الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
قدّم الله أشد الشهوات وأقوى الفتن وهي النساء, فإن فتنتهن أعظم فتن الدنيا, ثم ذكر البنين المتولدين من النساء, ثم ذكر شهوة الأموال؛ لأنها تقصد لغيرها فشهوتها شهوة الوسائل, وقدم أشرف أنواعها وهو الذهب ثم الفضة بعده, ثم ذكر الشهوة المتعلقة بالحيوان الذي لا يعاشر عشرة النساء والأولاد, فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله أوجد الغرائز وأرشد لطريقها, وحذّر من متبعيها, سترنا وأظهر حسننا, وأسبغ علينا نَعما, أحمده -سبحانه- وأشكره على جزيل نعمائه, ووافر فضله, وتتابع كرمه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, في ألوهيته وربوبيته وأٍسمائه وصفاته, جل عن الند وعن الشبيه وعن المثيل وعن النظير, ليس كمثله شيء وهو السميع البصير, وأِشهد أن محمداً عبدُه ورسوله وصفيه وخليله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه, ومن تبعهم وسار على نهجهم وسلك طريقهم, وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-, فهي درعٌ من الشهوات وسترٌ في الخلوات, وأمنٌ وقت الحسرات, وفوزٌ يوم الفجيعات, (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102], (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون: قال ابن تيمية -رحمه الله- ذكر الله لنا أنواعاً من الشهوات التي جبلت النفوس على محبتها، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: 14]. ففي الآية ذكر أنواع من الشهوات، وهي: النساء, والبنين, والأموال, والحيوان والحرث.
قدّم الله أشد الشهوات وأقوى الفتن وهي النساء, فإن فتنتهن أعظم فتن الدنيا, ثم ذكر البنين المتولدين من النساء, ثم ذكر شهوة الأموال؛ لأنها تقصد لغيرها فشهوتها شهوة الوسائل, وقدم أشرف أنواعها وهو الذهب ثم الفضة بعده, ثم ذكر الشهوة المتعلقة بالحيوان الذي لا يعاشر عشرة النساء والأولاد, فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بهم, وقدم أشرف هذا النوع وهو الخيل, فقدمها على الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم, ثم ذكر الأنعام وقدمها على الحرث؛ لأن الجمال بها والانتفاع أظهر وأكثر من الحرث.
أيها الإخوة: من عجيب خلق الله تعالى أنه خلق الخلق من حيث وجود الشهوة على ثلاثة أصناف:
قال ابن القيم -رحمه الله- تعالى: "قال قتادة: خلق الله -سبحانه- الملائكة عقولا بلا شهوات, وخلق البهائم شهوات بلا عقول, وخلق الانسان وجعل له عقلا وشهوة, فمن غلب عقله شهوته فهو مع الملائكة, ومن غلبت شهوته عقله فهو كالبهائم".
الفائدة من هذا الكلام في تركيب الشهوة: أنه لا بد من وقوع آثارها: قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الانسان, فلا بد من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي, فلا بد من ترتب آثار هاتين القوتين عليهما, ولو لم يخلقا في الإنسان لم يكن إنساناً بل كان ملكاً, فالترتب من موجبات الانسانية, كما قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون".
ذكر أهل العلم عدة حكم لتركيب الشهوة في الإنسان, منها:
1) التكاثر والحفاظ على النسل.
2) الابتلاء والامتحان. سئل عمر بن الخطاب: أيما أفضل؟ رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله, أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: "إن الذي تشتهى نفسه المعاصي ويتركها لله -عز وجل- من (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات: 3].
3) الإقبال على الله والانكسار بين يديه: قال بعض السلف: "إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة, ويعمل الحسنة يدخل بها النار. قالوا: كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقا وجلا باكيا نادما, مستحيا من ربه تعالى, ناكس الرأس بين يديه, منكسر القلب له؛ فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة, بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه؛ حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة.
ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه, ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول: فعلت وفعلت؛ فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة, ما يكون سبب هلاكه". [الوابل الصيب ج: 1 ص: 14].
4) التشويق إلى ثواب الآخرة, والرغبة فيه؛ لأنه أكمل من شهوات الدنيا.
عباد الله: إننا نعيش في عصر كثرت فيه الفتن والمغريات, وتحكمت فيه الغرائز والملهيات, وتنوعت فيه وسائل الإغراء والشهوات, وتكاثرت فيه الخطايا والموبقات, وعُصي على بصيرة رب البريات, ورُفع فيه الفاجراتُ, (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41], فرضخ أكثر الناس لهذا الواقع الأليم, واتبعوا أهوائهم, وقادتهم شهواتهم إلى مقاتلهم, وأعمتهم عن مصالحهم وما فيه سعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة, (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59].
مضى هؤلاء يحتسون كؤوس اللذة من أي مصدر كان, ويؤمّون قوافل الهوى أنى اتجهت ركائبها, وهم يعتمدون في ذلك إما على رجاء كاذب, أو أمل بعيد لا ينتهي, أو تحيط بهم غفلة تامة لا أمل في إفاقتهم منها, وقادهم دعاة على أبواب الشهوات يزينونها لهم ويُحسنونها (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء: 27], فكم من جاهل أغروه وفي حفر الشهوات أردوه؟ وكم غروٍ أضلوه وكم جارية ضيعوها وجروها لشهواته فأردوها في الحافرة؟.
أيها المسلمون: أما العقلاء من أهل الإيمان والصلاح فإنهم نظروا إلى عواقب الأمور, ولم تشغلهم البدايات عن الغايات والنهايات, فجعلوا الصبر في الدنيا مركبهم, والعفاف قائدهم, والتقوى شعارهم, فتحملوا مرارة الصبر في الدنيا؛ علماً منهم بحسن الجزاء في الآخرة, قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
وهؤلاء -في الحقيقة- لم يخسروا شيئاً من الدنيا, أما الشهوات فقد نالوها من وجوهها المباحة, فتحكموا في أنفسهم وخطموها وزموها, ولم يجعلوها تقودهم إلى مصارعهم كما فعل الأولون, لعلمهم أن الصبر في الدنيا عن معصية الله, أهون من الخزي والخسران والضياع يوم القيامة.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة؛ فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة, وإما أن تقطع لذةً أكبر منها, وإما أن تضيّع وقتاً إضاعته حسرة وندامة, وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه, وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه, وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه, وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذّ من قضاء الشهوة, وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك, وإما أن تجلب همّاً وغمّاً وحزناً وخوفاً لا يقارب الشهوة, وإما أن تنسي علماً ذكره ألذّ من نيلِ الشهوة, وإما أن تشمّت عدوّاً وتحزن ولياً, وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة, وإما أن تحدث عيباً يبقى صفةً لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق".