السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إنَّ الحديث عنها طويلٌ ومُتشعِّب، ومحفوفٌ ببعض العوائق، فلا ريب أنَّ لهذه المشكلات خُصوصيَّتها، ولا يرغبُ أطرافها في نشْر مشكلاتهم، أو أن يتدخَّل الجميع في علاجها، وربما كان الطَّرف المظلوم ضعيفًا لا يستطيع الجهر بالشكوى أو البوح بمكنون ضميره، وربما رأى المجتمع بتقاليده وعاداته أنَّ...
الخطبة الأولى:
أمَّا بعدُ:
فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى- ومُراقبته، فنعم الوصيَّة هذه، ونعم المتَّقَى سبحانه: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)[المدثر: 56].
عباد الله: مَن منَّا صَفَتْ أيامه بلا كدر؟ وهل منَّا أحدٌ خلا بيته وأسرته عن منغص؟ لا وربي، فالدُّنيا بأسرها دار حفلت بالمنغِّصات والكدر، وما أصدق ذلك الوصف القُرآني لحال ابن آدم في الدُّنيا: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)[البلد: 1 - 4].
فهذا القَسَمُ العظيم من ربنا -سبحانه- وهو أصدقُ القائلين يشعر كلُّ مستمعٍ له أنَّ الدنيا دارٌ لا صفاءَ فيها بإطلاق، فلا يمضي على الإنسان يومٌ إلا ويُقاسي فيه شدَّة، ويُكابد فيه مشقَّة: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)[البقرة: 155].
وأنواع الكبد والمشقَّة كثيرة، منها ما تُعانيه بعض البيوت من التصدُّع الأسري ووجود الشِّقاق بين الوالدين أو بين أحد الوالدين مع الأولاد، وقد يكونُ هناك مشكلة عالقة تمنع من الصفاء والأمان؛ كمَن تُعاني من زوجها المدمن على المسكرات والمخدرات، أو تلك الأرملة التي تعولُ أولادها وتشرف على تربيتهم ويصعُب عليها السيطرة على بيتها وتخافُ على رعيَّتها من الضَّياع في أتون الحياة ومُشكلاتها، أو ذلك الفتى المبتلى بأبٍ قاسي القلب صعب المراس، أو تلك الفتاة التي تشتَكِي من إهمال والديها أو ظلم إخوانها، وتخاف على نفسها، وهلمَّ جرًّا من المشكلات التي لا تخلو منها غالب البيوت، وكثيرٌ من هذه المشكلات تكون سهلةً، ويُوفَّق أطرافها في تجاوزها بيسرٍ أو تحلُّ مع مُرور الزمن، ولكنْ يبقى قسمٌ من البيوت يصطَلِي بنار تلك الأزمات والمشكلات التي تعصفُ باستقراره وتهزُّ كيانه ما لم يقيضِ الله -تعالى- لها مَن يُساهم في إزالة تلك الغمَّة، وكشف تلك الكربة، والجميع يسلم بأنَّ تلك المشكلات إنْ لم يتمَّ تلافيها وعلاجها، فإنَّ آثارها كبيرةٌ، وطويلة المدى.
أيها الإخوة في الله: لولا أنَّ للبيوت أسرارها لذكَرتُ لكم نماذج من تلك المشكلات التي يُعايِشها بعضُ أفراد مجتمعنا ويصطلون بنارها، رافعين شكواهم إلى الرحمن الرحيم، يرجون منه سبحانه اللطفَ والتيسيرَ، وهو سبحانه أرحمُ الراحمين، ولكن -أيها الأحبة- كيف السبيل إلى عِلاج تلك المشكلات والأزمات؟
إنَّ الحديث عنها طويلٌ ومُتشعِّب، ومحفوفٌ ببعض العوائق، فلا ريب أنَّ لهذه المشكلات خُصوصيَّتها، ولا يرغبُ أطرافها في نشْر مشكلاتهم، أو أن يتدخَّل الجميع في علاجها، وربما كان الطَّرف المظلوم ضعيفًا لا يستطيع الجهر بالشكوى أو البوح بمكنون ضميره، وربما رأى المجتمع بتقاليده وعاداته أنَّ الحديث بصوت مسموع في هذه القضايا ممنوع، فما الذي يصنعه إذًا مَن ابتُلِي بها وأصبحت حياته مليئة بالشوك والعقبات؟
إنَّ هذه المشكلات إن لم تجدْ يدًا حانية، وقلبًا مشفقًا، ونفسًا حريصةً على رأب الصدع، فإنَّه يخشى أنْ يزيد أوارها ويستطير شررها، ولما كان المفترض في كلِّ مسلم أنْ يحب لإخوانه ما يحب لنفسه عملاً بالحديث المتفق عليه: "لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه".
وكلُّ واحدٍ منَّا يودُّ أنْ يعيش هادئ البال، مطمئنَّ الحال، فكذا ينبغي لنا أنْ نبذل الجهدَ في حلِّ هذه المشكلات متى وقعت، فهي من وسائل الإصلاح بين المسلمين، كما أنها من وسائل تحصيل الاستِقرار في البيوت والأسر، ومتى كانت البيوت مستقرةً خاليةً من المنغِّصات كانت حَرِيَّة بتوفير الراحة والسكن والمودَّة لأفرادها، والسعيُ في الإصلاح ولم الشمل مطلوب شرعًا؛ فقد قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)[الأنفال: 1].
وقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)[الحجرات: 10].
وقال تعالى في بيان ما يُعمَل عند شِقاق الزوجين: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)[النساء: 35].
