الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المُحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه! حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يُلقي لها بالًا يزِل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب. وكم ترى من متورعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات! ولا يبالي ما يقول...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين...أما بعد:
أيها الأحبة! ما رأيكم بهذا المشهد: جاء أحدهم إلى صديق له زائرا، فتوقع أن تُقدَّم له أشهى الأطعمة, وألذ المشارب, فقدَّم له صاحبُ البيت جثةَ رجلٍ ميتٍ من إخوانه المسلمين، وقال: تفضل كُلْ, أي منظرٍ أبشع من هذا المنظر؟! لكنه بعينه ذلكم المشهد الذي بشّع الله فيه شأن الغيبة حينما نهى عنها بقوله: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 12].
وسؤالٌ آخر: ماذا يقول الناس عن إنسانٍ -أيًا كان جنسه- سرق ألف ريالٍ من مالٍ معصوم؟ سيتحدث الناس بأن هذا أمرٌ عظيم، وهو كذلك, وماذا سيكون حديث المجتمع عن إنسان ثبت عليه أنه وقع في فاحشة -عياذًا بالله-؟ إنه لأمرٌ عظيم, ولكن كيف وما هو وقع الغيبة في قلوبهم؟
إنها أصبحت أمرًا هينًا لا يكاد يخلو منها مجلس! مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع سوّى بين المعتدين على الأعراض والمعتدين على الأموال في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، اللهم هل بلغت...اللهم فاشهد» (صحيح البخاري ح:7078، صحيح مسلم ح: 1679).
إن تفريق الناس بين هذه الأمور لشيءٌ مُحزن, وشيءٌ بعث على الاستهانة بمثل هذا الأمر وهو عظيم جدًا! حتى حكا القرطبي -رحمه الله- إجماع أهل العلم على أن الغيبة من كبائر الذنوب، أي: أنه لا تُكفرها الصلوات الخمس، ولا الجمعة إلى الجمعة، ولا رمضان إلى رمضان، وهي من مقاطع الحقوق التي سيتقاضى فيها الناس يوم القيامة.
روى مسلم في صحيحه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه يومًا: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» (صحيح مسلم ح: 2581).
أرأيتم أيها الأحبة! إن الأمر لعظيم.
يقول ابن القيم -رحمة الله عليه- وهو يتحدث عن تفريق الناس هذا بين الأموال والأعراض وبين الدماء:
"ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المُحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه! حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يُلقي لها بالًا يزِل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب. وكم ترى من متورعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات! ولا يبالي ما يقول"(الداء والدواء (ص: 366).
وتأمل في قوله: "يفري في أعراض الأموات" بالله كيف يتحلل هؤلاء من أولئك الأموات؟
أيها الإخوة: إن أكثر المسلمين يعرف أن الغيبة حرام, كيف وقد قرَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك في غير ما موضع، وبأكثر من أسلوب، وفي عدة مناسبات، قال لأصحابه يومًا: «أتدرون ما الغيبة»؟ مبينًا لهم حقيقتها ومحذرًا منها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: «الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره», فقال قائل: يا رسول الله: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (صحيح مسلم ح(2589). والبهتان أعظم جرمًا من الغيبة، لأنه جمع بين السوءتين: الغيبة، والكذب عليه، والعياذ بالله.
ولهذا قال العلماء: إن الغيبة لا تحل إلا لمصلحة شرعية راجحة: كالتظلم عند السلطان أو القاضي، أو كطلب النصيحة عن مصاهرةً أو وظيفةٍ أو نحو ذلك, أو فيما يخص علم الجرح والتعديل عند العلماء, أو لتحذير المسلمين من الشر, أو عند الاستفتاء, أو نحو ذلك من المصالح الشرعية الراجحة, ولنقارن بإنصافٍ كم نسبة هذه المصالح في حديثنا عندما نتكلم عن فلانٍ وفلان!
إن المشاهَد: أن عامة غيبة الناس في مجالسهم ليست من هذه الأسباب في شيء إلا ما ندر, بل -والعياذ بالله- أصبحت فاكهة المجالس عند كثيرٍ من الناس، أفسدها ومحق بركتها وأحل بدلًا من ذكر الله فيها ذكرَ عباد الله.
وصدق ما قال ابن عون -رحمه الله-: "إن ذكر الناس داء وذكر الله -عز وجل- دواء"(سير أعلام النبلاء: 6/ 369).
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الآكلة في الجسد"! (إحياء علوم الدين: 3/ 143).
وهنا على العاقل أن يبحث عن علاجٍ لهذا البلاء؛ حتى لا يُقدِم على الله مفلسًا كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق.
1- فمن سُبل معالجة هذا الداء: أن يتأمل الإنسان في آثار تلك الغيبة؛ فإنها معول هدم، وسلوك يُفرّق بين أبناء المجتمع, وبهتانٌ يُغطِّي على محاسن الآخرين, وبذرةٌ تُنبِت الشرور بين أفراد المجتمع المسلم.
2- ومن ذلك أيضًا: أن يتأمل الإنسانُ العاقل خطورةَ هذه الغيبة شرعًا، فهي تحصد الحسنات, وتُهدي إليك سيئات الآخرين, وهي تُغضب اللهَ -عز وجل- قبل ذلك, وهي علامة خذلانٍ وإفلاسٍ -والعياذ بالله-.
