الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - فقه النوازل |
فمع نبإٍ من أنباءِ الغيبِ التي حدثنا بها من لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم-، نقف مع كلماتٍ معدودات، دقيقةِ التوصيفِ، واضحةِ التعبيرِ، نغوصُ في أسرارها، ونَسْتَكْشِفُ معالمِها، فيها استشرافٌ للمستقبلِ، ووضعُ اليدِ على مكمن الداء.
الخطبة الأولى:
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: نَصَحَ أُمَّتَهُ، تَرَكَهَا عَلَى الْبَيْضَاءِ، أَشْفَقَ عَلَى هَوَانِهَا، رَسَمَ لَهَا مَعَالِمَ عِزِّهَا وَشَرَفِهَا، وَأَوْضَحَ لَهَا سَبَبَ شَقَائِهَا وَذُلِّهَا.
فَمَعَ نَبَإٍ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الَّتِي حَدَّثَنَا بِهَا مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، نَقِفُ مَعَ كَلِمَاتٍ مَعْدُودَاتٍ، دَقِيقَةِ التَّوْصِيفِ، وَاضِحَةِ التَّعْبِيرِ، نَغُوصُ فِي أَسْرَارِهَا، وَنَسْتَكْشِفُ مَعَالِمَهَا، فِيهَا اسْتِشْرَافٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَوَضْعُ الْيَدِ عَلَى مَكْمَنِ الدَّاءِ.
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا". فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ". فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَلَنَا مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَفَاتٌ وَتَأَمُّلَاتٌ:
الْوَقْفَةُ الْأُولَى: هَذَا قَدَرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى أُمَّةِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُبْغَضَ وَتُحْسَدَ، وَتُحَارَبَ وَيُحْقَدَ عَلَيْهَا، (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [الْبَقَرَةِ: 217]، (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) [آلِ عِمْرَانَ: 186]، فَهَذِهِ الْأُمَّةُ إِذًا مَبْغُوضَةٌ وَمَحْسُودَةٌ مِنْ أَعْدَائِهَا، مُنْذُ أَنْ بَزَغَ فَجْرُهَا وَنُورُهَا، وَتَارِيخُهَا مَلِيءٌ بِشَوَاهِدَ مِنْ هَذِهِ الضَّغَائِنِ الْمُتَرَاكِمَةِ.
وَلَا يَزَالُ هَذَا الْحِقْدُ تَغْلِي مَرَاجِلُهُ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى هَذَا مِنْ حَمَلَاتِ التَّشْوِيهِ وَالِاسْتِعْدَاءِ الْمُتَجَدِّدَةِ ضِدَّ هَذَا الدِّينِ وَنَبِيِّهِ وَمُقَدَّسَاتِهِ وَشَعَائِرِهِ.
قَنَوَاتٌ وَإِعْلَامٌ، تُغَذِّي كَرَاهِيَةَ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ، وَأَعْلَامٌ وَأَقْزَامٌ، جَعَلَتْ مَشْرُوعَهَا السَّعْيَ فِي تَشْوِيهِ رِسَالَةِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِقَاصِ شَرَائِعِهِ، وَمُحَارَبَةِ وَتَحْجِيمِ شَعَائِرِهِ.
فَعَادَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ حَتَّى فِي دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ، وَأَضْحَى تَطْبِيقُ الشَّرِيعَةِ جَرِيمَةً لَا يَرْضَاهَا الْغَرْبُ، وَيَعُدُّهَا سَبَبًا لِلتَّدَخُّلِ الْعَسْكَرِيِّ الْبَرْبَرِيِّ.
الْوَقْفَةُ الثَّانِيَةُ: عِنْدَ قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ"، هِيَ أُمَمٌ، وَلَيْسَتْ أُمَّةً وَاحِدَةً، أُمَمٌ يَدْعُو بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُنَادِي بَعْضُهَا بَعْضًا، أُمَمٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَشُعُوبٌ مُخْتَلِفَةٌ، تَفَرَّقَ شَمْلُهُمْ، إِلَّا عَلَى مُحَارَبَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ!
لَقَدْ أَخْبَرَنَا رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ تَفَرُّقِ الْمُشْرِكِينَ وَتَنَاحُرِهِمْ وَتَبَاغُضِهِمْ وَتَطَاحُنِهِمْ: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الرُّومِ: 31-32]، وَأَخْبَرَنَا -سُبْحَانَهُ- عَنِ الْعَدَاوَةِ الْمُسْتَحْكِمَةِ، وَالصِّرَاعِ الْقَائِمِ بَيْنَ مِلَّتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) [الْبَقَرَةِ: 113]؛ بَيْدَ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ يُنْسَى وَيُتَنَاسَى إِذَا كَانَ الْخَصْمُ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي كِتَابِ رَبِّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [الْمَائِدَةِ: 51]، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [الْأَنْفَالِ: 73].
فَوَاجِبٌ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ بُغْضُ مِلَلِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَبْغَضَهُمْ وَعَادَاهُمْ، (وَاللَّهُ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [الْبَقَرَةِ: 98]، (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [النِّسَاءِ: 101].
الْوَقْفَةُ الثَّالِثَةُ: عِنْدَ قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا"، عِبَارَةٌ بَلِيغَةٌ، وَتَصْوِيرٌ دَقِيقٌ يَحْكِي وَاقِعَ هَذَا التَّدَاعِي، فَالْأَكَلَةُ جَمْعُ آكِلٍ، وَوَصْفُ الْجَمْعِ بِالْأَكَلَةِ كِنَايَةٌ عَنْ شَدَّةِ نَهَمِهِمْ وَشَرَاهَتِهِمْ، وَالْقَصْعَةُ هِيَ الْوِعَاءُ الَّذِي يُثْرَدُ فِيهِ الطَّعَامُ وَيُجْمَعُ. فَلَكَ أَنْ تَتَخَيَّلَ هُجُومَ هَذِهِ الْأَكَلَةِ عَلَى هَذَا الْوِعَاءِ، كُلٌّ يَنْهَشُ وَيُسَابِقُ لِحِصَّتِهِ وَغَنِيمَتِهِ! إِنَّهَا صُورَةٌ تُوحِي بِنَفْسِيَّةٍ عَفِنَةٍ انْطَوَتْ عَلَى شَرَاهَةٍ وَانْدِفَاعٍ شَدِيدٍ نَحْوَ الْقَصْعَةِ، إِنَّهَا صُورَةٌ مُصَغَّرَةٌ لِتَفَاهَةِ الْحَضَارَاتِ الْمَادِّيَّةِ، يَوْمَ تَتَنَاسَى إِنْسَانِيَّةَ الْإِنْسَانِ، وَتَتَعَامَلُ بِلُغَةِ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ.
صُورَةُ الْجَشَعِ الْبَغِيضِ الَّذِي تَعِيشُهُ دُوَلُ الْكُفْرِ الْبَاغِيَةُ، صُورَةٌ لِأَطْمَاعِهِمْ غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ فِي ثَرَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالتَّارِيخُ يُسَجِّلُ وَيَنْطِقُ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ، فَمَاذَا فَعَلَتْ دُوَلُ أُورُوبَّا النَّصْرَانِيَّةُ الْمُتَحَضِّرَةُ بِبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِبَّانَ الِاسْتِعْمَارِ الْهَمَجِيِّ لَهَا؟! قَتَلَتِ الْآلَافَ، وَشَرَّدَتِ الْمَلَايِينَ، خَرَّبَتِ الدِّيَارَ، وَأَفْسَدَتِ الْمُمْتَلَكَاتِ، وَقَسَّمُوا جَسَدَ الْأُمَّةِ إِلَى دُوَيْلَاتٍ نَهَبَتِ الدُّوَلُ النَّصْرَانِيَّةُ الصَّلِيبِيَّةُ مِنْ خَيْرَاتِهَا رَدْحًا مِنَ الزَّمَنِ.
الْوَقْفَةُ الرَّابِعَةُ: فِي التَّعْبِيرِ النَّبَوِيِّ بِالْقَصْعَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْبُعْدِ الِاقْتِصَادِيِّ الَّذِي تَخُوضُهُ الْأُمَمُ الْكَافِرَةُ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْهَدَفُ مِنْ هَذَا التَّدَاعِي إِذًا لَيْسَ اسْتِئْصَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا هَدَفُهُ الطَّمَعُ فِيمَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْرَاتٍ، وَالسَّيْطَرَةُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْخَيْرَاتُ مِنَ النِّفْطِ، أَوْ مِنَ الْمَعَادِنِ، أَوْ مِنَ الْمِيَاهِ الْإِقْلِيمِيَّةِ، أَوْ مِنْ مَمَرَّاتِ التِّجَارَةِ الْحَسَّاسَةِ.
هَذِهِ الْأُمَمُ الْمُتَدَاعِيَةُ الْمُتَحَالِفَةُ رُبَّمَا بَرَّرَتْ عَدَاءَهَا وَتَدَخُّلَهَا تَحْتَ شِعَارَاتٍ شَتَّى، فَرُبَّمَا تَدَاعَتْ تَحْتَ ذَرِيعَةِ مُحَارَبَةِ الْإِرْهَابِ، أَوِ الْبَحْثِ عَنْ أَسْلِحَةِ الدَّمَارِ، أَوْ نَشْرِ الْحُرِّيَّةِ وَفَرْضِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الذَّرَائِعِ، الَّتِي هِيَ لِذَرِّ الرَّمَادِ، وَإِخْفَاءِ الْمَطَامِعِ، وَتَحْقِيقِ الْمَصَالِحِ. هَذَا التَّدَاعِي وَتِلْكَ الْمُمَالَأَةُ هَدَفُهُ الطَّمَعُ أَوَّلًا، وَهَدَفُهُ إِضْعَافُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ثَانِيًا، وَإِضْعَافُهَا قَدْ يَكُونُ بِالتَّدَاعِي عَلَيْهَا أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا، عَسْكَرِيًّا، أَوِ اقْتِصَادِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ التَّدَاعِي فِكْرِيًّا؛ وَذَلِكَ بِإِنْشَاءِ مَعَاهِدَ وَمُؤَسَّسَاتٍ تَدْرُسُ الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَتَكْتُبُ التَّوْصِيَاتِ، وَتَرْسُمُ الْخُطَطَ، وَتَعْمَلُ لَيْلَ نَهَارَ، لِتَشْوِيهِ صُورَةِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّشْكِيكِ فِيهِ، وَبَثِّ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمُؤَسَّسَةُ "رَانْدْ" أَقْرَبُ شَاهِدٍ وَأَوْضَحُ مِثَالٍ!
الْوَقْفَةُ الْخَامِسَةُ: يَسْأَلُ سَائِلُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالِ الْبَئِيسَةِ الْمُشْفِقَةِ: أَوَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ"! فَالْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ لَيْسَتْ مِعْيَارًا مِنْ مَعَايِيرِ النَّصْرِ أَوِ الْهَزِيمَةِ (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) [الْبَقَرَةِ: 249]، وَنُصِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِبَدْرٍ وَهُمْ قِلَّةٌ، وَهُزِمُوا فِي حُنَيْنٍ لَمَّا أَعْجَبَتْهُمْ كَثْرَتُهُمْ، فَالْكَثْرَةُ بِلَا تَنَاصُرٍ وَلَا تَأْثِيرٍ أَصْفَارٌ لَا قِيمَةَ لَهَا.
وَهَا نَحْنُ نَرَى مِصْدَاقَ خَبَرِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَعَ أَنَّ أُمَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَكْثَرِ أُمَمِ الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ بَلَايَا الْعَصْرِ تُصَبُّ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ صَبًّا، وَالْحُرُوبُ تُسَعَّرُ ضِدَّهُمْ، فَمِنْ أَفْغَانِسْتَانَ، إِلَى الْعِرَاقِ، فَبُورْمَا، إِلَى سُورْيَا، ثُمَّ إِلَى مَالِي؛ وَلَا نَدْرِي عَلَى أَيِّ قَصْعَةٍ مِنْ جَسَدِ الْأُمَّةِ سَتَجْتَمِعُ الْأَكَلَةُ غَدًا؟
وَالْكَثْرَةُ الْكَاثِرَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَمَامَ هَذِهِ الْفَوَاجِعِ تُحَوْقِلُ وَتَتَوَجَّعُ، وَخَيْرُهُمْ مَنْ كَانَ لِلَّاجِئِينَ وَالْبَائِسِينَ هِلَالًا أَحْمَرَ.
