البحث

عبارات مقترحة:

المقدم

كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

اذكروا الله ذكرا كثيرا

العربية

المؤلف علي باوزير
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. شمولية الذكر لجميع العبادات .
  2. الحث على الإكثار من ذكر الله .
  3. بعض فضائل الذكر وثمراته .
  4. سهولة الذكر ومشروعيته في كل حال .
  5. خطر الغفلة عن الذكر .

اقتباس

ذكر الله المنزلة الكبرى، والدرجة العظمى التي يتزود منها العارفون، التي فيها مع الله -سبحانه وتعالى- يتاجرون، التي إليها دائما يترددون، هي قوت قلوبهم، وشفاء صدورهم، هي زادهم الأعظم الذي يوصلهم إلى الله. هو ثبات القلوب، ومتى فارقها انتكست هذه القلوب، هو...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن

يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد:

أيها المسلمون -عباد الله-: روى الإمام الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- أن رجلا قال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله".

ذكر الله -عز وجل- هذه العبادة الجليلة، والقربة الفاضلة؛ جاء هذا الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله يقول له: كثرت علي العبادات والطاعات ولم أتمكن من فعل الكثير منها؟ يعني مما زاد على الفرائض فما هي العبادة الجامعة التي لا تحتاج إلى كثير جهد ولا إلى مزيد وقت؟ فدله النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه العبادة العظيمة التي هي: ذكر الله -سبحانه وتعالى-.

هذه العبادة التي هي صدقة بلا مال، وجهاد بلا قتال، وعمل بلا انشغال، هي أحسن ما قيل، وأحسن ما يقال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا حول ولا قوة إلا بالله.

كلمات يسيرات لا تأخذ وقتا، ولا تطلب جهدا، مع قلتها وسهولتها ويسرها، هي حبيبة إلى الرحمن، هي ثقيلة في الميزان.

ذكر الله -عز وجل- المنزلة الكبرى، والدرجة العظمى التي يتزود منها العارفون التي فيها مع الله -سبحانه وتعالى- يتاجرون التي إليها دائما يترددون، هي قوت قلوبهم، وشفاء صدورهم، هي زادهم الأعظم الذي يوصلهم إلى الله -تبارك وتعالى-.

حياة قلوبهم الذي إذا فارق قلوبهم صارت القلوب من بعده قبورا، هو عمارة الديار الذي إذا فارقها صارت الديار من بعده بورا.

هو ثبات القلوب، ومتى فارقها انتكست هذه القلوب، هو السبب الواصل، وهو العلاقة الوثقى المتينة بين العبد وبين الله -سبحانه وتعالى- علام الغيوب.

ذكر الله -عز وجل- الذي تستدفع به الكربات، وتستكشف به النوازل والخطوب، إذا نزلت المصائب فإليه المفزع، وإذا حلت النوازل، فإليه الملجأ.

ذكر الله -سبحانه وتعالى- الذي هو جلاء القلوب وصفاؤها، الذي هو زين الألسن وجمالها، عبادة جليلة لها فضائل كثيرة وفوائد متعددة.

العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتابه: "الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب" ذكر من فوائد الذكر أكثر من سبعين فائدة، وما هي إلا جزء يسير من فوائد هذه العبادة الجليلة.

ربنا -تبارك وتعالى- يقول في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب: 41 - 42].

لم يكتفِ الرب -تبارك وتعالى- بأن يأمرنا بمجرد الذكر، بل قال: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) لم يكتفِ بالقليل بل أمر بالكثير، ولم يكتفِ بزمان واحد أو وقت واحد، بل قال: (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) في أول النهار وفي آخر النهار.

أثنى الله -سبحانه وتعالى- على أهل هذه العبادة والطاعة، فقال عز من قائل: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35].

