التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المنجيات |
ما يزال الحديث عن الأخلاق موضوعًا جوهريًّا يتجدد بين الحين والآخر، وقد صح في السنن من حديث أبي هريرة أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: "تقوى الله، وحسن الخلق"، وفي صحيح الجامع من حديث ابن عمر قال -صلى الله عليه وسلم-: "وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل"، نستعرض اليوم -إن شاء الله- بعض المشاهد التي يحكم عليها إما بحسن الأدب أو بسوء الأدب...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما يزال الحديث عن الأخلاق موضوعًا جوهريًّا يتجدد بين الحين والآخر، وقد صح في السنن من حديث أبي هريرة أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: "تقوى الله، وحسن الخلق".
وفي صحيح الجامع من حديث ابن عمر قال -صلى الله عليه وسلم-: "وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل".
نستعرض اليوم -إن شاء الله- بعض المشاهد التي يحكم عليها إما بحسن الأدب أو بسوء الأدب.
معاشر الإخوة: لا أريد أن أدخل في سرد المعاصي؛ إذ إن أسوأ الأدب هو سوء الأدب مع الله تبارك وتعالى.
ولكن المقصود اليوم هو بعض السلوكيات الخاطئة التي يستهين بها أنواع من الناس في تعاملهم مع الناس، ومع الأشياء حولهم؛ ذلك أنهم بالرغم من صلاتهم وصيامهم طلبًا للأجر قد يغيب عنهم ما للأخلاق من قيمة عظيمة في ميزان العبد.
أيها الإخوة: من حُسن الأدب: ترك فضول النظر، وترك فضول السمع؛ فإن التنصت على من يتحدثان بصوت منخفض فضولٌ كريه وسوء أدب، إذا كان ليس من مجلسهما فإن تناجي اثنين دون ثالثهما منهي عنه.
في المشكاة بإسناد حسن عن جابر عنه -صلى الله عليه وسلم- "إذا حدَّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة"، أي: سر لا يريد أحد أن يسمعه غير صاحبه، ومن ثَم فإن الذي يضع أذنه تنصتًا لكلام الآخرين ولو من بعيد فقد أساء الأدب وتدخل فيما لا يعنيه. وقد جاء في المسند قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
أيها الإخوة : من حسن الأدب اعتدال الصوت أثناء الحديث بين الخفض والرفع إلا أن يكون مناديًا أو محذرًا، فعادة رفع الصوت عاليًا خاصة من فئة من الشباب بينه وبين بعض من سوء الأدب يقول تعالى في معرض وصايا لقمان لابنه: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان:19]، قال ابن زيد: "لو كان رفع الصوت خيرا ما جعله الله للحمير".
وفي الأدب المفرد من حديث عطاء: "لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التوراة"، قال: "أجل والله إنه لموصوف في التوراة"، وفيه قال: "ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق"، إلى آخر الأثر، الصخب هو شدة الصوت.
ومن سوء الأدب كذلك رمي المخلفات من أوراق أو علب فارغة وما شابه ذلك من نافذة السيارة، وفي ذلك بعد سوء الأدب وساخة وإهمال وكسل واستهتار ولا مبالاة.
فالإنسان بهذا الخلق عالة على المجتمع أشغل المجتمع بجمع مخلفاته، قد صح في مسلم من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتَّقُوا اللاعِنَيْنِ". قَالُوا: وَمَا اللاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: "الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ ظِلِّهِمْ" أي: كالذي يقضي حاجته في طريق الناس أو في مكان جلوسهم واستظلالهم مستحق للعنهم.
وكذلك الذين يتركون مخلفاتهم على الأرض في أماكن النزهة كالمسطحات الخضراء في السواحل البحرية وغيرها يسيئون الأدب، بل ويتعلم منهم أولادهم الكسل والإهمال فلا يبقى مكان تجتهد الجهات المختصة وتبذل الأموال في تجهيزه وإعداده للترفيه عن الناس وإيجاد أماكن النزهة إلا أتلفوه وخربوه وجعلوه مرمى لنفايتهم.
وفي الوجه المقابل، فإن من حسن الأدب وضع مثل هذه المخلفات في أماكنها المعدة لذلك والإحساس بالمسئولية وبقيمة الأشياء، وأهمية نظافتها؛ فالنظافة مطلب شرعي قال تعالى (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 3].
قد صح في الترغيب في حديث ابن مسعود قوله -صلى الله عليه وسلم-: "والنظافة تدعو إلى الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنة".
