البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الأديان والفرق |
فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ لِمَنْ قَصَدَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ بِالْأَذَى. وَلَكِنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ لَا يَتَّعِظُونَ؛ لِأَنَّهُمْ أَصْلًا لَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يَأْبَهُونَ بِالتَّارِيخِ؛ وَلِذَا فَعَلَ الْقَرَامِطَةُ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِيِّ مَا فَعَلُوا فِي مَكَّةَ مِنْ ذَبْحِ الْحُجَّاجِ، وَسَرِقَةِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ.
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدُ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَـدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي أَخْبَارِ الْمَاضِي عِبْرَةٌ لِلْحَاضِرِ، وَاسْتِلْهَامٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ؛ فَسُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ وَالْأُمَمِ وَالْحَضَارَاتِ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَأَحْدَاثُ التَّارِيخِ تَتَشَابَهُ وَتَتَكَرَّرُ (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) [فاطر: 43- 44].
وَهَذَا حَدِيثٌ عَنْ وَاقِعَةِ الْفِيلِ الَّتِي حَمَى اللهُ -تَعَالَى- فِيهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ مِنِ اعْتِدَاءِ أَبْرَهَةَ وَجَيْشِهِ عَلَيْهِ، وَبَعْدَهَا بِخَمْسِينَ يَوْمًا وُلِدَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَرَّخَ أَهْلُ السِّيَرِ وِلَادَتَهُ بِعَامِ الْفِيلِ.
وَمُلَخَّصُ خَبَرِهِمْ: أَنَّ الْيَمَنَ حَكَمَهَا ذُو نُوَاسِ بْنُ تَبَّانَ -وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وَكَانَ مُشْرِكًا- وهُوَ الَّذِي حَرَّقَ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ، وَكَانُوا نَصَارَى مُؤْمِنِينَ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَفْلَتَ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَغَاثَ بِمَلِكِ الشَّامِ -وَكَانَ نَصْرَانِيًّا- فَكَتَبَ لَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلَكِ الْحَبَشَةِ؛ يَأْمُرُهُ بِالِانْتِقَامِ لِأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ مِنْ مَلِكِ حِمْيَرَ، فَبَعَثَ مَعَهُ أَمِيرَيْنِ: أَرِيَاطَ وَأَبْرَهَةَ بْنَ الصَّبَاحِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَدَخَلُوا الْيَمَنَ، وَاسْتَلَبُوا الْمُلْكَ مِنْ حِمْيَرَ. وَاسْتَقَلَّ الْحَبَشَةُ بِمُلْكِ الْيَمَنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْأَمِيرَانِ: أَرِيَاطُ وَأَبْرَهَةُ فِي أَمْرِهِمَا وَتَصَاوَلَا وَتَقَاتَلَا فَكَانَتِ الْغَلَبَةُ لِأَبْرَهَةَ... وَاسْتَقَلَّ بِتَدْبِيرِ جَيْشِ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ يَلُومُهُ وَيُهَدِّدُهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَاسْتَطَاعَ أَبْرَهَةُ أَنْ يَمْتَصَّ غَضَبَ النَّجَاشِيِّ، وَأَنْ يُقِرَّهُ مَلِكًا عَلَى الْيَمَنِ، وَأَرْسَلَ أَبَرْهَةُ يَقُولُ لِلنَّجَاشِيِّ: إِنِّي سَأَبْنِي لَكَ كَنِيسَةً بِأَرْضِ الْيَمَنِ لَمْ يُبْنَ قَبْلَهَا مِثْلُهَا. فَشَرَعَ فِي بِنَاءِ كَنِيسَةٍ هَائِلَةٍ بِصَنْعَاءَ، رَفِيعَةِ الْبِنَاءِ، عَالِيَةِ الْفِنَاءِ، مُزَخْرَفَةِ الْأَرْجَاءِ.... وَعَزَمَ أَبَرْهَةُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إِلَيْهَا كَمَا يُحَجُّ إِلَى الْكَعْبَةِ بِمَكَّةَ، وَنَادَى بِذَلِكَ فِي مَمْلَكَتِهِ، فَكَرِهَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ، وَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى قَصَدَهَا بَعْضُهُمْ، فَأَحْدَثَ فِيهَا. فَلَمَّا رَأَى السَّدَنَةُ ذَلِكَ الْحَدَثَ، رَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى مَلِكِهِمْ أَبَرْهَةَ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّمَا صَنَعَ هَذَا بَعْضُ قُرَيْشٍ غَضَبًا لِبَيْتِهِمُ الَّذِي ضَاهَيْتَ هَذَا بِهِ، فَأَقْسَمَ أَبَرْهَةُ لَيَسِيرَنَّ إِلَى بَيْتِ مَكَّةَ، وَلَيُخَرِّبَنَّهُ حَجَرًا حَجَرًا.