نبينا -صلى الله عليه وسلم- ذات مرة كان جالس مع أصحابه فسألهم سؤالا، وقال لهم: "ألا أدلكم على خير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: بلى يا رسول الله. تخيلوا عبادة هي أجل العبادات عند الله خير من إنفاق الملايين والذهب والفضة خير من الجهاد والقتال، فما عساها أن تكون هذه العبادة؟ قال صلى الله عليه وسلم: "ذكر الله -تعالى-".

هذه هي العبادة التي فاقت سائر العبادات وتقدمت عليها، يروى لنا ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من عجز منكم عن الليل أن يكابده وبخل بالمال أن ينفقه وجبن عن العدو أن يقاتله فعليه بذكر الله".

وكلنا هذا الإنسان -أيها الأحباب- منا من عجز عن قيام الليل فلم يستطع ومنا من بخل بالمال فلم ينفقه ومنا من خاف عدوه فلم يقاتله، فهل هناك مدين أو عوض عن هذه الأعمال التي عجزنا عنها؟ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فليكثر من ذكر الله" ينال هذه الدرجات بإذن الله -سبحانه وتعالى-.

كم من أجوز عظيمة تترتب على ذكر الله -سبحانه وتعالى-، فقط ذكر واحد من الأذكار: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" كم استغرقت هذه الكلمة؟ كم أخذت من الثواني شيء يسير لا يكاد يذكر، ولكن كما هو الأجر الذي يترتب عليها؟

اسمعوا -أيها الأحباب- يقول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ" أي كأجر إعتاق عشر رقاب، هل هذا فحسب؟ قال: "وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ" هل هذا فحسب؟ قال: "وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ" هل هذا فحسب؟ "وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ" هل هذا فحسب؟ قال: "وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ".

سبحان الله! كلمات يسيرات ينال بها الإنسان هذه الحسنات وهذه الدرجات، يقول صلى الله عليه وسلم: "ومن قال: سبحان الله وبحمده، في يومه مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" حطت خطاياه ذنوبه وصغائره وسيئاته حطت كلها وإن كانت مثل زبد البحر، في كثرتها.

وعند مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحبُّ إلي ممّا طلعت عليه الشمس".

وما هو الذي تطلع عليه الشمس؟ إنها هذه الأرض كلها، هذه الكلمات خيرا مما في الأرض كلها، خيرا من الكنوز والأموال، خيرا من الأراضي والعقار، خيرا عند الله -سبحانه وتعالى- وأرفع مقاما أعلى درجة.

أهل الذكر -أيها الأحباب- هم السابقون هم المتقدمون على غيرهم، مر على جبل يقال له: جمدان، فقال: "سيروا هذا جمدان" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "سبق المفردون" قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: "الذاكرون الله كثيرا والذاكرات".

سبقوا غيرهم بالأجر، سبقوا غيرهم بالثواب، سبقوا غيرهم بالدرجة والمنزلة، سبقوا غيرهم بالقرب إلى الله -سبحانه وتعالى-، سبقوا غيرهم بالقرب إلى رحمة الله وبالقرب إلى رضوان الله -عز وجل-.

ذكر الله -عز وجل- أيها الأحباب طمأنينة القلوب، سكينة الفؤاد: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].

فما أعظمها من طمأنينة! وما أجلها من سكينة! تذهب كل مخاوف القلب وقلقه، وليس هناك أنفع للخائف الذي اشتد خوفه واشتد وجله واضطراره، ليس له أنفع من أن يذكر الله -سبحانه وتعالى- فيزول كل ما أصابه.

ذكر الله يزيل الهم والغم، ذكر الله يملأ القلب فرحا وسرورا، ولا حياة للقلوب إلا بذكر علام الغيوب -سبحانه وتعالى-، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "ذكر الله للقلب كمثل الماء للسمك فكيف حال السمك إذا خرج من الماء؟" هل له حياة بعد هذا؟! وهذا مصداق لقول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت".

فالذي يذكر الله حي في قلبه، حي في فؤاده والذي لا يذكر الله قد مات قلبه وقد مات فؤاده.

ذكر الله -عز وجل- جنة الدنيا قبل الآخرة، قال أحد الصالحين: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة".

وقال آخر: "مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها" قالوا: ما أطيب ما فيها؟ أهو الطعام اللذيذ؟ أهو الشراب الهنيء؟ أهو الملبس المريح؟ أهو البيت الواسع؟ أهو المركب الطيب؟ قال: "مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها" قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال رحمه الله: "محبة الله -سبحانه وتعالى- وذكره".

إذا ذكرت الله -عز وجل- كان الله معك وإذا كان الله معك فلا يضرك بعد ذلك ما فاتك، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله -عز وجل- يقول: أنا مع عبدي ما تحركت بي شفتاه" أنا مع عبدي ما دام ذاكرا، ما دام لسانه متحركا، ما دامت شفتاه تضطرب بذكر الله -سبحانه وتعالى-.

وفي الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ".

وتخيل -أيها الأخ الحبيب- يذكرك الرب -تبارك وتعالى- حين يذكرك عند ملائكته ويباهي بك ملائكته، ويقول: هذا عبدي فلان ذكرني فأنا أذكره كما ذكرني.

ذكر الله -عز وجل- أيها الأحباب- هو الحصن الحصين، هو القلعة التي يحتمي الإنسان فيها من عدوه من شياطين الإنس والجن، يروي لنا الحارث الأشعري -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن الله -عز وجل- أمر يحيى بن زكريا أن يعلم بني إسرائيل خمس كلمات، وأن يعمل بهن، ومن هذه الخمس كلمات قال: "وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَثِيرًا, وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ -أي ذكر الله- كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ, وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِن الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-".

يقول أبو خلاد المصري -رحمه الله-: "من دخل الإسلام فقد دخل في حصن، ومن دخل مسجدا فقد دخل في حصنين، ومن جلس مجلسا يذكر فيه الله -سبحانه وتعالى- فقد دخل في ثلاثة حصون".

ذكر الله -عز وجل- أيها الأحباب- علامة محبة العبد لله -سبحانه وتعالى- كيف تعرف أن هذا العبد يحب الله؟ كيف تعرف أن قلب هذا العبد معلق بالله؟ كيف تعرف أن فؤاده متجه إلى الله؟

انظر إلى مجالسه وانظر إلى حركة لسانه، واسمع لما يقول، فإن كان ذاكرا لله فاعلم أنه محب لله -عز وجل-، يقول الإمام الغزالي -رحمه الله-: "إذا جلس الناس مجلسا فإن كل واحد يتحدث بما يحب، فالنجار يتحدث عن الخشب ويتحدث عن الأبواب، والحداد يتحدث عن الحديد وما يتعلق به، والطبيب يتحدث عن الطب وأمراض الناس، والمهندس يتحدث عن البناء والمنشآت، والتاجر يتحدث عن الأموال والصفقات، وأما أولياء الله فإنهم إذا جلسوا كان أول حديثهم ذكر الله -سبحانه وتعالى-، وكان آخر حديثهم ذكر الله -سبحانه وتعالى-، فكانت مجالسهم رياض من رياض الجنة".

يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" أي اجلسوا فيها وانتفعوا مما فيها، فقالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ فهل في الدنيا جنة؟ إننا نعلم أن الجنة إنما هي في الآخرة فأين رياض الجنة في الدنيا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "مجالس الذكر" هي رياض الجنة جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أرسل رسوله بدين الحق ليرسله على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما مزيدا.

وبعد:

أيها الأحباب: مجالس الذكر هي مجالس الملائكة فإن لله -عز وجل-؛ كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلمُّوا إلى حاجتكم -أي وجدوا بغيتهم- قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم، وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قال: تقول: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً، قال: يقول: فما يسألونني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة، قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة –كان عابرا في طريقه، ذاهبا لحاجته فرآهم جلس معهم دون قصد للمشاركة في هذا المجلس- قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم".

