الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | محمد بن صالح بن عثيمين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
في ذلك اليوم يوضع الصراط على متن جهنم، أدق من الشعرة، وأحد من السيف، وترسل الأمانة والرحم، فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم، تجري بهم أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، خلق السماوات والأرض وما بينهما من غير تعب ولا اضطرار، وأنزل على عبده في الكتاب والفرقان: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)[الحج: 6 – 7].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قوله الحق، وله الملك يوم ينفخ في الصور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أقوم الناس طاعة بفعل المأمور، وترك المحظور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر والنشور، وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- وفكروا في دنياكم وآخرتكم، في حياتكم وموتكم، في حاضركم ومستقبلكم.
فكروا في هذه الدنيا فيمن مضى من السابقين الأولين منهم والآخرين، ففيهم عبرة لمن اعتبر.
عمروا في هذه الدنيا فعمروها، وكانوا أكثر منا أموالا وأولادا، وأشد منا قوة وتعميرا، فذهبت بهم الأيام كأن لم يكونوا، وأصبحوا خبرا من الأخبار.
وأنتم على ما ساروا عليه سائرون، وإلى ما صاروا إليه صائرون.
سوف تنتقلون عن هذه الدنيا إلى القبور بعد القصور، وسوف تنفردون بها بعد الاجتماع بالأهل والسرور.
سوف تنفردون بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، إلى يوم النشور، وحين ذلك ينفخ في الصور، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، حفاة بلا نعال، وعراة بلا ثياب، وغرلا بلا ختان، حدث النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحديث، فقالت عائشة: "يا رسول الله الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض" [البخاري (6162) مسلم (2859) النسائي (2083) ابن ماجة (4276) أحمد (6/53)].
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض.
إن الأمر أشد من أن ينظر الرجال إلى النساء، أو النساء إلى الرجال.
إنه أعظم من أن تسأل الأم عن ولدها، والابن عن أبيه: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ)[المؤمنون: 101].
(إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج: 1 – 2].
هنالك قلوب واجفة، وأبصار خاشعة، هنالك تنشر الدواوين، وهي صحائف الأعمال، فيأخذ المؤمن كتابه بيمينه، ويأخذ الكافر كتابه بشماله من وراء ظهره، فأما من أوتي كتابه بيمينه، فيقول فرحا وسرورا: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ)[الحاقة: 19].
وأما من أوتي كتابه بشماله، فيقول حزنا وغما: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ)[الحاقة: 25].
ويدعو ثبورا.
وهناك توضع الموازين فتوزن فيها أعمال العباد من خير وشر: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7 – 8].
قال الله -تعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء: 47].
في ذلك اليوم يموج الناس بعضهم في بعض، ويلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون، فيقول الناس: ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيأتون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم، ثم موسى -عليهم الصلاة والسلام-، وكلهم يقدم عذرا، ثم يأتون إلى عيسى -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: لست لها، ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول مفتخرا بنعمة الله: "أنا لها" فيستأذن من ربه -عز وجل-، ويخر له ساجدا، ويفتح الله عليه من محامده، وحسن الثناء عليه، ما لم يفتحه على أحد قبله، فيدعه الله ما شاء الله أن يدعه، ثم يقول: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه".
وفي ذلك اليوم ينزل الله للقضاء بين عباده وحسابهم، فيخلو بعبده المؤمن وحده، ويضع عليه ستره، ويكلمه ليس بينه وبينه ترجمان، فيخبره بما عمل من ذنوبه، حتى يقر ويعترف، فيظهر الله عليه فضله، فيقول: "قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم".
وفي ذلك اليوم: الحوض المورود لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من ريح المسك، طوله شهر، وعرضه شهر، وآنيته كنجوم السماء كثرة وإضاءة، لا يرده إلا المؤمنون به، المتبعون لسنته، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا، أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين.
في ذلك اليوم تدنى الشمس من الخلق، حتى تكون قدر ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمهم العرق إلجاما، ويظل الله من يشاء في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
في ذلك اليوم، يقول الله: "يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: أخرج بعث النار من ذريتك، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فعند ذلك يشيب الصغير.
في ذلك اليوم يوضع الصراط على متن جهنم، أدق من الشعرة، وأحد من السيف، وترسل الأمانة والرحم، فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم، تجري بهم أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر بزحف، ومنهم ما بين ذلك، ونبيكم -صلى الله عليه وسلم- قائم على الصراط، يقول: "يا رب سلم سلم".
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فأكون أول من يجوز أن يعبر من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم" [البخاري (773) مسلم (183) الترمذي (2434) النسائي (1140) ابن ماجة (4309) أحمد (2/276) الدارمي (2803)].
وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكروس في النار.
في ذلك اليوم يتفرق الناس إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ)[الروم: 14 – 16].
فاتقوا الله -عباد الله- وخذوا لهذا اليوم عدته، فإنه مصيركم لا محالة، وموعودكم لا ريب فيه، وإنه على عظمه وشدته وهوله ليكون يسـيرا على المؤمنين المتقين؛ لأن الله يقـول: (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا)[الفرقان: 26].
فآمنوا بالله واتقوه، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه.
اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، خفف عنا أهوال ذلك اليوم، واجعلنا فيه من السعداء، وألحقنا بالصالحين يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.