 1676)].

إن هذا الحديث العظيم يدل على أن الروح جسم لطيف يدرج ويلف في الأكفان، ويصعد به إلى السماء، وهذا يدل على أن الروح تحل في جميع أجزاء البدن، فبخروجها خروجاً نهائياً من البدن يموت الإنسان كما هو واضح جداً ومعروف، فإذا كانت الحياة تدب في الإنسان عندما ينفخ فيه الروح فإن الموت يلاقيه إذا خرجت منه الروح، فإذا حان أجل العبد وشارف عمره على الانتهاء أرسل الله إليه الملك لقبض روحه، فبقبضها يموت الجسد، لأنها هي المحركة له، يقول الله -جلت قدرته وتعالت عظمته-: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام : 61].

ودل الحديث أن الروح تموت من حين مفارقتها للبدن، لكن هذا لا يعني أنها تفنى بحيث تصبح عدماً، وإنما تخرج من الجسد فتنتقل إلى أعلى عليين أو إلى أسفل سافلين بحسب صلاح عمل الإنسان أو فساده.

كما يدل الحديث أيضاً على أن الروح تكون لها رائحة، فإما أن تكون رائحة طيبة إذا كانت نفس الشخص الذي حلت فيه طيبة، وتكون لها رائحة خبيثة إذا كانت النفس التي تحل فيها خبيثة، ولهذا يقال لها عند المفارقة وقبض الروح: اخرجي أيتها النفس الطيبة، التي كانت في الجسد الطيب، واخرجي أيتها النفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث.

كما يبين هذا الحديث الطويل كيفية خروج الروح، وصفة خروجها من الإنسان، فقال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الْآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا جَاءَهُ مَلَكٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ فَتَخْرُجُ نَفْسُهُ وَتَسِيلُ كَمَا يَسِيلُ قَطْرُ السِّقَاءِ".

انظروا -عباد الله- إلى هذا الخطاب اللين العذب الذي يخاطب به الملك الروح الطيبة، يقول لها: أخرجي أيتها النفس المطمئنة، يبشرها بهذه البشارة الطيبة بشارة الاطمئنان والسعادة، في ساعة يبلغ الخوف فيها من الإنسان كل مبلغ، يقول الله -جل جلاله وعز كماله-: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر 27: 30]. ثم اسمعوا إلى كيفية نزع هذه الروح الطيبة، حيث أنها تنزع بكل سهولة ويسر كما تسيل القطرة من فم الإبريق.

أما روح الكافر والمنافق، فإنها والعياذ بالله تخاطب بخطاب شديد عنيف، يقال لها: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، أَبْشِرِي بِسَخَطِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ، ويقال لها أبشري تهكماً بها، أَبْشِرِي بِسَخَطِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ، فأي بشارة تكون بالسخط والغضب.

فَتَنْزِلُ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ مُسُوحٌ أي ثوب خشن قَالَ: فَتَغْرَقُ فِي جَسَدِهِ فَيَسْتَخْرِجُهَا يَقْطَعُ مَعَهَا الْعُرُوقَ وَالْعَصَبَ كَالسُّفُّودِ الْكَبِيرِ الشُّعَبِ فِي الصُّوفِ الْمَبْلُولِ أي تخرج روحه بصعوبة جداً، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعها الملك في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح فَتُؤْخَذُ مِنَ الْمَلَكِ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحٍ وُجِدَتْ فَلَا تَمُرُّ عَلَى جُنْدٍ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: هَذَا فُلَانٌ بِأَسْوَإِ أَسْمَائِهِ التي كان يسمى بها في الدنيا، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام : 93].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا، وَنَصَبَ لَنَا الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ بُرْهَانًا مُبِينًا، وَأَوْضَحَ السَّبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ حَقًّا يَقِينًا. والصلاة والسلام على إمام المصلحين، وخاتم النبيين والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وأتم به النعمة وأكمل به الدين، وعلى آله وأصحابه الذين نشروا دعوته، وأقاموا سنته، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

أيها الناس: إن الإنسان يتكون من شيئين رئيسيين هما: الجسد والروح، فالروح شيء مستقل عن الجسد، فإذا كان الجسد جسم محسوس مشاهد فإن الروح جسم مخالف لهذا الجسم المحسوس كما دل الحديث المذكور، حيث جاء فيه أن الروح يـقبضها ملك الموت، وتقوم الملائكة بوضعها في حنوط أو كفن من الجنة أو النار، ثم تصعد إلى السماء، ثم ترجع وتعود إلى الجسد، وأنها تتنعم أو تعذب، فهذه الشواهد وغيرها تدل دلالة يقينية أن الأرواح شيء والأبدان شيء آخر، وأن الأرواح تبقى بعد مفارقة الأبدان، حيث أخبر رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أن أرواح الشهداء معلقة في جوف طير خضر تسرح وتمرح من الجنة حيث تشاء.

