الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
(الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع.
يقول الخليلُ بن أحمد: «اللهُ عز وجل هو العَلِيُّ، الأعلى، المتعالي، ذو العَلاءِ والعُلُوِّ؛ فأما العَلاء: فالرِّفعة، والعُلُوُّ: العظمةُ والتجبُّر». انظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي (ص109).
و(العَلِيُّ) و(العالي) أيضًا: هو القاهرُ الغالب للأشياء؛ ومنه قوله عز وجل: ﴿إِذٗا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهِۭ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖۚ﴾ [المؤمنون: 91]؛ أي: لغلَبَ بعضُهم بعضًا، وقهَرَه. انظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي (ص110).
إذن فمَدارُ الأمر في اسم الله (الأعلى) على الارتفاعِ بمختلِفِ معانيه؛ ولذلك يقول ابنُ فارس: «(علو): العين واللام والحرف المعتل - ياءً كان، أو واوًا، أو ألِفًا -: أصلٌ واحد يدل على السُّمُوِّ والارتفاع، لا يشذُّ عنه شيءٌ». "المقاييس" (4 /112).
إذن فالعُلُوُّ ثابتٌ لله بالمعنيينِ: الحقيقيِّ، والمجازي؛ خلافًا للأشاعرة فيما ذهبوا إليه مِن أنَّ اللهَ هو العَلِيُّ وصفُه، وهو استحقاقُه لنعوت الجلال.
ينظر: "شرح أسماء الله الحسنى" للقشيري (ص150).
إنَّ مجملَ ما دلت عليه اللغةُ من معاني اسم الله (الأعلى) - وهو استعمال العرب -: ثابتٌ للهِ عز وجل، وهو على مَعانٍ ثلاثة - كما سبق بيانُه في التعريف اللُّغَوي -: الارتفاعِ الحقيقيِّ، والعظمةِ والتجبُّر، والغلبةِ والقهر.
وهذا اعتقادُ سلفِ الأمَّة، ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أما (الأعلى): فقد تبيَّن في معناه اللُّغَوي أنه صيغةُ تفضيل من العُلُوِّ؛ فالمقصودُ منه: المقارنة، وأنه مهما علا الشيءُ، فاللهُ أعلى.
وأما (العَلِيُّ): فهو صيغةُ مبالغة لـ (عالٍ)، على وزنِ (فعيل)؛ كما يقال: (قدير) مبالغة لـ(قادر)، وتفيدُ المبالغةَ وتأكيدَ عُلُوِّ الله على ما سِواه؛ وذلك لأنَّ كثيرًا من المخلوقات تُوصَف بالعُلُوِّ، ولكنه تعالى له كمالُ العُلُوِّ؛ فهو أبلَغُ؛ إذ المقصود منه إثباتُ العُلُوِّ بإطلاقٍ؛ أي: سواءٌ وُجِد مَن يعلو أو يتعالى أو لم يوجَدْ.
انظر: العليورَد اسمُه جل وعلا (الأعلى) في موضعينِ في القرآن:
أولهما: قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1]؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ ﷺ قرَأَ: ﴿سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى﴾، فقال: سُبْحانَ رَبِّي الأعلى»، ثم اختُلِف في المقصود بـ(التسبيح) هنا، فقالوا: معناه: نَزِّهْ ربَّك الأعلى، وجعَلوا الاسمَ صلةً، ويَحتجُّ بهذا مَن يجعل الاسمَ والمسمى واحدًا؛ لأن أحدًا لا يقول: سُبْحانَ اسمِ الله؛ إنما يقول: سُبْحانَ الله، وقال آخرون: نَزِّهْ تسميةَ ربِّك؛ بأن تذكُرَه وأنت له مُعظِّم، ولذكرِه مُحترِم، وجعلوا الاسمَ بمعنى التسمية، وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما: «صلِّ بأمرِ ربِّك الأعلى».
* ثانيهما: قوله تعالى: ﴿إِلَّا اْبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ اْلْأَعْلَىٰ﴾ [الليل: 20]، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: «إلا طلَبَ رضا ربِّه الأعلى، أعلى كل شيء». "تنوير المقباس" للفِيرُوزابادي (ص650).
أما الآياتُ التي تُثبِت صفة العُلُوِّ في السماء له سبحانه دون لفظ (الأعلى): فكثيرة، وهي تشمل الآياتِ التي وردت فيها أسماءُ الله: العَلِيُّ، والمُتعال؛ كقوله تعالى: ﴿عَٰلِمُ اْلْغَيْبِ وَاْلشَّهَٰدَةِ اْلْكَبِيرُ اْلْمُتَعَالِ﴾ [الرعد: 9]، وقوله: ﴿وَهُوَ اْلْعَلِيُّ اْلْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]، وتشمل ما يُثبِت له العُلُوَّ والفوقية؛ كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ اْلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِۦۚ﴾ [الأنعام: 18]، وقوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: 50].
آثارُ عُلُوِّ الله ثابتةٌ في السُّنة النبوية في مواضعَ وسياقات كثيرة؛ منها:
* ما جاء عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه مِن قولِ النبيِّ ﷺ - عندما اعترَضَ أحدُ أصحابِه على قِسْمتِه ﷺ -: «ألَا تأمنوني وأنا أمينُ مَن في السماءِ؟!». البخاري (4351)، ومسلم (1064).
فهذا دليلٌ على عُلُوِّ مكانه في السماء سُبْحانه.
* حديثُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في صفةِ صلاة النبيِّ ﷺ، قال: «فكان يقولُ في سجودِهِ: سُبْحانَ رَبِّيَ الأعلى». أحمد (3514)، والطبراني (12349).
قال القُشَيريُّ: «هما اسمانِ لله تعالى، ورَد بهما القرآنُ والإجماع؛ قال الله تعالى: ﴿فَاْلْحُكْمُ لِلَّهِ اْلْعَلِيِّ اْلْكَبِيرِ﴾ [غافر: 12]». "شرح أسماء الله الحسنى" (ص150).
فالعقلُ: يُثبِت الكمالَ له، والعُلُوُّ صفةُ كمالٍ، والسُّفْلُ صفةُ نقصٍ؛ فوجَبتْ بمقتضى العقل.
أما الفِطرةُ: فدلَّتْ عليه دلالةً ضرورية؛ فإنك ترى كلَّ داعٍ أو خائف إذا فَزِع إلى ربه، توجَّهَ بقلبه ونظرِه إلى العُلْوِ، لا يلتفتُ عنه يَمْنةً ولا يَسْرة.
ويثبُتُ عُلُوُّ اللهِ في المكان والمكانة بقياسِ الأَوْلى؛ فإنه من المعلوم أنَّ كلَّ كمال لا نقصَ فيه يكونُ لبعض الموجودات المخلوقة المُحدَثة: فالربُّ الخالق هو أولى به، وكلُّ نقصٍ أو عيب يجب أن يُنزَّهَ عنه بعضُ المخلوقات المُحدَثة: فالربُّ الخالق هو أولى أن يُنزَّهَ عنه. انظر: "شرح الأصفهانية" لابن تيمية (ص74).
فمَن رسَخ في هذه المسألة، صار لقلبه قِبْلَة إلى مولاه وفاطرِه في توجُّهه، وصَلاتِه، وعبادته، وسائرِ مساعيه: الظاهرة والباطنة، وصار ذلك لقلبِه مَعْلَقًا، يجول قلبُه في الأشياء ثم يعودُ إلى مَعْلَقِه؛ كالفَرَسِ يجولُ ثم يعود إلى آخِيَّتِه». "مدخل أهل الفقه واللسان إلى ميدان المحبة والعرفان" (ص53- 54).
* ومَن آمَن باسم الله (الأعلى)، توجَّست نفسُه أن يَتكبَّرَ ويتجبر على الخَلْقِ بغير الحقِّ؛ لأنه يعلم أنه مهما تكبَّر واستعلى فاللهُ (أعلى)، فيَتجنَّب حينها ظُلْمَ العباد، وقهرَهم، والعدوانَ عليهم، ولا يكونُ هذا إلا لمَن تذكَّر عُلُوَّ الله تعالى وقهرَه، وأنه يقتصُّ للمظلومين ممَّن ظلَمهم، وما مِن جبَّارٍ علا في الأرض إلا قصَمه اللهُ تعالى وأهلَكه.
