الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إذا أردت المداومة على ذلك, والاستمرار عليه, فاعلم أنَّ جماع ذلك كله هو: رياضة النفس. ورياضة النفس هي: حمل النّفس على المشاقّ البدنيّة ومخالفة الهوى. فإذا جاهدت نفسك وروَّضتها؛ فاعلم أنها ستعينك على ما تريد, وستنال بها المعالي, وتبلغ بها الأماني...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْم, الْجَوَادِ الْكَرِيْم, خَلَقَ الإِنْسَانَ فِيْ أَحْسَنِ تَقْوِيْم, وَأَبْدَعَهُ فِيْ أَبْهَى حُلَّةٍ وَصُوْرَة, وَنَشَرَ فِيْ الأَرْضِ ضِيَائَهُ وَنُوْرَه, كَتَبَ لَهُ الرِّزْقَ وَالأَجَل, وَالْحَيَاةَ وَالْمَوْت, وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَة, نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ الْمُتَتَالِيَة, وَأَفْضَالِهِ الْمُتَوَالِيَة, وَنَشْكُرُهُ مَا طَارَتِ الأَطْيَار, وَسَحَّتِ الأَمْطَار, وَتَسَابَقَ الْلَّيْلُ وَالنَّهَار.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ يُعْبَدُ بِحَقِّ إِلا الله, وَلا رَبَّ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ سِوَاه, لَيْسَ فِيْ ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوْقَاتِه, وَلا فِيْ مَخْلُوْقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِه, صِفَاتُهُ الْعُلْيَا, وَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُهُ الْمَبْعُوْثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْن, وَمُرْشِدَاً لِلتَّائِهِيْن, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ الأَصْفِيَاءِ الْمُتَّقِيْن, وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً كَثِيْرَاً إِلَىْ يَوْمِ الدِّيْن.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوْصِيْكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِيْ بِتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَل-, فَهِيَ حَرْثُ الدُّنْيَا, وَحَصَادُ الآَخِرَة, (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ), (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل: 128].
أَيُّهَا النَّاس: اشْرَأَبَّتِ الأَعْنَاق, لِطُوْلِ الْعِنَاق, ولكن سرعان ما غابت الشمس, وأفل القمر, وحث الجديدان الخطى في نهش الأعمار, وأكل الدِّيار, والنفوس في الغفلة سادرة, لذنوب الخلوة ساترة, فذاك هو رمضان, نسماته تتلاشى في الأفق, وآثاره تندرس شيئا فشيئا.
فهذه إليك يا من وجد اللذة والحلاوة, يا من وجد الحبور والسرور, إليك يا صاحب الدمعة الخاشعة, والنحيب الذليل, والإرهاق المريح, إليك هذه الوصية: إذا أردت المداومة على ذلك, والاستمرار عليه, فاعلم أنَّ جماع ذلك كله هو: رياضة النفس.
ورياضة النفس هي: حمل النّفس على المشاقّ البدنيّة ومخالفة الهوى. فإذا جاهدت نفسك وروَّضتها؛ فاعلم أنها ستعينك على ما تريد, وستنال بها المعالي, وتبلغ بها الأماني (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
والرياضة والمجاهدة على أقسام: مجاهدةٌ بالنَّفْسِ, ومجاهدةٌ بالقلبِ, ومجاهدةٌ بالمال.
فالمجاهدةُ بالنفس: ألا يَدَّخِرَ العبدُ ميسوراً إلا بَذَلَه في الطاعة بتحمُّل المشاقّ.
والمجاهدةُ بالقلب: صَوْنُه عن الخواطرِ الرديئةِ مثل الغفلة, والعزمُ على المخالفات, وتذكرُ ما سَلَفَ من المعاصي والسيئات.
والمجاهدة بالمال: بالبذل والسخاء, ثم بالجود والإيثار.
واعلم أنَّ المعين الأوَّل لتلك النفس الأمَّارة هو: الشيطان. فإذا غلبت الشيطان؛ فقد غلبت النفس, وللشيطان مداخل ومسارب يصل بها لمبتغاه, وينال بها بغيته, فإذا أغلقت الطريق عنه, وأوصدت تلك المداخل, فقد عرفت سرّ هذه النفس, وملكت زمامها.
ولجهاد الشّيطان-كما يقول ابن القيّم- مرتبتان:
الأولى: جهاده على دفع ما يلقى إلى العبد من الشّبهات والشّكوك.
الثّانية: جهاده على ما يلقى إليه من الإرادات الفاسدة والشّهوات.
فالمرتبة الأولى يكون بعدها اليقين, والثانية يكون بعدها الصّبر, قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24], فأخبر اللّه-عزّ وجلّ- أنّ إمامة الدّين إنّما تنال بالصّبر واليقين, فالصّبر يدفع الشّهوات والإرادات الفاسدة, واليقين يدفع الشّكوك والشّبهات. وهذه هي الأمنية بأن تدفع الشهوات والشبهات.
