الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | حسام بن عبد العزيز الجبرين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
من فضل الله أن يستر عباده كثيرًا ولا يفضحهم مع أن العبد يقارف المعصية مع فقره الشديد إلى ربه بل لا يمكنه أن يعصي ربه إلا بنعم الله عليه من سمع أو بصر أو لسان أو جنان أو مال أو غيره، وربنا الكريم مع كمال غناه عن الخلق وطاعتهم يكرم عبده فيستره ولا يوقع العقوبة به، ويقيض له من أسباب الستر ويفتح له باب التوبة فيوفقه للندم ويعفو عنه ويغفر بل ويفرح بتوبته. (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى: 25]، وقال عز شأنه: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ),...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين لا يخفى عليه خافية، سواء عنده السر والعلانية، ودلائل عظمته وجلاله بيّنة كافية وأشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير.
يَا من لهُ سترٌ عليّ جميلُ | هل لي إليكَ إذا اعتذرتُ قبولُ |
أيّدتني ورحمتني وسترتني | كرَماً فأنتَ لمن رجاك كفيلُ |
وَعصيتُ ثمّ رأيتُ عفوكَ واسعاً | وعليّ ستركَ دائماً مسبولُ |
فلكَ المحامدُ والممادح في الثنا | يا مَن هو المقصود والمسؤولُ |
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير الورى صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أما بعد:
إخوة الإيمان: من أعظم ما يغذِّي شجرة الإيمان في القلب بفروعها المتنوعة من خوف ورجاء وإنابة ومحبة وتعظيم وتوكل وحسن ظن معرفة الأسماء الحسنى لله وعبادته بمقتضاها، إذ هي من أعظم ما يزيد الإيمان ويوهن كيد الشيطان، (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180]، قال السعدي عند قوله (فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180]: "وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة".
وحديثنا اليوم عن اسم من أسماء الله ورد في السنة النبوية فعن يعلى بن أمية -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- رأى رجلًا يغتسلُ بالبرازِ، فصعدَ المنبرَ، فحمدَ اللهَ، وأثنى عليهِ، ثمَّ قالَ: "إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- حييٌّ ستيرٌ، يحبُ الحياءَ والسترَ، فإذا اغتسلَ أحدُكمْ فليستترْ" (أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الألباني).
وللستير روايتان (سِتّير) بكسر السين وتشديد التاء مكسورة ورواية (سَتِير) بفتح السين وكسر التاء مخففة، ودرج على ألسنة كثير من الناس قول (يا ساتر) أو (يا ستّار) ولم يرد في السنة وإن كان قريب المعنى.
وهو الحَيِيُّ فَلَيسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ | عندَ التَّجَاهُرِ مِنْهُ بالعِصْيَانِ |
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ | فَهْوَ السَّتِيرُ وصَاحِبُ الغُفْرَانِ |
قال البيهقي: "ستيـر: يعني أنه ساتِرٌ يستر على عباده كثيرًا، ولا يفضحهم في المشاهد. كذلك يحبُّ من عباده السَّتر على أنفسهم، واجتناب ما يَشينهم، والله أعلم" اهـ كلامه.
إخوة الإيمان: من فضل الله أن يستر عباده كثيرًا ولا يفضحهم مع أن العبد يقارف المعصية مع فقره الشديد إلى ربه بل لا يمكنه أن يعصي ربه إلا بنعم الله عليه من سمع أو بصر أو لسان أو جنان أو مال أو غيره، وربنا الكريم مع كمال غناه عن الخلق وطاعتهم يكرم عبده فيستره ولا يوقع العقوبة به، ويقيض له من أسباب الستر ويفتح له باب التوبة فيوفقه للندم ويعفو عنه ويغفر بل ويفرح بتوبته. (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى: 25]، وقال عز شأنه: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 104].
وربنا سبحانه يكره من عبده إذا قارف ذنبًا أن يذيعها ويشهرها، بل أمره بالتوبة والاستغفار وجاء الزجر الشديد عن هتك الستر والإعلان بالمعصية قال عليه الصلاة والسلام: "كلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ، وإنَّ منَ المُجاهرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا، ثُمَّ يصبِحَ وقد سترَه اللَّهُ، فيقولَ: يا فلانُ، عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا، وقد باتَ يسترُه ربُّهُ، ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ" (أخرجه الشيخان).
