الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ومن أمثلة علو الهمة في القراءة وطلب العلم: الإمام النووي الذي كان في مراحل طلب العلم يقرأ على مشايخه كل يوم اثني عشر درساً في مختلف فروع العلم، فيقول عن نفسه: "كنت أقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ... وبارك الله لي في وقتي"...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ عظيمِ الصِّفاتِ وَالأسماءِ، جَزيلِ البِرِّ وَالعَطاءِ، جعلَ قُلوبَ أوليائِهِ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجاءِ، أحمدُهُ -سبحانَهُ- حمداً يملأُ ما بَيْنَ الأرضِ وَالسماءِ، وأشكرُهُ عَلَى عظيمِ الهِبَةِ وَالنَّعْماءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المتَفَرِّدُ برِداءِ الكِبْرِياءِ، وَالمُتَوَحِّدُ بصِفاتِ المجْدِ وَالعَلاءِ، وأشهدُ أنْ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صَفْوَةُ الخَلْقِ وسَيِّدُ الأنبياءِ، عَطَّرَ أَرِيجُ شَمائِلِهِ الأَرْجاءَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ السَّادَةِ الأتْقِياءِ، أُولِي الفَضْلِ وَالثَّناءِ، وعَلَى مَنْ تَبِعَهم بإحْسانٍ إلى يَوْمِ النِّداءِ.
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتدبروا كتابه فقد حثكم على فعل الطاعات وبيّن لكم ثوابها وثمراتها لتكثروا منها، ونهاكم عن المعاصي وبيّن لكم عقابها وآثارها الضارة لتحذروا منها وتجتنبوها، كما أنه وصف لكم الجنة وما فيها من النعيم والفوز المقيم لتعملوا لها، ووصف لكم النار وما فيها من العذاب الأليم والهوان المقيم؛ لتتركوا الأعمال الموصلة إليها، وهكذا القرآن يربي العبد المؤمن بين المحبة والخوف، فكثيرًا ما نجد آيات الوعد إلى جانب آيات الوعيد، وذكر الجنة إلى جانب ذكر النار؛ ليكون العبد دائمًا بين محبة الله والخوف منه, لا يأمن من عذاب الله ولا ييأس من رحمة الله.
أيها الأحبة: علو الهمة وعدم الرضا باليسير من أعظم ما يميز المؤمن القوي, كما صح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" [مسلم(2664)]، والقوة هنا تشمل جميع أنواع القوى الخيرة النافعة.
ولا قوة إلا بهمة وإرادة، والهمة هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول، فمن الناس من تكون همته عالية إلى السماء، ومنهم من تكون قاصرة سافلة دنيئة تهبط به إلى أسوأ الدرجات، وهي استصغار ما دون النهاية من معالى الأمور, بمعنى أن يطلب المرء من كل أمر أعلاه وأقصاه، ويستصغر كل ما وصل إليه إن كان هناك ما هو فوقه أو أعلى منه. وقيل: هو خروج النفس إلى غاية الكمال الممكن في العلم والعمل.
وإن الهمة هي ما يبعث العبد للمقصود صرفاً؛ فهمة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلباً صادقاً فتلك هي الهمة العالية التي لا يتمالك صاحبها صبره، لغلبة سلطانه عليه، ولا يلتفت عنها إلى ما سواها.
وأعلى الهمم على الإطلاق هي التي لا تقف دون الله تعالى، ولا تطلب سواه، ولا تسعى إلا لرضاه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به بشيء من أعراض الدنيا وحظوظها ولا حطامها الخسيس الفاني. كيف؟! والله أعلى مطلوب وأفضل مرغوب.
أيها الإخوة: ويؤكد ابن القيم -رحمه الله- أهمية الهمة ودورها في حياة المسلم فيقول: "لا بد للسالك من همة تسيّره وترقّيه، وعلم يبصّره ويهديه". وقد قيل: "كن رجلاً رجله في الثرى وهمته في الثريا، ما افترقت الناس إلا في الهمم، ومن علت همته علت رتبته، ولا يكون أحد إلا فيما رضيت له همته". وقال آخر: "همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال, لنتفق في البداية أن يكون شعارنا:
إذا هبت رياحك فاغتنمها | فإن لكل خافقة سكون |
وصدق شوقي حين قال:
دقات قلب المرء قائلـة لـه | إن الحياة دقائق وثوانِ |
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها | فالذكر للإنسان عمر ثانِ |
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- واصفاً الهمة العالية: "علو الهمة ألا تقف -أي النفس- دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدته الآفات من كل مكان".