وللنفس صفتان: انهماك في الشهوات, وامتناع عن الطاعات. والصبر واليقين هما دواء تلك الصفتين. ورياضة النفس تستلزم الجهد والإرهاق في بداية الأمر, حتى تكتسب المرونة واللياقة, ثم تنساق معك.
فإذا صارعت وجاهدت في البداية, فهذا بشير نجاح وفلاح -بإذن الله-. وقد سئل الشافعي -رحمه الله-: أيُّما أفضلُ للرجل, أن يُمكَّن مباشرة أو يُبتلى؟ فقال: "لا يُمكَّن حتى يُبتلى".
والله تعالى ابتلى أُولى العَزْمِ مِن الرسل, فلما صَبَرُوا مكَّنهم, فلا يَظُنَّ أحد أنه يخلص من الألم البتة, وإنما يتفاوتُ أهلُ الآلام في العُقُول, فأعقلُهم مَنْ باع ألماً مستمِراً عظيماً, بألم منقطع يسير, وأشقاهُم مَنْ باع الألَمَ المنقطِعَ اليسير, بالألم العظيم المستمر.
قال ابن حجر- رحمه اللّه- في شرح حديث ربيعة بن كعب -رضي الله عنه- عندما سأل النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- المرافقة في الجنّة, قال: "فمن كثرة سجوده حصلت له تلك الدرجة العلية, التي لا مطمع في الوصول إليها إلا بمزيد الزلفى عند الله في الدنيا, بكثرة السجود المومأ إليه بقوله تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق: 19]".
أيها المؤمنون: جاهدوا أنفسكم بأسياف الرياضة, واعلموا أنَّ الرياضة على أربع أوجه وهي: القوت من الطعام, والغمض من المنام, والحاجة من الكلام, وتحمل الأذى من جميع الأنام.
فيتولد من قلة الطعام: موت الشهوات, ومن قلة المنام: صفو الإرادات, ومن قلة الكلام: السلامة من الآفات. ومن احتمال الأذى: البلوغ إلى الغايات. عَنْ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ". وكان مالك بن دينار يطوف في السوق فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه: "اصبري! فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك علي".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَلى إحسانِه, والشّكر له على توفيقهِ وامتنانه, وأشهد أن لاَ إلهَ إلا الله وحدَه لا شَريك له تعظيمًا لشأنه, وأشهَد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورَسوله الدّاعي إلى رضوانه, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه, وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.
أمّا بعد:
فيا أيّها النّاس: اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى, وأنيبوا وأسلموا له, لتنجو في يوم تشيب فيه الولدان, وتقشعر فيه الأبدان.
عبادَ الله: لرياضة النفس ومجاهدتها فوائد عديدة, منها: إخضاع النّفس والهوى لطاعة اللّه -عزّ وجلّ-, وإبعادها عن الشّهوات, وصدّ القلب عن التّمنّي والتّشهّي, وتعوّد الصّبر عند الشّدائد على الطّاعات وعن المعاصي.
واعلموا أنها طريق قويم يوصّل إلى رضوان اللّه تعالى والجنّة, ومن جاهد نفسه وأدّبها سما بين أقرانه وفي مجتمعه, وإنَّ سوء الظّنّ بالنّفس يعين على محاسبتها وتأديبها, وحسن الظن بها سبيل لفسادها. قال ثابت البناني: "كابدت الصلاة عشرين سنة, وتنعمت بها عشرين سنة". وقال محمد بن المنكدر: "كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت".
هَذَاْ واعلَموا -رحمكم الله- أنّ أحسَنَ الحديث كتابُ الله, وخيرَ الهديِ هَدي محمّدٍ, وشرَّ الأمورِ محدَثاتها, وكلّ بِدعةٍ ضَلالة, وعليكم بجماعةِ المسلِمين, فإنّ يدَ الله علَى الجمَاعةِ, ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ.
وصلّوا - رحمكم الله - علَى نبيِّكم محَمّد كما أمَرَكم بذلِك ربّكم, فقال تعَالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك علَى سيدنا محمّد سيد الأولين والآخرين, وارضَ اللَّهمّ عن خلفائِه الرّاشدين, الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وعن بقية الصحابة أجمعين, وأهل بيته الطيبين الطاهرين. وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بمنك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر أعداءك أعداء الدين, واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً, وسائر بلاد المسلمين, اللهم انصر من نصر الدين, واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين, ونفس كرب المكروبين, واقضِ الدين عن المدينين, واشف مرضانا ومرضى المسلمين, برحمتك يا ارحم الراحمين, اللهم آمنا في أوطاننا, وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين, اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه يا حي يا قيوم, اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام, ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عِبَادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ).
فاذكروا الله يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.