فَتَأَهَّبَ أَبَرْهَةُ لِذَلِكَ، وَسَارَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مَعَهُ الْفِيَلَةُ لِيَهْدِمَ الْكَعْبَةَ؛ فَلَمَّا سَمِعَتِ الْعَرَبُ بِمَسِيرِهِ أَعْظَمُوا ذَلِكَ جِدًّا، وَرَأَوْا أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِمُ الدِّفَاعُ عَنِ الْبَيْتِ، وَرَدُّ مَنْ أَرَادَهُ بِكَيْدٍ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ، يُقَالُ لَهُ (ذُو نَفْرٍ) فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إِلَى حَرْبِ أَبَرْهَةَ، وَجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. فَأَجَابُوهُ وَقَاتَلُوا أَبَرْهَةَ، فَهَزَمَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كَرَامَةِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ. ثُمَّ مَضَى لِوَجْهِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمٍ، عَرَضَ لَهُ نُفَيلُ بْنُ حَبِيبٍ فِي قَوْمِهِ، فَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمَهُمْ أَبَرْهَةُ.
فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرْضِ الطَّائِفِ، خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا ثَقِيفٌ وَصَانَعُوهُ خِيفَةً عَلَى بَيْتِهِمْ (اللَّاتَ) فَأَكْرَمَهُمْ لِاسْتِسْلَامِهِمْ، وَبَعَثُوا مَعَهُ (أَبَا رِغَالٍ) دَلِيلًا. فَلَمَّا انْتَهَى أَبَرْهَةُ إِلَى المُغَمَّسِ -وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ- نَزَلَ بِهِ وَأَغَارَ جَيْشُهُ عَلَى سَرْحِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، فَأَخَذُوهُ. وَكَانَ فِي السَّرْحِ مِائَتَا بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَرْسَلَ أَبَرْهَةُ إِلَى أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ أَنَّه لَمْ يَجِئْ لِقِتَالِهمْ إِلَّا أَنْ يصُدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ، وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ. هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ، وَإِنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ. فَذَهَبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مَعَ رَسُولِ النَّجَاشِيِّ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبَرْهَةُ أَجَلَّهُ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَجُلًا جَمِيلًا حَسَنَ الْمَنْظَرِ، وَنَزَلَ أَبَرْهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ، وَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى الْبِسَاطِ، وَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ: إِنَّ حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي. فَقَالَ أَبَرْهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكِ قَدْ جِئْتُ لِهَدْمِهِ، لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ. قَالَ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي! قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ...وَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، وَالتَّحَصُّنِ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ. ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخْذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبَرْهَةَ وَجُنْدِهِ...
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبَرْهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ، وَعَبَّأَ جَيْشَهُ، فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ نَحْوَ مَكَّةَ بَرَكَ الْفِيلُ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى. فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ. وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ، مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، أَمْثَالُ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ، لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ. وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ، وقُرَيْشٌ وَعَرَبُ الْحِجَازِ عَلَى الْجِبَالِ، يَنْظُرُونَ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ النِّقْمَةِ.
وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ هَلَكَ سَرِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ يَتَسَاقَطُ عُضْوًا عُضْوًا وَهُمْ هَارِبُونَ، وَكَانَ أَبَرْهَةُ مِمَّنْ يَتَسَاقَطُ عُضْوًا عُضْوًا، حَتَّى مَاتَ بِبِلَادِ خَثْعَمٍ.
وَتَنَزَّلَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى فِيهَا عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ حَمَاهُمْ مِنْ أَبْرَهَةَ وَجَيْشِهِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ -تَعَالَى-، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل: 1 - 5]. أَيْ: جَعَلَهُمْ كَالزَّرْعِ الَّذِي أَكَلَتْ مِنْهُ الْبَهَائِمُ وَعَبَثَتْ بِهِ وَدَاسَتْهُ بِأَقْدَامِهَا، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ أَصْحَابِ الْفِيلِ بَعْدَ تِلْكَ النَّضْرَةِ وَالْقُوَّةِ كَيْفَ صَارُوا مُتَسَاقِطِينَ عَلَى الْأَرْضِ هَالِكِينَ.
(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الجاثية: 36- 37].
(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة: 165].