أيها الإخوة: لكل منا همة تسكن قلبه, وتيسر دربه, ويخطط على منوالها مستقبله، والهمم تتفاوت بين البشر، فشتان بين همة في الثرى وأخرى في الثريا، وعلو الهمة مبتغى كل إنسان ناجح يتطلع إلى حياة أفضل، بيد أن شروطها هنا يراد بها وجه الله تعالى، وأن تكون عونًا على البذل والعطاء لهذا الدين إذن نحن لا نقصد علو الهمة لذاته, فذلك يتساوى فيه الكافر والمسلم لا فرق بينهما, وعلى قدر تفاوت الهمم والإرادات تتفاوت مقامات الخلق في الدنيا والآخرة, فأعلاهم همة أبلغهم لما يريد، وأكثرهم تحقيقا لما يطلب، قال الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23].
فالمؤمن القوي صاحب الهمة العالية والعزيمة القوية الذي يريد أن يبدع ويخدم أمته ودينه وأن ينفع الناس أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير؛ لأن الجميع مؤمن لكن لا يستويان: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9]، وقوله تعالى: (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة: 247]، والله -عز وجل- قال: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [آل عمران: 163] وقال: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 132].
جعل الله -عز وجل- الجنة درجات مع أن كل من يدخلها من أهل الإيمان، والجنة لا يدخلها مشرك كما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك درجاتهم متفاوتة يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق" [البخاري (3256) ومسلم(2831)].
عباد الله: وهمة المؤمن على ثلاث درجات:
الأولى: همة تصون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني، وتحمله على الرغبة في الباقي، وتصفّيه من كدر التواني؛ فالفاني الدنيا وما فيها، وهي توحش قلوب الراغبين فيها، وقلوب الزاهدين فيها؛ أما الراغبون فيها فقلوبهم وأرواحهم في وحشة من أجسامهم إذا فاتها ما خُلقت له من عبادة الله والفوز بالجنة، أما الزاهدون فيها فإنهم يرونها موحشة لهم؛ لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم وهو الله -سبحانه-, فهذه الهمة تحمل العبد على الرغبة في الباقي لذاته، وهو الحق -سبحانه- والباقي بإبقائه وهي الدار الآخرة، وتخلّصه من أوساخ الفتور والتواني.
الثانية: همة تورث دوام سير القلب إلى الله ليحصل له، ويفوز به، فإنه طالب لربه تعالى طلباً تاماً بكل معنى واعتبار في عمله وعبادته ومناجاته, وحركته وسكونه وسائر أحواله.
والثالثة: همة صاحبها لا يقف عند عوض ولا درجة، ولا يتعلق بالأحوال والمعاملات وليس المراد تعطيلها، بل القيام بها مع عدم الالتفات إليها والتعلق بها؛ وصاحب هذه الهمة قد قصر همته على المطلب الأعلى، وهو الله الذي لا شيء أعلى منه، والأعواض والدرجات دونه، فهو سائر وجاد كيف يرضى عنه ربه؟ وكيف يحبه؟ وكيف يأنس بقربه، ويستأنس به، ويستوحش من غيره؟.
أيها الإخوة: مظاهر وصور علو الهمة كثيرة جداً، فالأعمال الجادة كلها تحتاج إلى علو الهمة، ومن مظاهر علو الهمة:
علو الهمة في طلب العلم: فبالعلم تعلو الهمة ويُرفع طالبه قال الله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11]. تطلب غاية المطالب في أشرف المكاسب, وأحبب برجل أراد من الفضائل ما لا تدانيه فضيلة ولا تساميه منقبة ولا تقاربه.
وقرن الله تعالى العلماء في كتابه بنفسه وملائكته في الشهادة لذاته بالوحدانية، فقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران:18] ، وقصر -سبحانه- الخشية له -التي هي سبب الفوز لديه- عليهم فقال: (إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، وفي هذا حث على علو الهمة في طلب العلم، فإن الله -سبحانه- قد قرن العلماء في كتابه بنفسه وملائكته، وأخبره عباده بأنه يرفع علماء أمته درجات فقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ)[المجادلة:11]، وأخبر عباده بأنه يرفع علماء أمته درجات في الجنة، وأخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن العلماء ورثة الأنبياء [أبو داود (3643) وصححه الألباني]، فأكرم بنفس تطلب غاية المطالب في أشرف المكاسب وأحبب برجل أراد من الفضائل ما لا تدانيه فضيلة ولا تساميه منقبة ولا تقاربه مكرمة.