كما أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن أرواح المؤمنين طير يعلق في شجر الجنة، ومع ذلك فقد تعود الروح إلى الجسد كما في حال سؤال الملكين للعبد، فالروح إذاً عبارة عن ذات قائمة بنفسها، تصعد وتنزل، وتتصل وتنفصل، وتخرج وتذهب، وتجيء وتتحرك وتسكن، وهذا ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى -بعد أن ذكر أن مستقر أرواح المؤمنين الجنة- قال: "ومع ذلك تتصل بالبدن متى شاء الله تعالى، وهي في تلك اللحظة بمنزلة نزول الملك، وظهور الشعاع في الأرض، وانتباه النائم.  وقد يقول قائل: هل معنى هذا أن العذاب في البرزخ يكون على الروح فقط دون الجسد؟.

والجواب: الأصل أن العذاب والنعيم في القبر يكون على الروح، وقد تتصل الروح بالبدن فيصيبه شيء من العذاب أو النعيم"، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ يَكُونُ فِي نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ وَلِبَدَنِهِ وَأَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً وَأَنَّهَا تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانًا فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ. ثُمَّ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى أُعِيدَتْ الأَرْوَاحُ إلَى أَجْسَادِهَا وَقَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ" [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ( 4/ 282 ـ 299 ) ].

أيها المسلمون: يقول الله -سبحانه وتعالى-: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر الآية: 42]. فبين الله في هذه الآية أن النفس أو الروح  تقبض عند النوم، ثم منها ما يمسك فلا يرسل أو يعود إلى البدن مرة أخرى  بمعني يتوفى صاحبها، ومنها ما ترجع إلى صاحبها فيقوم من نومه مرة أخرى، ولهذا يقال "النوم أخو الموت"، وكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم--إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: "بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا قَامَ قَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" [ البخاري (6312) ]، وإن كان النائم ليس كالميت في الحساسية، لكن الميت يحس بالنعيم أو العذاب بصفة أكمل وأبلغ من إحساس النائم، لأن نعيم الميت أو عذابه حقيقيان.

عباد الله: ولقد اختلف الناس في الروح اختلافاً كثيراً وكبيراً، وتكلف بعضهم ما لا علم له به، ودخلوا في تفاصيل هم في غنى عنها، ومتاهات لا تسمن ولا تغني من جوع، ونحن يكفينا أن نعلم أن الله -سبحانه وتعالى- لم يجب على سؤال اليهود الذين سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الروح، وإنما اكتفى بقوله -سبحانه-: ( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء : 85]، فالروح مخلوق عجيب لا يعلم الخلق حقيقتها وكيفيتها فلا داعي للتنطع والتكلف في معرفة تفاصيلها، وحسبنا أن نعلم أن أرواح المؤمنين في عليين وأرواح أهل الشقاء في سافلين، كما نعلم أن الروح إذا خرج من الإنسان تبعه البصر، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي سلمة، وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: "إن الروح إذ قبض تبعه البصر" [مسلم (920)], وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَمْ تَرَوُا الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ؟" قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "فَذَلِكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ" [مسلم(921)].

وورد في السنة أيضاً أن الأرواح تتلاقى وتتزاور، ويسأل بعضهم عن حال بعض،  روي عَنْ أُمِّ هَانِئٍ -رضي الله عنها- أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَتَزَاوَرُ إِذَا مِتْنَا وَيَرَى بَعْضُنَا بَعْضًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَكُونُ النَّسَمُ طَيْرًا تَعْلُقُ بِالشَّجَرِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَخَلَتْ كُلُّ نَفْسٍ فِي جَسَدِهَا" [ صحيح الجامع (2989) ].

وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" [ البخاري (3336) مسلم (2638) ]، ومعنى الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ أي جموع مجتمعة وأنواع مختلفة، فما تعارف منها وتوافقت صفاتها وتناسبت في أخلاقها (ائتلف)، من الألفة والمحبة والمودة، وما تناكرت وتنافرت في طبائعها (اختلف)، أي حصل بينها التباعد والتباغض، وهذا يكون في الدنيا يميل أهل الصلاح إلى أهل الصلاح وأهل الشقاء إلى أهل الشقاء، وقيل أنه تلاقي الموتى في البرزخ.

هذا معظم ما جاء في الروح، وما صح من أحاديث حولها، وما جاء في الكتاب والسنة من صفاتها، فحسبنا هذا، وينبغي أن نقف عند هذا.

أيها المسلمون: علينا أن نهتم بتزكية أرواحنا والسمو بها، ونحرص على تنعيمها مما جعله الله سبحانه غذاء لها وخصه بها، فهذا هو المطلوب، وليس المطلوب أن نعرف كل المعلومات والتفاصيل عن الروح، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء : 85].

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من إنسه وجنه، فقال عز من قائل كريم حكيم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.