* التواضعُ لله سبحانه وتعالى، وتعظيمه، وبالتالي تعظيمُ أوامرِه ونواهيه وتشريعاته، وجميعِ ما قدَّره وقضى به، والإذعانُ والتسليم له؛ كما قال سبحانه: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمٗا﴾ [النساء: 65]؛ لأنه يعلم أنَّ اللهَ هو الأعلى؛ فأمرُه فوق كلِّ أمر، ونهيُه فوق كلِّ نهيٍ، وكذلك ما قدَّره وأراده وقضى به سبحانه، فيَتحصَّل له الرضا بأحكامِ الله الشرعية والقَدَرية.
* تنزيهُ الله سبحانه عن كلِّ نقصٍ في الذاتِ والصفات والأفعال، وإثباتُ كمالِه سبحانه فيها جميعًا؛ ولهذا يكثُرُ اقترانُ كلمةِ (تعالى) بكلمة (سبحانه) في التنزيل؛ فمثلًا يقول جل وعلا: ﴿سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام: 100]، ويقول: ﴿سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّٗا كَبِيرٗا﴾ [الإسراء: 43]، ويقول: ﴿سُبْحَٰنَ اْللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68].
«فـ(الأعلى) مفهومٌ في اللغة: أنه أعلى كلِّ شيء، وفوق كل شيء، واللهُ قد وصَف نفسَه في غيرِ موضعٍ من تنزيله ووحيِه، وأعلَمَنا أنه العليُّ العظيم.أفليس العليُّ - يا ذوي الحِجا - ما يكون عاليًا؟! لا كما تزعُمُ المعطِّلة الجَهْمية: أنه أعلى وأسفَلَ ووَسْطَ ومع كلِّ شيء، وفي كلِّ موضع من أرض وسماء، وفي أجواف جميع الحيوان.
ولو تدبَّروا الآيةَ من كتاب الله، ووفَّقهم الله لفَهْمِها: لعقَلوا أنهم جُهَّال، لا يَفهَمون ما يقولون، وبانَ لهم جهلُ أنفسهم، وخطأُ مقالتِهم».
ابن خُزَيْمَة "كتاب التوحيد" (1 /257).
«وقد أجمَع المسلمون أنَّ اللهَ هو العليُّ الأعلى، ونطَق بذلك القرآنُ في قوله: ﴿سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1]... فثبَت أنَّ لله تعالى عُلُوَّ الذات، وعُلُوَّ الصفات، وعُلُوَّ القهر والغلبة».
قِوَام السُّنَّة "الحجة في بيان المحجة" (2 /114).
«فالسلفُ والأئمة يقولون: إن اللهَ عز وجل فوق سمواته، مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خَلْقِه؛ كما دل على ذلك الكتابُ والسُّنة وإجماعُ سلف الأمة، وكما عُلِم المبايَنةُ والعُلُوُّ بالمعقول الصريح الموافقِ للمنقول الصحيح، وكما فطَر اللهُ عز وجل على ذلك خَلْقَه؛ مِن إقرارِهم به، وقصدِهم إيَّاه».
ابن تَيْمِيَّة "مجموع الفتاوى" (2 /297).
«إذا عرَفْتَ هذا، فنقول: لا تَفرِضْ مرتبةً شريفة إلا والحقُّ تعالى في أعلى الدرجات منها؛ وذلك لأن الموجودَ: إما مؤثِّرٌ، وإما أثرٌ، والمؤثِّر أشرف من الأثر، والحقُّ سبحانه مؤثِّر في الكلِّ، والكلُّ أثرُه؛ فكان أعلى من الكلِّ في هذا المعنى. وأيضًا، الموجود: إما واجبٌ، وإما ممكِنٌ، والواجبُ أعلى وأشرف من الممكِن، والحقُّ سبحانه هو الواجبُ لذاتِه؛ فكان أعلى من الكلِّ». الفَخْر الرَّازِي "لوامع البينات" (ص195).