ومن أمثلة علو الهمة في القراءة وطلب العلم: الإمام النووي الذي كان في مراحل طلب العلم يقرأ على مشايخه كل يوم اثني عشر درساً في مختلف فروع العلم، فيقول عن نفسه: "كنت أقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ... وبارك الله لي في وقتي".
أيها الإخوة: ومن مظاهر علو الهمة: علو الهمة في الدعوة إلى الله: فالمسلم يدعو إلى الله -سبحانه وتعالى- بما علم، فعن عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بلغوا عني ولو آية" [البخاري (3461)]، وفي هذا تشريف بالبلاغ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتخفيف في كمية البلاغ، فيكون البلاغ ولو بآية، والداعية إلى الله -سبحانه وتعالى- همه هداية الناس ودعوتهم إلى الحق.
عباد الله: ومن مظاهر علو الهمة: علو الهمة في الجهاد في سبيل الله، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ". [مسلم (1889)]، فيقوم ببذل نفسه في سبيل الله، قال ابن حزم: "لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله -عز وجل-؛ في دعاء إلى حق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى، وفي نصر مظلوم وباذل نفسه في عرض دنيا كبائع الياقوت بالحصى"، ولنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وسلف الأمة القدوة الحسنة، فقد بذلوا كل غالٍ ونفيس في سبيل الدعوة إلى الله.
أيها الإخوة: ومن مظاهر علو الهمة: علو الهمة الجد والاجتهاد في عبادة الله -سبحانه وتعالى- والاستقامة على دينه، ولقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم على السفاسف، فلا تراهم إلا صوَّامين قوامين، باكين مشتاقين.
ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشير بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفاً من عباراتهم: قال الحسن: "من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره". وقال وهيب بن الورد: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل". ويقول ابن حزم في علو همة من امتُحن بمكروه وعاقه عن هذا الطريق: "ووجدت العامل للآخرة إن امتُحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يُسَرّ؛ إذ رجاؤه في عاقبه ما ينال به عون له على ما يطلب وزايد في الغرض الذي إياه يقصد ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم؛ إذ ليس مؤاخذًا بذلك، فهو غير مؤثر فيما يطلب، ورأيته إن قُصد بالأذى سُرّ، وإن نكبته نكبة سُرّ, وإن تعب فيما سلك فيه سُرّ, فهو في سرور متصل أبدًا". وليس كل ذلك إلا لمن علت همته.
اللهم أصلحنا لكي نصلح أن نكون عبيدًا لك يا رب العالمين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، وأسرعوا السير إلى ربكم ولا تتأخروا واستعينوا على ذلك بالله -جل وعلا- يعنكم، واحرصوا على علو الهمة، واحذروا سفول الهمة ودناءتها، واعلموا أن خامل الهمة ضعيف العزم لا يمكن أن ينافس على المكرمات ومعالي الأمور.
قال الله -عز وجل-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133]، سارعوا أي تسابقوا إلى هذا، فاحرص أن تكون أقرب الناس إلى الله، وأحظى الناس بفضله ورحماته وكرامته في الدنيا والآخرة، وهذا لن يكون بمجرد الأماني وإنما بالجد والعمل والاجتهاد في طاعة الله -عز وجل- والإخلاص له, "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال", كما قال الحسن -رحمه الله-.
أيها الإخوة: جلس أربعة من خيرة الصحابة والتابعين مرة في الحجر عند الكعبة وهم عبد الله بن عمر العالم الزاهد -رضي الله عنه- وعن أبيه، وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف، فقال بعضهم لبعض: "ليتمنَ كل واحد منا ما يحب"، فقال مصعب بن الزبير -رضي الله عنه-: "أتمنى أن تكون لي إمرة العراقين وأن أتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة -رحمه الله ورضي عنه-", هذه أمنيته أن يملك العراقين وأن يتزوج هاتين المرأتين, وفعلاً ملك العراقين في عهد أخيه عبد الله بن الزبير وتزوج عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين, لاحظوا -يا إخوان- كيف تتفاوت الهمم؟.
أما عروة ابن الزبير -رضي الله عنه- الإمام الجهبذ المحدث الفقيه والعابد الزاهد، فقال: "أتمنى أن يفتح الله -عز وجل- لي في العلم وأن يفقّهني في الدين، وأن أروي الحديث"، فصار فقيه زمانه وراوياً من كبار رواة الحديث لا تكاد تجد كتاباً من كتب العلوم الشرعية إلا وهو يُذكر فيها عروة بن الزبير -رضي الله عنه-.