الْوَقْفَةُ السَّادِسَةُ: فِي وَصْفِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَالَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ التَّدَاعِي بِغُثَاءِ السَّيْلِ، تَشْبِيهٌ بَدِيعٌ عَجِيبٌ! فَغُثَاءُ السَّيْلِ هُوَ مَا طَفَحَ عَلَى الْمَاءِ مِمَّا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَيُحَرِّكُهَا السَّيْلُ كَيْفَمَا سَارَ، وَهَكَذَا حَالُ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ تُحَرِّكُهَا سِيَاسَاتُ الْغَرْبِ، وَتَفْرِضُ عَلَيْهَا رُؤْيَتَهَا فِي الْحَيَاةِ.
غُثَاءُ السَّيْلِ يَحْمِلُ أَشْيَاءَ لَا قِيمَةَ لَهَا، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَالَمِ الْيَوْمِ عَدَدُهُمْ يَفُوقُ الْمِلْيَارَ، وَيُشَكِّلُونَ خُمْسَ الْعَالَمِ، وَلَكِنْ بِلَا قُوَّةٍ تُذْكَرُ، أَوْ تَأْثِيرٍ فِي صِنَاعَةِ الْقَرَارِ فِي عَالَمِ السِّيَاسَةِ!
غُثَاءُ السَّيْلِ لَيْسَتْ نِهَايَتُهُ قِمَمَ الْجِبَالِ، وَإِنَّمَا يَنْتَهِي فِي حُفْرَةٍ سَحِيقَةٍ يُدْفَنُ فِيهَا وَيَتَجَاوَزُهُ السَّيْلُ، وَكَذَلِكَ أَعْدَاءُ الْمِلَّةِ؛ كَمْ تَمَنَّوْا لَوْ دَفَنُوا هَذَا الدِّينَ، وَجَعَلُوهُ مِنْ ذِكْرَيَاتِ الْمَاضِي.
الْوَقْفَةُ السَّابِعَةُ: عِنْدَ قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ". وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَاجِلَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنَّهَا فِي زَمَنِ التَّفَرُّقِ وَالْغُثَائِيَّةِ لَا يُهَابُونَ وَلَا يُعْبَأُ بِهِمْ، فَفَقَدُوا بِذَلِكَ سِلَاحًا عَظِيمًا طَالَمَا نُصِرُوا بِهِ، وَهُوَ سِلَاحُ الْهَيْبَةِ وَالرُّعْبِ.
لَقَدْ كَانَتْ يَهُودُ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ يَخَافُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَشَدَّ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- ذَامًّا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) [الْحَشْرِ: 13]، فَكَانَ هَذَا السِّلَاحُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ هَزِيمَةِ الْيَهُودِ عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَوَاتٍ عِدَّةٍ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) [الْحَشْرِ: 2].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَوَقْفَةٌ ثَامِنَةٌ: مَا سَبَبُ هَذَا الضَّعْفِ، مَا مَصْدَرُ هَذَا الْهَوَانِ؟ وَيَأْتِي الْجَوَابُ فِي عِبَارَاتٍ وَاضِحَاتٍ، وَكَلِمَاتٍ مُخْتَصَرَاتٍ، لَا تَعْقِيدَ فِي بَيَانِ الْعِلَاجِ، وَلَا فَلْسَفَةَ فِي تَشْخِيصِ الدَّاءِ؛ السَّبَبُ هُوَ الْوَهَنُ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِحُبِّ الدُّنْيَا السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ، وَالْعَمَلَ فِيهَا وَالتَّكَسُّبَ، كَلَّا، فَهَذَا مِمَّا حَضَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، وَحُبُّ الْمَالِ وَالْوَلَدِ غَرِيزَةٌ فِطْرِيَّةٌ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالذَّمِّ هُوَ حُبُّ الدُّنْيَا الطَّاغِي الَّذِي يُلْهِي الْعَبْدَ عَنْ دِينِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْعَمَلِ لِآخِرَتِهِ؛ أَنْ تَتَحَوَّلَ هَذِهِ الدُّنْيَا فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا إِلَى غَايَةٍ لَا يَهْتَمُّ بَعْدَهَا إِلَّا بِدُنْيَاهُ، فَيَغْضَبُ وَيَكْرَهُ لِأَجْلِهَا، وَيُعَادِي وَيُوَالِي بِسَبَبِهَا، وَتَغُورُ فِي قَلْبِهِ الْغَيْرَةُ عَلَى الدِّينِ، وَتُقْبَضُ يَدَاهُ عَنْ نُصْرَةِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَتَمُوتُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ رُوحُ الْمُقَاوَمَةِ عَلَى الْمُعْتَدِينَ.
هَذَا الرِّضَا بِالدُّنْيَا هُوَ غَفْلَةٌ وَبُعْدٌ عَنِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَهُوَ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ فِي آيَاتٍ عِدَّةٍ: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ) [التَّوْبَةِ: 38]، (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) [يُونُسَ: 8].
لِنَنْظُرْ -يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ- إِلَى الْمَعَاصِي الَّتِي طَفَحَتْ فِي الْأُمَّةِ، سَنَجِدُ أَنَّ سَبَبَهَا حُبُّ الدُّنْيَا، وَالتَّعَلُّقُ بِهَا، فَهَلْ أُكِلَ الْحَرَامُ وَالرِّبَا وَمُنِعَتِ الزَّكَاةُ إِلَّا بِسَبَبِ حُبِّ الدُّنْيَا؟ وَهَلْ ظَهَرَ الظُّلْمُ وَالْبَغْيُ عَلَى الْعِبَادِ إِلَّا بِسَبَبِ حُبِّ الدُّنْيَا؟ وَهَلْ بِيعَ الدِّينُ وَضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ إِلَّا بِسَبَبِ اللَّهْثِ وَرَاءَ الدُّنْيَا؟! وَهَلْ قُطِّعَتِ الْأَرْحَامُ، وَحَصَلَ التَّبَاغُضُ وَالتَّهَاجُرُ وَالتَّدَابُرُ إِلَّا بِسَبَبِ حُبِّ الدُّنْيَا وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْمَوْتِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ؟
وَإِذَا الْتَهَى الْعَبْدُ بِدُنْيَاهُ وَغَفَلَ عَنْ بَذْرِ الْحَصَادِ لِيَوْمِ التَّنَادِ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، لَا لِذَاتِ الْمَوْتِ، فَالْكُلُّ يَكْرَهُ الْمَوْتَ كَمَا قَالَتْ أُمُّنَا عَائِشَةُ، وَإِنَّمَا كَرَاهِيَةُ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَيَدْخُلُ فِي كَرَاهِيَةِ الْمَوْتِ -أَيْضًا- كَرَاهِيَةُ التَّضْحِيَةِ وَبَذْلِ الْأَرْوَاحِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَأَخِيرًا -يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ- سَيُوجَدُ هَذَا الْغُثَاءُ فِي الْأُمَّةِ وَسَيَعْلُو ظَلَامُهُ، وَتَشْتَدُّ عَتَمَتُهُ، وَلَكِنْ سَيُضِيءُ النُّورُ مِنْ بَيْنِ هَذَا الْغُثَاءِ، فِي رِجَالٍ نُزِعَ مِنْ قُلُوبِهِمْ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ، سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ -وَإِنْ حَلَّتِ الْغُثَائِيَّةُ- أُمَّةٌ بِالْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ خِذْلَانُ الْمُخَذِّلِينَ، وَلَا تَآمُرُ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا قَالَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
سَيَبْقَى الْحَقُّ ظَاهِرًا وَإِنْ حَلَّتِ الْغُثَائِيَّةُ، وَسَتَبْقَى التَّضْحِيَةُ وَالْفِدَائِيَّةُ وَإِنْ عَمَّتِ الْمَذَلَّةُ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
فَكُونُوا، يَا أَهْلَ الْخَيْرِ يَا أَحْبَابَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَا أَتْبَاعَ الصَّحَابَةِ، كُونُوا مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، بِنُصْرَةِ الدِّينِ، وَالدِّفَاعِ عَنْ مُقَدَّسَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَنُصْرَةِ قَضَايَاهُمْ، كُلٌّ بِحَسَبِهِ، بِمَالِهِ وَجَاهِهِ، وَقَلَمِهِ وَبَيَانِهِ، وَدَعْوَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ.
كُونُوا كَذَلِكَ يَبْقَى أَثَرُكُمْ، وَتُرْفَعُ دَرَجَاتُكُمْ، وَتُكَفَّرَ سَيِّئَاتُكُمْ، وَتُدْرِكُوا مَرْضَاةَ رَبِّكُمْ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...