وإنَّ السعيَ في إصلاح ذات البَيْنِ ورأب الصَّدع لدى الأسر والمساهمة في حلِّ مشكلاتها عملٌ محمود مأجورٌ عليه صاحبه، وليس في ذلك أيُّ غَضاضة أو مَنقَصة، بل إنَّ لنا في نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- القُدوة والأسوة الحسَنة، بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-، وأنعم به من معلمٍ للبشريَّة، ومُرَبٍّ قدير، وساعٍ في كل برٍّ، فمع عظيم مسؤوليَّته في تبليغ رسالة ربِّه، ولا ريب أنَّه أكثر الناس عملاً ومسؤوليَّاتٍ، وأكثرُهم تحمُّلاً للأمانة، فإنَّ ذلك كله لم يشغَلْه عن أنْ يُسهِمَ بجهده في رأب الصَّدع وعلاج مشكلات البيوت، بل كان صلى الله عليه وسلم وهو الرؤوف الرحيم بأمَّته يتحسَّس مشاعر أفراد مجتمعه، ويبذل جاهَه ونصحَه في التوفيق بين المتخالفين، ومن ذلك بعض مشكلات البيوت والأسر.
وإليكم هذه النماذج المضيئة من سِيرته صلى الله عليه وسلم: أخرج أبو داود أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تضرِبوا إماءَ الله" فجاء عمرُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ذَئِرنَ النساء على أزواجهنَّ -أي: نشزنَ وتجرَّأن وساءت أخلاقهن مع أزواجهن- فرخص في ضَربهنَّ فأطاف بآل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءٌ كثير يشكون أزواجهنَّ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد طافَ بآل محمدٍ نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخِياركم".
فانظُرْ -يا عبد الله- حين بادَرَتِ النساء برفْع شَكواهنَّ إليه صلى الله عليه وسلم فقد عَلِمنَ أنَّه صلى الله عليه وسلم سيهتمُّ بأمرهن، فجِئنَ إليه وهن كثيراتٌ، كما في اللفظ الآخَر قال صلى الله عليه وسلم: "لقد طافَ الليلة بآل محمد سبعون امرأةً، كلُّ امرأة تشتكي زوجها، فلا تجدون أولئك خياركم" [ابن ماجة].
فهل تبرَّم بهنَّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ هل طردهنَّ عن بيته؟ وهل أنكر عليهنَّ شكوى رجالهن؟ وانظُرْ إليه صلى الله عليه وسلم حين يُوجِّه الرجال في هذا الأمر ويُبيِّن أنَّ مكارم الأخلاق تنهى عن المبالغة في الضرب والإيذاء.
وصورة أخرى يتدخَّل فيها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- باذلاً جاهَه لدى أمَةٍ مسلمة عُتِقت، وهي بريرة -رضِي الله عنها-، فقد كان زوجها عبدًا واسمه: "مغيث"، وإذا عتقت الأمَة خُيِّرَتْ بين البَقاء مع زوجها أو أنْ تختار فراقه، فاختارت بريرة مُفارَقة زوجها فتأثَّر زوجها بذلك، واسمع ما رواه أبو داود عن ابن عباس -رضي الله عنها- أنَّ مغيثًا كان عبدًا، فقال: يا رسول الله، اشفَعْ لي إليها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا بريرة، اتَّقي الله، فإنَّه زوجك وأبو ولدك" فقالت: يا رسول الله، أتأمُرني بذلك؟ قال: "لا، إنما أنا شافعٌ" قالت: لا حاجة لي فيه، فكانت دموعُه تسيل على خدِّه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس: "ألا تعجَب من حُبِّ مُغيث بريرة وبغضها إيَّاه؟" [أخرجه الترمذي وأحمد وأبو داود والدرامي بألفاظ متقاربة].
يا عباد الله: هذا غيضٌ من فيض النبوَّة والحكمة، فهل نحن مُقتَدون؟ وهل نبذل الرأي والجاه والمال في خِدمة إخواننا المبتلين في بيوتهم وأسرهم، عسى أنْ يكتب الله لنا ولهم الخير والفلاح في الدُّنيا والآخِرة.
أقول...
الخطبة الثانية:
إنَّ التصدِّي لمشكلات الناس والمساهمة في حلِّها ليس بالأمر السهل؛ إذ يتطلَّب وقتًا وجهدًا وحكمةً وعلمًا، وكلَّما توفَّرت الخبرة والكفاءة العلميَّة والممارسة التربويَّة في ذلك الأمر كان أفضل وأحرى بالنَّفع؛ ولذا فإنَّ الجهات والجمعيَّات المهتمَّة بالشُّؤون الاجتماعيَّة، والنفع العام مُطالَبةٌ بالاهتمام بهذا الموضوع، والسعي في هذا السبيل الذي أصبح مطلبًا مُلِحًّا في سبيل توفير الاستِقرار الأسري.
وإنَّ بذل الجهد في إصلاح ذات البين، وإزالةِ العوالق والمشاكل الاجتماعية، لا يقلُّ أهميَّةً عن إيصال الطعام والشراب إلى البيوت المحتاجة، فالنفس تنشدُ الاستقرار والطمأنينة كما تنشدُ الكفاف والستر، ولكن إنْ لم يتيسَّر قيامُ تلك الجهات والجمعيَّات بواجبها في هذا الموضوع فإنَّ كلَّ مصلحٍ وغيور بإمكانه أنْ يُسهِمَ قدرَ جهده في نفع إخوانه ومَن حوله، فللقريبِ دورٌ مع قريبه، وكذا بإمكان الجار وإمام المسجد والداعية وزميل العمل أنْ يعرض المساعدة في علاج مثل هذه المشكلات، وأنْ يحتسبَ الأجر في ذلك، فالإصلاح بين الناس عملٌ محمود مُثاب عليه شرعًا؛ كما قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء: 114].
وهنيئًا لمن كان مِفتاحًا للخير مِغلاقًا للشر.
عباد الله: صلُّوا وسلِّموا...