قال ابن بطال: "وفي الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين" اهـ
والستير سبحانه لا يهتك ستر عبده من أوّل ذنب حتى يتمادى، يُروى عن الفاروق -رضي الله عنه- أنه قال لسارقٍ اعتذر أنها أول مرة: "كذبت، إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة".
وستر الله في الآخرة أعظم منّة من ستر الدنيا قال عليه الصلاة والسلام:"إن اللهَ يُدْنِي المؤمنَ، فيَضَعُ عليه كنفَه ويَسْتُرُه، فيقولُ: أتَعْرِفُ ذنبَ كذا: أَتَعْرِفُ ذنبَ كذا؟ فيقول: نعم. أَيْ ربِّ، حتى إذا قرَرَّه بذنوبِه، ورأى في نفسِه أنه هلَكَ، قال: ستَرْتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفِرُها لك اليوم، فيُعْطَى كتابُ حسناتِه. وأما الكافرُ والمنافقُ، فيقولُ الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" (أخرجه البخاري).
اللهم استرنا يا ستير واغفر لنا يا غفار وارحمنا يا رحيم وتب علينا يا تواب واهدنا يا هادي يا ذا الجلال والإكرام.
الخطبة الثانية:
الحمد لله.. أما بعد: فلا يخفى أن الإيمان بأسماء الله سبحانه ومعرفتها له آثار على العبد وإليكم جملة من آثار الإيمان باسم الله الستير:
منها: محبة الله سبحانه الحليم على عباده الذي يسترهم ولا يستعجل عقوبتهم مع قدرته وغناه.
ومنها: الحياء من الله عز وجل الذي يرى عبده وهو يعصيه فيستره ويدعوه للتوبة، فحري بالعبد أن يستحي من ربه الذي يراه في جميع أحواله ولا يخفى عليه من عبده خافية.
ومن آثار الإيمان باسم الله الستير وفي الوقت نفسه هو سببٌ لستر الله: التخلق بصفة الستر على النفس وعلى الخلق لأن الله ستير يحب الستر، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: صعِدَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- المنبرَ فَنادى بصَوتٍ رفيعٍ، فقالَ: "يا مَعشرَ مَن أسلمَ بلِسانِهِ ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قَلبِهِ، لاَ تؤذوا المسلِمينَ ولاَ تعيِّروهم ولاَ تتَّبعوا عَوراتِهِم، فإنَّهُ مَن يتبِّعُ عورةَ أخيهِ المسلمِ تَتبَّعَ اللَّهُ عورتَهُ، ومَن يتبِّعِ اللَّهُ عورتَهُ يفضَحْهُ ولَو في جَوفِ رَحلِهِ" (أخرجه الترمذي وحسنه الألباني).
والنفوس ميالة إلى سماع أسرار الناس وخصوصًا معايب من بينه وبينه خصام أو عداء، وفي الصحيحين مرفوعًا "ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة"، فالمؤمن يستر وينصح والمنافق يهتك ويفضح. وحين تستر مسلمًا ليس معنى ذلك ترك الإنكار والنصيحة له، بل يناصح ويستر، فإن لم ينته رفع أمره وليس من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة كما قرر ذلك أهل العلم.
الذمُ ليس بغيبةٍ في ستةٍ | متظلمٍ ومعرفٍ ومحذرِ |
ولمظهرٍ فسقا ومستفتٍ ومن | طلبَ الإعانةَ في إزالةِ منكرِ |
ومن آثار الإيمان باسم الله الستير وفي الوقت نفسه هو سبب لتحصيل ستر الله: دعاء الله وسؤاله الستر في الدنيا والآخرة ومن دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ استُرْ عوراتي وآمِنْ رَوْعاتي".
وعورات الإنسان: عيوب الإنسان وتقصيره وكل ما يسوؤه انكشافه ويدخل في ذلك الحفظ من انكشاف عورة الجسد.
ومن أسباب ستر الله الإخلاص واجتناب الرياء.. ففي الحديث "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ" (متفق عليه).
معشر الكرام: إن الواجب على العبد أن يجاهد نفسه على البعد عن الذنوب (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) [الأنعام: 120]، ومن ألمّ بشي فعليه أن يستتر بستر الله وليبادر إلى التوبة وليكثر من الأعمال الصالحة.
ثم صلوا وسلموا..