وفي صحيح الجامع من حديث ابن عباس قال -صلى الله عليه وسلم- في استحباب الوضوء قبل النوم وهو من النظافة والطهارة قال: "مَنْ بَاتَ طَاهِرًا بَاتَ فِي شِعَارِهِ مَلَكٌ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إِلَّا، قَالَ الْمَلَكُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِكَ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ بَاتَ طَاهِرًا".
وفي صحيح الجامع من حديث سعد بن أبي وقاص -صلى الله عليه وسلم-: "طَهِّرُوا أَفْنِيَتَكُمْ، فَإِنَّ الْيَهُودَ لا تُطَهِّرُ أَفْنِيَتَهَا"، وفي لفظ: "نظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود تجمع الأكباء في دورها".
فدين الإسلام دين نظافة وطهارة لا دين وسخ وإهمال.
ومن حسن الأدب اللين والكرم أثناء قيادة السيارة، وإعطاء الفرصة للآخرين والتقيد بقوانين وأنظمة المرور، كل ذلك من حسن الأدب.
أما الدخول السيارات من اليمين أو إلى اليسار ترهب وترعب النفوس، وقد تؤذي وتزهق الأرواح، وترمل النساء وتيتم الأطفال؛ فهذا لا شك من سوء الأدب، بل من المعاصي والآثام؛ لأنها تدخل في الترويع وإلقاء النفس في التهلكة.
ومن سوء الأدب إغلاق الطريق بالسيارة من أجل الحديث مع صديق عبر نافذة السيارة واللامبالاة بتعطيل الناس خلفه، فهذا من قلة الأدب وقبح الاستهتار.
ولذلك فإن من حسن الأدب مراعاة حاجات الناس واحترام مشاعرهم ومشاغلهم، فإذا أراد الحديث مع صديقه نحى سيارته على جانب الطريق.
ففي الصحيح من حديث أبي سعيد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والجلوس في الطرقات" قالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بدّ نتحدث فيها، فقال: "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
قال "كف الأذى"، ولا شك أن من الأذى تعطيل الناس وهم ينتظرون هذا الذي سد عليهم الطريق بكل برود.
ومن حسن الأدب أيها الإخوة: قيام الموظف في الدوائر والمصالح الحكومية بواجب خدمة الناس بروح طيبة واحتساب الأجر في إتقان عمله، والصبر على أذى الناس، طبعًا في حدود الأدب فكلٌ له كرامته.
ولكن ليعلم جيدًا أن حاجات الناس وحقوقهم جعلها الله تعالى عنده ابتلاء له فـ"إن لصاحب الحق مقالاً"؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
فلابد من الصبر على الناس؛ إذ إن مصالحهم بين يديه فلا يشق عليهم، وقد قال أيضًا عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ".
ولذلك فضلا عن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه فإن من قلة الأدب وسوء الخلق التكبر على الناس والتثاقل في خدمتهم وتأخيرهم بلا سبب سوى الكسل وضيق الصدر، وإهمال مصالحهم بكل برود وتضييع معاملاتهم واستقبالهم بوجه عبوس كأنما يتسولونه الحاجة، وهو موظف قائم بواجبه فهذا من قلة الذوق وسوء الأدب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن من حسن الأدب: التبسم، ومن سوء الأدب التجهم والعبوس بلا سبب يحسب أن ذلك من الوقار وقد كان من هو أوقر منه وأفضل منه، بل أفضل الخلق أجمعين -صلى الله عليه وسلم- يتبسم في غالب أمره.
ففي سنن الترمذي بإسناد صحيح عن عبدالله بن الحارث أنه قال: "ما رأيت أحد أكثر تبسمًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وفي صحيح البخاري يقول جرير بن عبدالله " مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلا رَآنِي إِلا تَبَسَّمَ".
وإنك لتسلم على بعض الناس لاسيما في المناسبات فتمد يدك إليهم تصافحه وأنت تنظر في وجهه ببشر فيمد يده ويصافحك وهو ملتفت إلى غيرك، لا ينظر إليك، أو يصافحك وهو يكلم غيرك، وكأنك أنت وسلامك لا قيمة لك عنده.
فهذا ليس من الأدب بل من قلة الأدب.
أيها الإخوة: إن من حسن الأدب احترام هيبة المسجد؛ إذ هو بيت من بيوت الله وذلك بوضع الهاتف على الصامت وخلافه أي من سوء الأدب ضبط رنة الهاتف على موسيقى وطرب وإزعاج الملائكة والإمام والمصلين في تلك الصلاة..
أسأل الله تعالى أن يهدينا إلى أحسن الأقوال والأعمال إنه سميع قريب...
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين..