الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
ربُّنا -عزَّ وجلَّ- يُريدُ من عبدِهِ أن يكونَ راضِياً عن الله -تعالى- في قضائِهِ وقَدَرِهِ, وما ذاكَ إلا لمصلحةِ العبدِ؛ لأنَّ ربَّنا -عزَّ وجلَّ- ما كَلَّفَ العِبادَ ليكونَ خيرُ التَّكليفِ عائداً عليهِ, بل ليكونَ على العبدِ المكلَّفِ. فربُّنا -عزَّ وجلَّ- عندما يطلُبُ من العبدِ الرِّضا يطلُبُهُ منهُ حتَّى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: ربُّنا -عزَّ وجلَّ- يُريدُ من عبدِهِ أن يكونَ راضِياً عن الله -تعالى- في قضائِهِ وقَدَرِهِ, وما ذاكَ إلا لمصلحةِ العبدِ؛ لأنَّ ربَّنا -عزَّ وجلَّ- ما كَلَّفَ العِبادَ ليكونَ خيرُ التَّكليفِ عائداً عليهِ, بل ليكونَ على العبدِ المكلَّفِ.
فربُّنا -عزَّ وجلَّ- عندما يطلُبُ من العبدِ الرِّضا يطلُبُهُ منهُ حتَّى يَرضى عنهُ ربُّنا -عزَّ وجلَّ-, ومَن يُرضِيهِ ربُّنا -عزَّ وجلَّ- أسعَدَهُ اللهُ -تعالى- دُنيا وأُخرى.
والمعينُ للعبدِ على رِضاهُ عنِ الله -عزَّ وجلَّ- في قضائِهِ وقَدَرِهِ كلِّهِ هوَ: أن يُفكِّرَ العبدُ في نفسِهِ وينظُرَ إلى رحمةِ الله -تعالى- فيه منذُ أن كانَ جنيناً في بطنِ أمِّهِ إلى السَّاعةِ التي يُفكِّرُ فيها, واللهِ ما عَوَّدَنا ربُّنا -عزَّ وجلَّ- إلا خيراً, حتَّى في المِحَنِ؛ لأنَّ المِحَنَ تحملُ في طَيَّاتِها مِنَحاً, ولكنَّ الأمرَ يحتاجُ إلى تأنٍّ حتَّى إذا عَرفتَ السَّببَ يزولُ عنكَ العَجَبُ.
ولا أدلَّ على ذلكَ من قِصَّةِ سيِّدِنا الخَضِرِ مع سيِّدِنا موسى -عليهما السَّلامُ- التي ذَكَرها ربُّنا -عزَّ وجلَّ- في القرآنِ الكريمِ, وفي خِتامِ القِصَّةِ قالَ سيِّدُنا الخَضِرُ لسيِّدِنا موسى -عليهما السَّلامُ-: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ففي ظاهِرِ الأمرِ خَرْقُ السَّفينةِ أمرٌ صعبٌ, والأصعبُ منهُ قتلُ الغلامِ, وكذلكَ بناءُ الجدارِ في القريةِ التي انتشرَ فيها الشُّحُّ, ولكن عندما عُرِفَ السَّببُ بَطَلَ العَجَبُ.
أيُّها الإخوة الكرام: يقولُ أبو سُليمانَ الدَّارانيُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: "الرِّضا عن الله -تعالى-, والرَّحمةُ للخلقِ دَرَجَةُ المرسلينَ" ا. ه.
فَمَن قرأ سِيرةَ الأنبياءِ والمرسلينَ -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- عَرَفَ أنَّ من سِيرَتِهِمُ الرِّضا عنِ اللهِ -تعالى- في قضائِهِ وقَدَرِهِ, وهذا ما ظَهَرَ جَليَّاً في حياةِ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- يومَ الطَّائِفِ عندما بكى وضَجَّ في الدُّعاءِ لله -عزَّ وجلَّ- قائلاً: "إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتُك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ, وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى".
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا موسى -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- سألَ ربَّهُ -عزَّ وجلَّ- عن ستِّ خِصالٍ:
الأولى: قال: يا رَبِّ أيُّ عبادِكَ أَتقى؟ قال: الذي يَذكُرُ ولا يَنسى.
سل نفسَكَ: ولأسألْ نَفسِي: هل نحنُ نذكُرُ اللهَ -تعالى- ولا نَنسَاهُ؟ هل نلتزِمُ قولَ الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) [الأحزاب: 41].
الثانية: قال: فأيُّ عبادِكَ أَهدَى؟ قال: الذي يَتَّبِعُ الهُدى.
سل نفسَكَ: ولأسألْ نفسي: هل نحنُ مِنَ الذين اتَّبعوا الهُدى الذي جاءَنا من الله -تعالى-, والذي أمَرَنا ربُّنا -عزَّ وجلَّ- بالتِزامِهِ؟ قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 38].
الثالثة: قال: فأيُّ عبادِكَ أَحكَمُ؟ قال: الذي يَحكُمُ للنَّاسِ كما يَحكُمُ لِنَفسِهِ.
سل نفسَكَ: ولأسألْ نفسي: هل نحنُ ممَّن يُنصِفُ الآخرينَ من أنفُسِنا؟ هل نحنُ ممَّن يلتزمُ قولَ الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 135].
الرابعة: قال: فأيُّ عبادِكَ أعلَمُ؟ قال: عالمٌ لا يَشبَعُ من العِلمِ، يجمعُ عِلمَ النَّاسِ إلى عِلمِهِ.
سل نفسَكَ: ولأسألْ نفسي: هل نحنُ ممَّن كانَ حريصاً على زِيادةِ العلمِ النَّافِعِ؟ هل نحنُ ممَّن يبحثُ عن زِيادةِ العلمِ؟ هل ندعو بالدُّعاءِ الذي علَّمنا إيَّاهُ ربُّنا -عزَّ وجلَّ-: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114].
الخامسة: قال: فأيُّ عبادِكَ أعزُّ؟ قال: الذي إذا قَدَرَ غَفَرَ.
سل نفسَكَ: ولأسألْ نفسي: هل نحنُ من الصَّابرينَ على الأذى إذا لم نقدر على الرَّدِّ؟ وهل نحنُ ممَّن يعفو ويغفرُ إن قَدَرنا على من آذانا؟ هل نحنُ ممَّن سَمِعَ قولَ الله -تعالى-: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور: 22].
السادسة: قال: فأيُّ عبادِكَ أَغنَى؟ قال: الذي يَرضَى بِمَا يُؤتَى.
سل نفسَكَ: ولأسألْ نفسي: هل نحنُ ممَّن إذا جاءَ القضاءُ والقَدَرُ خِلافَ ما نُريدُهُ ونهواهُ ونتمنَّاهُ نرضى به؟ وهل نحنُ نرضى بما قَسَمَ اللهُ -تعالى- لنا من عطاءٍ ومنعٍ, وخفضٍ ورفعٍ, وعزٍّ وذلٍّ؟
أيُّها الإخوة الكرام: الرِّضا عن الله -تعالى- في العطاءِ والرَّخاءِ أمرٌ طبيعيٌّ, ولا يُستبعدُ عن المؤمنِ ولكن ليسَ هذا المعوَّلَ عليه, بل المعوَّلُ عليه هوَ الرِّضا عن الله -تعالى- في الأخذِ والمنعِ كما هوَ الرِّضا في العطاءِ والرَّخاءِ.
ذَكرَ الذهبيُّ وابنُ كثيرٍ أنَّ عروةَ بن الزبيرِ أَحَدَ عُلَماءِ المدينةِ والذي كانَ يقطعُ يومهُ صائماً غالباً ويقطعُ ليلهُ قائماً ويَختِمُ القُرآنَ في كلِّ أربعِ ليالٍ, مرَّةً أخذَ ابنهُ وسافرَ في يومٍ من الأيامِ وأصابتهُ الآكلةُ في رجلِ قدمِهِ, فجاؤوا بهِ إلى الأطباءِ فقالوا: نقطعها من القدمِ, قال: لكنِّي أنتظرُ وأصبرُ وأحتَسِبُ, فَصَعَدَتِ الآكلةُ إلى السَّاقِ, فقالوا: نقطعُهَا من الرُّكبَةِ, قال: لكنِّي أنتظرُ وأصبرُ وأحتَسِبُ, فَدَخَلت إلى الفَخِذِ, فقالوا: يُخشى عليكَ, قال: اللهُ المستعانُ, سلَّمتُ أمري للهِ, فافعلوا ما شئتم, فجاءَ الأطباءُ وتجمَّعُوا بمناشيرهِم وجاءوا له بكأسِ خمرٍ قالوا له: اشرب هذا عَلَّه أن يذهبَ عقلُكَ فلا تحسَّ بألمِ القطعِ فَصَاحَ وقالَ: عقلٌ منحنيه ربِّي أذهبُهُ بكأسٍ من الخمرِ, لا والله, لكن إذا أنا توضأتُ ووقفتُ بين يديِ اللهِ وقمتُ لأصلي, وسَبَحتُ مع آياتِ اللهِ البيِّناتِ فافعلوا برجلي ما شئتم, توضأَ وَوَقَفَ بين يديِ الله وجَمَعُوا مناشيرهم وسَبَحَ مع آياتِ اللهِ البيِّناتِ وقاموا يقطعونَ في رِجلِهِ بالمناشِيرِ والدماءُ تنزفُ وإذ به يَخِرُّ مَغشيَّاً عليه وفي تلكَ اللَّحظةِ كانَ ابنهُ محمدٌ وراءَ ناقةٍ من النوقِ يطارِدُهَا فَرَفَسَتهُ, فأماتَتهُ مصيبتانِ في آنٍ واحدٍ, أفاقَ من غيبوبته فقالوا له: أحسنَ اللهُ عزاءك في ابنك محمد, وأحسنَ اللهُ عزاءك في رِجلِك, فقال: الحمدُ لله ربِّ العالمين أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً, إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون, اللهم يا رب إن كنتَ أخذتَ فقد أعطيتَ, أعطيتني أربعةً من الولدِ وأخذتَ واحداً فلكَ الحمدُ أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً, وأعطيتني أربعةً من الأطرافِ فأخذتَ واحداً فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً, فطلب الوليدُ أن يأتي إليه فذهب إليه في قصره ودخل على الوليد وجلسَ عندهُ وبه من الهَمِّ ما بهِ لكنَّه فوَّضَ أمرهُ إلى اللهِ -جلَّ وعَلَا-، فجاءَ طفلٌ صغيرٌ من أطفالِ الوليدِ وقال: ما أصابَ عروةَ ما أصابَهُ إلا بذنبٍ أصابَهُ فقال: لا واللهِ
ما مَدَدتُ كَفي لريبةٍ ولا | حملتني نحوَ فاحشةٍ رجلي |
ولا دلَّني سمعي ولا بصري لها | ولا قادني فِكرِي إليها ولا عَقلي |
وأعلم أني لم تصبني مصيبةٌ | من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي |
وصادَفَ أن نَزَلَ بدارِ الخِلافَةِ جماعةٌ مِن بَنِي عَبسٍ فيهِم رجلٌ ضريرٌ, فسألَهُ الوَليدُ عن سبَبِ كفِّ بَصَرِهِ, فقال: يَا أميرَ المؤمنينَ بِتُّ ليلةً في بَطنِ وادٍ, ولا أَعلَمُ عَبسِيَّاً يزيدُ مالُهُ على مالي، فَطَرَقَنَا سَيلٌ فَذَهَبَ بما كَانَ لي من أَهلٍ وَوَلَدٍ, ومالٍ غيرَ بعيرٍ, وصبيٍّ مولودٍ, وكانَ البعيرُ صعباً فَنَدَّ، فَوَضعتُ الصَّبِيَّ واتَّبَعتُ البَعيرَ، فَلَم أُجاوِز قَليلاً حتى سَمِعتُ صَيحَةَ ابني ورأسُهُ في فَمِ الذِّئبِ وهوَ يأكُلُهُ، فَلَحِقتُ البَعيرَ لأَحبِسَهُ فَنَفَحَنِي بِرِجلِهِ على وَجهِي فَحَطَّمَهُ وذَهَبَ بِعَينَيَّ، فَأصبَحتُ لا مالَ لي, ولا أهلَ, ولا وَلَدَ, ولا بَصَرَ, فقال الوليدُ: انطَلِقُوا بِهِ إلى عروة, ليَعلَمَ أنَّ في النَّاسِ مَن هُو أَعظَمُ مِنهُ بلاءً.
وكانَ أحسنَ مَن عَزَّاهُ إبراهيمُ بنُ محمَّدِ بنِ طَلحَةَ وقالَ له: واللهِ ما بِكَ حاجَةٌ إلى الَمشيِ، ولا أَرَبٌ في السَّعيِ، وقد تَقَدَّمَكَ عُضوٌ مِن أَعضائِكَ وابنٌ من أَبنائِكَ إلى الجَنَّةِ، والكُلُّ تَبَعٌ للبَعضِ، إن شاءَ اللهُ -تعالى-، وقد أَبقى اللهُ لَنَا مِنكَ مَا كُنَّا إِليهِ فُقراءَ، وعَنهُ غيرُ أَغنياءَ، ومِن عِلمِكَ ورأيِكَ، نَفَعَكَ اللهُ وإيَّانَا به، واللهُ وليُّ ثَوابِكَ، والضَّمِينُ بِحِسابِكَ.
لِنَكُن راضينَ عنِ اللهِ -تعالى- في قضائِهِ وقَدَرِهِ؛ لأنَّهُ حاشا لربِّنا -عزَّ وجلَّ- القائلِ في كتابِهِ العظيمِ: (جَزَاء وِفَاقًا) [النبأ: 26].
والقائلِ: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60] أن يرانا راضينَ عنهُ ولم يرضَ عنَّا.
نسألُ اللهَ -تعالى- أن يُعيننا على ذلكَ, وأن لا يُحمِّلَنا ما لا طاقةَ لنا به, وأن يُعامِلَنا بفضلِهِ لا بعدلِهِ, وأن يكشفَ هذهِ الغُمَّةَ عن هذهِ الأمَّةِ عاجلاً غيرَ آجلٍ, ونسألُهُ تعالى كما سألَهُ سيِّدُنا رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- بقوله: "إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتُك هِيَ أَوْسَعُ لِي".
أقول هذا القول, وأستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.