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ لِمَنْ قَصَدَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ بِالْأَذَى. وَلَكِنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ لَا يَتَّعِظُونَ؛ لِأَنَّهُمْ أَصْلًا لَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يَأْبَهُونَ بِالتَّارِيخِ؛ وَلِذَا فَعَلَ الْقَرَامِطَةُ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِيِّ مَا فَعَلُوا فِي مَكَّةَ مِنْ ذَبْحِ الْحُجَّاجِ، وَسَرِقَةِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ.
وَبَاطِنِيَّةُ هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الصَّفَوِيِّينَ وَأَذْنَابِهِمْ يُعِيدُونَ الِاعْتِدَاءَ عَلَى مَكَّةَ، وَيُرْسِلُونَ عَلَيْهَا صَوَارِيخَهُمْ. وَلَوْ قَدَرُوا لَهَدَمُوا الْكَعْبَةَ وَذَبَحُوا أَهْلَ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صَمِيمِ عَقَائِدِهِمْ، وَمِنْ أَسَاسَاتِ دِينِهِمْ؛ وَمِنْ رِوَايَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ: "إِذَا قَامَ الْمَهْدِيُّ هَدَمَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ... وَقَطَعَ أَيْدِي بَنِي شَيْبَةَ وَعَلَّقَهَا بِالْكَعْبَةِ"، وَفِي نَصٍّ آخَرَ عِنْدَهُمْ: "يُجَرِّدُ السَّيْفَ عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ يَقْتُلُ هَرْجاً... ثُمَّ يَتَنَاوَلُ قُرَيْشاً فَلَا يَأْخُذُ مِنْهَا إِلَّا السَّيْفَ وَلَا يُعْطِيهَا إِلَّا السَّيْفَ" فَهِذِه نَوَايَاهُمُ السَّيِّئَةُ فِي قُرَيْشٍ وَفِي الْحَرَمِ. وَفِي رِوَايَاتِهِمْ أَنَّ قَائِمَهُمْ يَهْدِمُ الْكَعْبَةَ، وَيَنْقِلُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ إِلَى مَسْجِدِهِمْ فِي الْكُوفَةِ.
وَأَبْرَهَةُ حِينَ سَارَ لِهَدْمِ الْكَعْبَةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلنَّاسِ، أَمَّا هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ فَلَنْ يُبْقُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِلَا قَتْلٍ وَتَعْذِيبٍ. وَأَفْعَالُهُمْ بِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ شَاهِدَةٌ عَلَى ذَلِكَ.
وَكَمَا خَانَ أَبُو رِغَالٍ عَرَبَ الْأَمْسِ لِمَصْلَحَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ، فَصَارَ دَلِيلًا لِأَبْرَهَةَ فِي هَدْمِ الْكَعْبَةِ، وَمَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهَا فَرَجَمَتِ الْعَرَبُ قَبْرَهُ؛ فَإِنَّ نَمَاذِجَ أَبِي رِغَالٍ فِي عَصْرِنَا كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ مِمَّنْ خَانُوا دِينَهُمْ وَأُمَّتَهُمْ، وَصَارُوا مَعَ الْبَاطِنِيِّينَ بِمَوَاقِفِهِمْ وَأَقْلَامِهِمْ وَإِعْلَامِهِمْ، وَمَصِيرُهُمْ سَيَكُونُ مَصِيرَ أَبِي رِغَالٍ الْأَوَّلِ، وَكَمْ فِي زَمَنِنَا مِنْ أَبِي رِغَالٍ يَسْتَحِقُّ ذَمًّا وَرَجْمًا.
وَفِي حَادِثَةِ الْفِيلِ دَعَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَبَّهُ تَحْتَ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَأَخْلَصَ فِي دُعَائِهِ أَنْ يَحْفَظَ اللهُ تَعَالَى بَيْتَهُ رَغْمَ أَنَّهُ مُشْرِكٌ. فَأَوْلَى أَنْ يَلْهَجَ الْمُؤْمِنُونَ بِالدُّعَاءِ بِحِفْظِ الْبَيْتَيْنِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مِمَّنْ يُرِيدُ بِهَا شَرًّا مِنْ صَهَايِنَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَاطِنِيَّةِ فَارِسَ؛ فَإِنَّ تَآمُرَ الْأَعْدَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمُقَدَسَاتِهِمْ كَبِيرٌ، وَإِنْ جَمْعَهُمْ كَثِيرٌ، وَقَدْ تَقَاسَمُوا الْأَدْوَارَ، وَرَمَوُا الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَنْ يَرُدَّهُمْ وَيُبْطِلَ كَيْدَهُمْ إِلَّا خَالِقُهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فَأَلِحُّوا عَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ، وَأَلِظُّوا بِيَاذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...