هذه مجالس الذكر، هذا فضلها وهذا أجرها، وبالعكس المجالس التي لا يذكر الله -سبحانه وتعالى- هي حسرة على أصحابها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من قوم اجتمعوا في مجلس ثم تفرقوا ولم يذكروا الله -سبحانه وتعالى- في مجلسهم هذا إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة".

أيها الأحباب الكرام: ذكر الله -عز وجل- عبادة سهلة ميسورة يستطيع الإنسان أن يفعلها وهو قائم وهو مضطجع، وهو يمشي، وهو يجري، وهو على سيارته، وهو في بيته، وهو في طريقه، وهو في سوقه، وهو في عمله، بين أهله، بين أصحابه، بين الناس، يستطيع أن يفعلها في أحواله هذه كلها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يذكر الله في جميع أحواله، وكلما ذكر العبد له في مكان شهد له هذا المكان يوم القيامة: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [الزلزلة: 4 - 5].

تخطو خطوة تذكر الله فيها يشهد لك موضع هذه الخطوة، فإذا خطوت الثانية وذكرت الله شهد لك موضع الخطوة الثانية، فتخيل -يا عبد الله- لو ذكرت الله -سبحانه وتعالى- بكل خطوة تمشيها، كما هي المواضع التي ستشهد لك عند الله يوم القيامة بأنك من الذاكرين؟

وفي المقابل من غفل عن ذكر الله -سبحانه وتعالى- تكون عليه مآخذة ونقص عند الله -سبحانه وتعالى- يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما عند أبي داود من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ، وَمَنِ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ" أي مآخذة ونقص، وما من أحد يمشي ممشى خطوات يمشيها لم يذكر الله -سبحانه وتعالى- فيها إلا كان عليه من الله ترة.

الذكر -أيها الأحباب- يعطي الإنسان قوة عقلية ويعطيه قوة ذهنية ويعطيه قوة بدنية، تأتي فاطمة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تطلب منه خادما ليعينها على أعمال البيت تعبت من الطحين ونقل الماء والخدمة، فجاءت إلى أبيها -صلى الله عليه وسلم- تطلب منه خادما فلم تجده، فأخبرت عائشة -رضي الله عنها- فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته عائشة بما طلبت فاطمة -رضي الله عنها-، فيذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى فاطمة في بيتها، وقد تهيأت للنوم مع زوجها علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه- فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لهما: "ألا أعلمكما خير مما سألتما، تكبران الله أربعا وثلاثين، وتسبحانه ثلاثا وثلاثين، وتحمدانه ثلاثا وثلاثين".

إذا أخذتم مضاجعكم فكبراه أربعا وثلاثين، وسبحاه ثلاثا وثلاثين، واحمداه ثلاثا وثلاثين، قال صلى الله عليه وسلم: "فهو خير لكم من خادم".

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "من داوم على ذكر -أي على هذا الذكر- عند النوم وجد قوة في بدنه تغنيه عن الخادم".

يذكر أن الله -عز وجل- لما خلق حملة العرش أمرهم بأن يحملوا العرش، فقالوا: ومن يقدر على أن يحمل العرش يا رب؟ فقال الرب -تبارك وتعالى- قولوا: لا حول قوة إلا بالله، فقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فحملوه".

يقول ابن القيم: "هذه الكلمة: لا حول ولا قوة إلا بالله، لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، فإذا صعب عليك أمر، وإذا ثقلت عليك مهمة، فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله".

هذه -أيها الأحباب- قطرة من مطرة، وغيض من فيض، من فضل الذكر، ومن فضل هذه العبادة الجليلة، فكم هي أجور الذكر؟ وكم هي الغفلة عن هذه العبادة العظيمة؟

فعود نفسك ذكر الله -عز وجل-، وألزم لسانك دائما: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، فإنها هي الباقيات الصالحات، وبها صلاح القلب وانشراحه، وبها أنسه وارتياحه.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من الذاكرين، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من الذاكرين.

اللهم اجعلنا لك ذاكرين، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك حامدين، لك مسبحين ومثنين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.