القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
وَإِذَا عَظُمَتْ حَاجَةُ الْبَشَرِ لِشَيْءٍ كَانَ بَذْلُهُ لَهُمْ أَنْفَعَ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ، وَأَعْظَمَ الْقُرَبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ وَالمَاءُ أَهَمُّ شَيْءٍ لِبَقَاءِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ بَعْدَ الْهَوَاءِ، فَكَانَ فِي بَذْلِهِ إِحْيَاءٌ لَهُمْ، كَمَا أَنَّ فِي مَنْعِهِ عَنْهُمْ هَلَاكًا لَهُمْ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَذْلُ الْمَاءِ، وَكَانَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ مَنْعُ فَضْلِ المَاءِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ..
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلهِ الرَّحِيمِ التَّوَّابِ، الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ، فَتَحَ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لِلْبَاذِلِينَ، وَعَدَّدَ أَنْوَاعَ الْبِرِّ لِلْعَامِلِينَ، وَخَصَّ بِالْفَضْلِ عِبَادَهُ الْمُحْسِنِينَ، وَأَسْبَغَ نِعَمَهُ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، نَحْمَدُهُ أَنْ هَدَانَا إِلَيْهِ، وَدَلَّنَا عَلَيْهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمٍ أَتَمَّهَا، وَنِقَمٍ دَفَعَهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ؛ دَلَّنَا عَلَى الْخَيْرِ لِنَأْخُذَ حَظَّنَا مِنْهُ، وَحَذَّرَنَا مِنَ الشَّرِّ لِنَبْتَعِدَ عَنْهُ؛ نُصْحًا لَنَا، وَرَحْمَةً بِنَا، وَشَفَقَةً عَلَيْنَا، فَمَنْ أَطَاعَهُ أَفْلَحَ وَفَازَ، وَمَنْ عَصَاهُ خَسِرَ وَخَابَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ حَرِّ الدُّنْيَا عِبْرَةً لِحَرِّ الْآخِرَةِ، وَمِنْ عَطَشِهَا تَذْكِرَةً لِعَطَشِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ شَمْسِهَا عِظَةً لِشَمْسِ المَوْقِفِ الْعَظِيمِ، حِينَ تَدْنُو مِنْ رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ قَدْرَ مِيلٍ، فَاعْمَلُوا عَلَى نَجَاتِكُمْ بِعِبَادَةِ رَبِّكُمْ، وَقَدِّمُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا يَكُونُ ذُخْرًا لَكُمْ؛ فَإِنَّ المَوْعِدَ قَرِيبٌ، وَهَوْلَ المُطَّلَعِ شَدِيدٌ (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) [المعارج:6-10].
أَيُّهَا النَّاسُ: عِنْدَمَا يَشْتَدُّ الْحَرُّ تَعْظُمُ قِيمَةُ المَاءِ، وَلَا شَيْءَ أَلَذَّ مِنَ المَاءِ الْحُلْوِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ؛ وَلِذَا أَغْرَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّتَهُ فِي اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ بِالشُّرْبِ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ مِنْ حَوْضِهِ الَّذِي وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: "... مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا" رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَفِي الْجَنَّةِ (أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد:5] أَيْ: غَيْرِ مُتَغَيِّرٍ، لَاَ بِوَخَمٍ وَلَا بِرِيحٍ مُنْتِنَةٍ، وَلَا بِمَرَارَةٍ، وَلَا بِكُدُورَةٍ، بَلْ هُوَ أَعْذَبُ المِيَاهِ وَأَصْفَاهَا، وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، وَأَلَذُّهَا شُرْبًا.
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ بَعَثَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِرِسَالَةٍ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ نَبِيِّهَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ..." رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَمِنْ حُجَجِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي إِفْرَادِ اللهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء:79]، وَدَعَا الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَرَكَةِ فِي المَاءِ، وَشَرَطَتْ هَاجَرُ عَلَيْهَا السَّلَامُ عَلَى جُرْهُمَ لمَّا سَاكَنُوهَا أَنْ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ زَمْزَمَ نَبَعَتْ بِسَبَبِهَا وَوَلَدِهَا. فَلَوْلَا أَهَمِّيَّةُ شُرْبِ المَاءِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ، وَلَذَّتُهُمْ بِهِ حَالَ الْعَطَشِ؛ لَمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَوَصَفَهَا؛ وَلَمَا ذَكَرَهَا الْخَلِيلُ فِي وَصِيَّتِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؛ وَلَمَا دَعَا لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُبَارَكَ فِي مَائِهِمْ؛ وَلَمَا شَرَطَتْ هَاجَرُ أَنَّ المَاءَ لَهَا؛ وَلَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْصَافَ حَوْضِهِ فِي المَوْقِفِ الْعَظِيمِ؛ وَلَمَا خُصَّ الصَّائِمُونَ الظَّامِئُونَ بِبَابِ الرَّيَّانِ فِي الْجَنَّةِ.
وَإِذَا عَظُمَتْ حَاجَةُ الْبَشَرِ لِشَيْءٍ كَانَ بَذْلُهُ لَهُمْ أَنْفَعَ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ، وَأَعْظَمَ الْقُرَبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ وَالمَاءُ أَهَمُّ شَيْءٍ لِبَقَاءِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ بَعْدَ الْهَوَاءِ، فَكَانَ فِي بَذْلِهِ إِحْيَاءٌ لَهُمْ، كَمَا أَنَّ فِي مَنْعِهِ عَنْهُمْ هَلَاكًا لَهُمْ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَذْلُ الْمَاءِ، وَكَانَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ مَنْعُ فَضْلِ المَاءِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِيهَا شُرَكَاءُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ، يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ..." الْحَدِيثُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "...وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ: اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ".
قَالَ الْعَيْنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "المَاءُ عَلَى أَقْسَامٍ: قِسْمٌ مِنْهُ لَا يُمْلَكُ أَصْلًا، وَكُلُّ النَّاسِ فِيهِ سَوَاءٌ فِي الشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَكَرْيِ النَّهْرِ مِنْهُ إِلَى أَرْضِهِ، وَذَلِكَ كَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ مِثْلِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِمَا، وَقِسْمٌ مِنْهُ يُمْلَكُ، وَهُوَ المَاءُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي قِسْمَةِ أَحَدٍ إِذَا قَسَمَهُ الإِمَامُ بَيْنَ قَوْمٍ، فَالنَّاسُ فِيهِ شُرَكَاءُ فِي الشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ دُونَ كَرْيِ النَّهْرِ، وَقِسْمٌ مِنْهُ يَكُونُ مُحْرَزًا فِي الْأَوَانِي... وَهَذَا مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ بِالْإِحْرَازِ.
وَمَنْعُ المَاءِ عَنِ الْحَيَوَانِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ إِثْمُهُ عَظِيمٌ، وَقَدْ دَخَلَتِ النَّارَ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْ عَنْهَا المَاءَ وَالطَّعَامَ حَتَّى مَاتَتْ. فَكَيْفَ إِذَنْ بِحَبْسِ المَاءِ عَنِ الْإِنْسَانِ؟ وَكَيْفَ بِحَبْسِهِ عَنِ المُؤْمِنِ؟! وَمَا أَعْظَمَ إِجْرَامَ مَنْ يَسْتَخْدِمُونَ سِلَاحَ المِيَاهِ وَالْغِذَاءِ فِي الْحُرُوبِ، فَيَقْطَعُونَهُ عَنْ مُدُنٍ وَقُرًى يَمُوتُ أَطْفَالُهَا وَنِسَاؤُهَا عَطَشًا وَجُوعًا! كَمَا فَعَلَ الْبَاطِنِيَّةُ فِي مُدُنِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ، عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَا يَسْتَحِقُّونَ.
إِنَّ سَقْيَ الْعَطْشَانِ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ، وَصَدَقَةَ المَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَاتِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "الْمَاءُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ: "أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ".
وَكَانَتْ بِئْرُ رُومَةَ لِيَهُودِيٍّ يَبِيعُ مَاءَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، كُلَّ قِرْبَةٍ بِدِرْهَمٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ يشْتَرِي رُومَةَ فَيَجْعَلُ دَلْوَهُ فِيهَا كَدِلاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟" فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَوْقَفَهَا عَلَى المُسْلِمِينَ.
وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وهم يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ: "انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَمْرَوِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أَنْزِعُ فِي حَوْضِي حَتَّى إِذَا مَلَأْتُهُ لِأَهْلِي، وَرَدَ عَلَيَّ الْبَعِيرُ لِغَيْرِي فَسَقَيْتُهُ، فَهَلْ لِي فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ" رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..." رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "سَقْيُ المَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ فَعَلَيْهِ بِسَقْيِ المَاءِ" اهـ.
وَقَدْ غُفِرَ لِبَغِيٍّ بِكَلْبٍ سَقَتْهُ مَاءً؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قُرْحَةٌ خَرَجَتْ فِي رُكْبَتِي مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ، وَقَدْ عَالَجْتُ بِأَنْواعِ الْعِلَاجِ، وَسَأَلْتُ الْأَطِبَّاءَ فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: "اذْهَبْ فَانْظُرْ مَوْضِعًا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى الْمَاءِ فاحْفُرْ هُنَاكَ بِئْرًا، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَنْبُعَ هُنَاكَ عَيْنٌ، وَيُمْسِكَ عَنْكَ الدَّمُ" فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَفِي هَذَا الْمَعْنَى حِكَايَةُ قُرْحَةِ شَيْخِنَا الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللهِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، فَإِنَّهُ قَرِحَ وَجْهُهُ وَعَالَجَهُ بِأَنْواعِ الْمُعَالَجَةِ، فَلَمْ يَذْهَبْ، وَبَقِيَ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ، فَسَأَلَ الْأُسْتاذَ الْإِمَامَ أَبَا عُثْمَانَ الصَّابُونِيَّ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فِي مَجْلِسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدَعَا لَهُ، وَأَكْثَرَ النَّاسُ في التَّأْمِينِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْأُخْرَى أَلْقَتِ امْرَأَةٌ فِي الْمَجْلِسِ رُقْعَةً بِأَنَّهَا عَادَتْ إِلَى بَيْتِهَا، وَاجْتَهَدَتْ فِي الدُّعَاءِ لِلْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَرَأَتْ فِي مَنَامِهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهَا: قُولُوا لِأَبِي عَبْدِاللهِ: يُوسِّعُ الْمَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَجِئْتُ بالرُّقْعَةِ إِلَى الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللهِ فَأَمَرَ بِسِقَايَةِ الْمَاءِ بُنِيَتْ عَلَى بَابِ دَارِهِ، وَحِينَ فَرَغُوا مِنَ الْبِنَاءِ أَمَرَ بِصَبِّ الْمَاءِ فِيهَا، وَطُرِحَ الْجَمَدَ فِي الْمَاءِ، وَأَخَذَ النَّاسُ فِي الشُّرْبِ فَمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُسْبُوعٌ حَتَّى ظَهَرَ الشِّفَاءُ، وَزَالَتْ تِلْكَ الْقُرُوحُ، وَعَادَ وَجْهُهُ إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ سِنِينَ".
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سَقْيِ المَاءِ إِلَّا قَوْلُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "...يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَقِيَنَا شُحَّ أَنْفُسِنَا، وَأَنْ يَهْدِيَنَا لِمَا بِهِ يَرْضَى عَنْهَا، وَأَنْ يَفْتَحَ لِلْخَيْرِ قُلُوبَنَا، وَأَنْ يَقْبَلَ مِنَّا وَمِنَ المُسْلِمِينَ صَالِحَ أَعْمَالِنَا.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ....
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: صَدَقَةُ المَاءِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ، وَسَقْيُ الْعَطْشَانِ أَبْلَغُ مِنْ بَذْلِ المَالِ، سَوَاءً كَانَ الْعَطْشَانُ إِنْسَانًا أَمْ حَيَوانًا أَمْ طَائِرًا، وَهُوَ عَمَلٌ قَلِيلٌ وَلَكِنَّ نَفْعَهُ كَبِيرٌ، وَأَثَرَهُ عَظِيمٌ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "...إِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ".
فَكَيْفَ بِمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهَا بِئْرٌ سِوَاهَا فَيَشْرَبُ أَهْلُهَا مِنْهَا، وَيْطُبُخُونَ طَعَامَهُمْ بِمَائِهَا، وَيَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ مِنْ حِيَاضِهَا!
وَكَيْفَ بِمَنْ أَوْقَفَ بَرَّادَةَ مَاءٍ فِي مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ طَرِيقٍ، فَكُلُّ مَنْ مَرَّ بِهَا شَرِبَ مِنْهَا، وَيَجْرِي أَجْرُهَا مَا جَرَى مَاؤُهَا، وَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْهَا!
وَيَشْتَرِكُ السُّكَّانُ فِي عِمَارَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا نَفِدَ مَاؤُهُمْ انْبَرَى أَحَدُهُمْ فَاشْتَرَى شِحْنَةَ مَاءٍ فَأَفْرَغَهَا فِي خَزَّانِهِمْ، فَدَخَلَتْ صَدَقَتُهُ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَحَلِيبِ أَطْفَالِهِمْ، وَيَغْتَسِلُ مِنْهَا الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ، وَيَتَوَضَّئُونَ مِنْهَا لِصَلَاتِهِمْ، فَكَمْ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَالٍ زَهِيدٍ يَبْذُلُهُ؟!
وَوَضْعُ المِيَاهِ لِلطُّيُورِ وَالْحَيَوَانَاتِ الضَّالَّةِ فِيهِ أَجْرُهُ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرًا.
وَسُبُلُ بَذْلِ المَاءِ كَثِيرَةٌ، وَطُرُقُ السُّقْيَا عَدِيدَةٌ، وَالْحَاجَةُ لِلْمَاءِ مُلِحَّةٌ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، فَتَتَوَافَرُ أَسْبَابُ السُّقْيَا وَتَتَعَدَّدُ طُرُقُهَا، فَلَا يَحْسُنُ بِالمُؤْمِنِ أَنْ يُحْرَمَ كُلَّ سُبُلِهَا وَطُرُقِهَا، وَمَنْ ضَرَبَ بِسَهْمٍ فِي كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا حَازَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَجَمَعَ أَجْرًا عَظِيمًا (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:110].
وَصَلُّوا عَلَى نَبِيِّكُمْ ...