الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن محمد السعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
إن الإنسان مهما بلغ من القوة والقدرة فهو ضعيف عاجز، أو ليس يمرض؟ أو ليس ينصب؟ أو ليس يجوع؟ أو ليس يحزن؟ أو ليس يسأم؟ أو ليس يندم؟ أو ليس يخسر؟ أو ليس يموت؟ فسبحان الله ما أضعف الإنسان! وصدق الله إذ يقول: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]. ومع ذلك فقد...
الخطبة الأولى:
فإن الإنسان مهما بلغ من القوة والقدرة فهو ضعيف عاجز، أو ليس يمرض؟ أو ليس ينصب؟ أو ليس يجوع؟ أو ليس يحزن؟ أو ليس يسأم؟ أو ليس يندم؟ أو ليس يخسر؟ أو ليس يموت؟ فسبحان الله ما أضعف الإنسان! وصدق الله إذ يقول: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28].
ومع ذلك فقد ارتقى الخيال بأقوام بما ملكهم الله من مال، أو وهبهم من قوة، أو آتاهم من سلطان؛ فرأوا أن ذلك بتحصيلهم وعلومهم وقدراتهم؛ فاعتمدوا عليها وتمدحوا بها، ونسبوها إلى أنفسهم دون الله؛ كما ذكر الله ذلك عن قارون حين آتاه الله مالا عظيما، فقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) فرد الله عليه: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) [القصص: 78]، وقال سبحانه: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الزمر: 49 - 50].
وما أشبه الليلة بالبارحة، فاليوم أصوات تنادي بالاعتماد على النفس في مجالات الحياة كلها، وأخرى تفاخر بما قدمت من عمل، وأنه ما كان لولا الوثوق بالنفس والاعتماد عليها، ويتمدحون بذلك ويمدحون به، ويعقدون الدورات لترسيخ هذا المفهوم، بأسلوب جاهلي منحرف عن الشرع، مهدرين حق الله، متجاهلين ضعف المخلوق، وحاجته إلى فاطره جل جلاله، ونرى ونسمع ما يعزز هذه المحاكاة بأساليب متنوعة، ولاسيما في الإعلانات الدعائية والتجارية، التي يظهر في عباراتها اعتماد على النفس، ووثوق بها، مع قطع الصلة بالله، فما هذا يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؟! إنه الغرور بالنفس، إنه الخذلان، إنه الهلكة، إنه اعتماد الضعيف على الضعيف، والجاهل على مثله، وهو خلاف عقيدة المسلمين، فكيف يصح لمؤمن أن يضاهي في قوله قول ملحد ومشرك؟!
ونحن المسلمين نعتقد أن كل قادر فالله هو الذي أقدره، وكل غني فغناه من ربه، وكل عالم فالله هو الذي علمه، وأن الأسباب لا تستقل بالتأثير ما لم يأذن الله -تعالى-: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر: 62].
وأن قوة المرء بربه، بتوكله عليه، واستعانته به، وإحسانه الظن به: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) [الكهف: 39]، (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160]، (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ) [الأعراف: 188].
وهذا هو التوفيق حقا: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88].
ولهذا فإن المؤمن في أحواله كلها لا يعتمد على نفسه، ولا على مخلوق مثله، ولا يظهر من الأقوال ما قد يشعر بذلك وإن لم يعتقده، بل يعتمد على الله وحده لا شريك؛ لأن النفع والضر بيده سبحانه وتعالى، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ) [الأنعام: 17].
وقد روي في الحديث: "دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ" [خرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان].
قال الإمام البيهقي -رحمه الله- على هذا الحديث: "وكل هذا الإشفاق منه صلى الله عليه وسلم -على ما وضع في قلبه من الإيمان، ووفق له من أعمال الإيمان- علماً منه بأنه إذا سلب التوفيق، ووكل إلى نفسه، لم يملك لنفسه شيئا، فينبغي لكل مسلم أن يكون هذا الخوف من همه".
الخطبة الثانية:
لقد تظاهرت أدلة الشرع على وجوب الثقة بالله والتوكل عليه، والاستعانة به في الأمور كلها، وعلى وجوب الكف عن كل لفظ يوهم استحقاق العبد لشيء من خصائص ربه، أو مشاركته له في حقه، تعظيما لله وتوقيرا، وإيمانا به وتوحيدا، وهذا هو الشأن في المسلم الذي عرف ربه وكمالَه، ونظر إلى نفسه وإلى كل مخلوق بعين العبودية والخضوع والتذلل لله، والضعف والعجز والفقر الملازم للمخلوق؛ فميّز حق الله عن خلقه، وأعطى كل ذي حق حقه، ولم يشبه المخلوق بخالقه، وكف لسانه وجوارحه عما نهي عنه، أو كان ذريعة إلى ذلك؛ لئلا يقع في شراك الشرك واستنقاص الرب من حيث لا يشعر، أو يصرعه حب الدنيا في مصارع الظالمين، حين يعلم حدود ما أنزل الله؛ فيتجافى عنه، ويلهج بلسانه وفي إعلامه بأن ما كان له من الثروات والمناصب فمحض كسبه وقدرته وجهده وذكائه؛ فخرا بنفسه وسيرته، أو ترويجا لبضاعته، غافلا عن ربه وعظيم فضله عليه، أو متجاهلا له، ولو لا فضل الله عليه لم يرفع قلما، ولم يخط خطا، ولم يقم من مكانه، ولم يملك دينارا ولا درهما، ولم تقم له قائمة، فأين ذهب به عقله؟ وأين ألقى به غروره؟
فاعتمدوا -أيها المؤمنون- على الله وحده في أموركم كلها، ولا تنسينكم الدنيا الآخرة، وليعرف كل عبد قدره؛ حتى لا يتجاوز حقيقته؛ فيكون منه الاستكبار والعناد والغرور والتطاول على رب العالمين، فيردى ويهلك مع الهالكين؛ فرعون وقارون وعاد، وغيرهم من صناديد المشركين والمستكبرين.