وأما عبد الملك بن مروان فقال: "أتمنى أن أكون خليفة للمسلمين"، فكان خليفة بل هو من أفضل خلفاء بني أمية وأشدهم عوداً وأكثرهم حنكة وسياسة -رحمه الله-.
وأما عبد الله بن عمر فقال: "أتمنى الجنة"، الله أكبر -رضي الله عنه- وأرضاه وأرجو -إن شاء الله- أن يكون نالها.
إن الهمة تعبير عن قوة عزم الإنسان في الوصول إلى ما يريده، وتختلف حسب الناس، والعزم صفة مكتسبة، بإمكان الإنسان تقويته بتربية نفسه.
أيها الإخوة: ومن الأمور التي تعين على رفع همة الإنسان: تذكر ضيق الوقت وتقارب الزمان، واستشعار المنافسة مع الأولين والآخرين ومع بني عصره, فإن الهمة العالية تقتضي تعبًا عاجلاً، فشرط النهاية المشرقة بداية محرقة. وقاصد الله لا يخيب، فهو أكرم الأكرمين، باسط يديه -سبحانه- بالعطاء، وضرورة الإقبال على الله بالقصد الصالح, وإدراك حقيقة الطريق، ومحاذرة العوائق التي تعترض السائرين إلى الله، فتصد من لم يردهم الله للاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح, وقد قيل: المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت، وإن قصر بها اتضعت، وقال أبو الطيب المتنبي:
لهم همم لا منتهى لكبارها | وهمته الصغرى أجل من الدهر |
وقال أحدهم: "الهمة طريق إلى القمة"، ولكن حذار من التمني، فالتمني قاتل للهمة والتطور:
وما نيل المطالب بالتمني ولكن | تؤخذ الدنيا غلاباً |
عباد الله: ومن الأمور التي تعين على رفع همة الإنسان مطالعة سير الصالحين وأصحاب الهمم العالية، ومن أدمن قراءة كتب وتراجم الصالحين، وقف على أئمة ثقات علت همتهم في العلم والعمل والعبادة، ونفع الناس.
وإن لعلو الهمم في العبادة نماذج كثيرة لا تحصى؛ فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول في حق أبي بكر الصديق: "ما استبقنا إلى شيءٍ من الخير إلا سبَقَنا أبو بكر وكان سبّاقاً بالخيرات". ويقول الحافظ ابن رجب الحنبلي: "لما سمع الصحابة -رضي الله عنهم- قول الله -عز وجل-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) [الحديد: 21]، فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية". فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها, كما قال تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
يا عبد الله: عليك بصحبة أولي الهمم ومطالعة أخبارهم فإنها جالبة للطموح مولدة للهمة كاسبة للنشاط مقبلة بالعزيمة، قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) [الأحقاف: 35]، وانظر إلى أبي بكر لما كان صاحبه هو أعلى الناس همة على الإطلاق سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغت به الهمة أعلاها، فكان خير الناس بعد النبيين والمرسلين، فلم ترض همته مجرد دخول الجنة لا بل يريد أن ينادى عليه من أبوابها كلها كما ورد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أنفق زوجين في سبيل الله نُودي في الجنة يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، فقال أبو بكر -رضي الله عنه- هل على من دُعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم" [البخاري(1897) ومسلم(1027)].
وأخيراً: اجعل همتك في كل ذلك رضا ربك -سبحانه وتعالى-، والفوز بجنته، مخلصاً له, (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) [الأنعام: 126]، وذلك يتطلب منك إيماناً واستقامة وعملاً دؤوبا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "أَلا إِنَّ سِلْعَةَ الله غالية، ألا إِنَّ سِلْعَةَ الله الجنَّةُ" [الترمذي (2450) وصححه الألباني].
فما أجدرنا -أيها الإخوة- أن نعظّم ربنا ونوقره، ونخافه ونتقيه، ونعلي الهمة في طلب رضا الله ثم الجنة.
فاتقوا الله -عباد الله- وخافوه، وأخلصوا له العمل، واحذروا معاصيه، حافظوا على صلاتكم، صلوا أرحامكم، بروا آباءكم، وأحسنوا إلى نسائكم وأبنائكم، وأتقنوا أعمالكم، وارجوا فضل ربكم، واطمعوا فيما عنده.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.