3- ومن العلاج كذلك أيها الأحبة: أن نتعاون جميعًا على ردّها فور سماعها، ولا يهولنك أن يكون المتحدِّث مندفعًا ويقول: دعه! فلم أقل فيه إلا الحق! فنقول: وهل الغيبة إلا أن تقول فيه ما هو فيه؟! فإن لم يكن فيه ما تقول فهذا هو البهتان.
وأعجبتني فكرةٌ طبقها مجموعة من الإخوة وفقهم الله وزادهم من توفيقه, ذلك أنهم مجموعةٌ يتسامرون ويجتمعون كما يجتمع الناس، فاتفقوا على منع الغيبة في مجلسهم, وأطلقوا شعارًا فيما بينهم، إذا بدأ أحدُهم يغتاب يذكّره الآخَر بالاتفاق ويقول: إلا لساني! فلله درهم, وهل التعاون على البر والتقوى إلا بمثل هذا!
4- ومن الأمور التي يمكن أن يعالج بها هذا الداء: أنه حينما يبلغك عن شخصٍ يُكثِر من غيبتك أن تفعل ما فعله الحسن البصري -رحمه الله-, فقد ذُكر له رجلٌ اغتابه؛ فذهب إليه ومعه طبقٌ من تمر ورُطَب, فطرق عليه الباب وقال له: إنه بلغني أنك أهديتني بعض حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني فإني لا أقدر على التمام, وماذا تصنع رطبات في مقابل حسنات أهديتَها؟ فاستحى الرجل! ويُرجى أنه كف عن ذلك.
5- ومن الأساليب التي ينبغي سلوكها لعلاج هذا: أسلوب الوعظ والتذكير, فيقال لمثل هذا ما قاله محمد بن واسع -رحمه الله- تعالى حينما رأى شبابًا في المسجد قد خاضوا في بحر الغيبة والضلالة, فقال لهم -رحمة الله عليه-: أيجمل بكم أن يكون أحدُكم له حبيبٌ فيخالفه ليفوز به غيرُه؟ قالوا: لا, قال لهم: أنتم قعودٌ في بيت الله وتخالفون أمره وتغتابون الناس! قالوا: قد تبنا, ثم قال: يا أولادي! هو ربكم وحبيبكم، وإذا عصيتموه وأطاعه غيركُم خسرتموه وربحه غيركم، أفلا يضركم هذا؟ قالوا: بلى, فقال: ومن خالفه وربما يعاقبه لو عاقبه أفلا تغيرون أو تغارون على شبابكم! كيف يعاقب بالنار والعذاب وغيركُم يفوز بالجنة والثواب؟ قالوا: نعم أيها الشيخ, ثم أعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى الله. (بحر الدموع: ص: 102).
أيها المؤمنون: ثمة أساليب كثيرة لنتعاون فيها على كبح ووأد هذا الداء العضال، الذي أهدر حسناتنا وأهداها إلى غيرنا، وجلب سيئات غيرنا إلينا, وإن الإنسان -أيها الأحبة- والله لئَن يلقى الله -عز وجل- بذنوب عظيمة فيما بينه وبين الله أهون من أن يلقى الله بحقوق الخلق؛ فإن حق الله يُرجى له العفو والمسامحة وعلى رجا رحمة أرحم الراحمين, لكن الخلق -والله لو كانوا أقرب الناس إليك- يوم القيامة لن تظفر منهم بحسنة ولن يتنازلوا أبدًا عن التخفف عن سيئةٍ كنت سببًا في حصولها عليهم من قِبَلك, فلنتق الله -عز وجل-، ولنكن على الخير أعوانا.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسُنة خير أنبيائه, أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم ليّ ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين.. أما بعد:
فهاتان ومضتان مشرقتان من كلام أهل العلم في هذا الموضوع العظيم، الذي أصبحنا نعايشه -لا أقول يوميًا- بل أصبحنا نعايشه صباحًا ومساءً.
الومضة الأولى: يقول بعض أهل العلم: "أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة -يعني لا يرون حقيقة التعبد- في الصوم ولا في الصلاة, ولكن في الكفّ عن أعراض الناس" (ذم الغيبة والنميمة لابن أبي الدنيا، ص: 22).
وصدق -رحمه الله-, والأمر يقال فيه ما قاله ابن القيم -رحمه الله-: إنك لترى الرجل يُعجبك مظهره في التعبد والزهد، لكنه لا يُبالي أبدًا في الخوض في أعراض الناس.
أما الومضة الأخرى: فهي كلمةٌ قالها ابن الجوزي -رحمه الله- -ولله دره وما أجمل ما قال-: "كم أفسدت الغيبة من أعمال الصالحين, وكم أحبطت من أجور العاملين, وكم جلبت من سخط رب العالمين! فالغيبة فاكهة الأرذلين, وسلاح العاجزين، طالما لفظها المتقون, نغمةٌ طالما مجّتها أسماع الأكرمين" (التذكرة في الوعظ، ص: 124).
فاتقوا الله يا عباد الله! واحفظوا ألسنتكم من الخوض فيما لا يحل؛ تنجو وتفلحوا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة, وتقواك في السر والعلن, اللهم أعنا على تحقيق عبوديتك في جوارحنا كلها يا رب العالمين.