الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - الأعياد الممنوعة |
الْأَعْيَادُ مِنْ أَعْظَمِ الشَّرَائِعِ فِي الْأَدْيَانِ؛ لِظُهُورِهَا وَإِعْلَانِهَا، وَكَثْرَةِ الْجَمْعِ فِيهَا، وَتَعَدُّدِ رُسُومِهَا وَشَعَائِرِهَا، وَالْعِيدُ يَحْضُرُهُ وَيُشَارِكُ فِيهِ مَنْ لَا يَحْضُرُ الشَّعَائِرَ الْأُخْرَى؛ وَلِذَا كَانَتِ الْأَعْيَادُ فِي الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ الْعِبَادَاتِ جَمْعًا، وَأَظْهَرَهَا شَعِيرَةً. وَكَانَتِ الْأَعْيَادُ عِنْدَ سَائِرِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ هِيَ الْأَكْثَرَ جَمْعًا وَرُسُومًا.
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاءِ:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: اصْطَفَى اللَّهُ تَعَالَى أُمَّةَ الْإِسْلَامِ فَجَعَلَهَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَامْتَنَّ عَلَيْهَا بِبِعْثَةِ خَيْرِ الْأَنَامِ، وَاخْتَصَّهَا بِأَحْسَنِ كِتَابٍ، وَخَتَمَ بِشَرِيعَتِهَا وَدِينِهَا كُلَّ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَجَعَلَهُ ظَاهِرًا عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. وَحِينَ أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُبَارَكَةَ بِكُلِّ هَذَا التَّكْرِيمِ، وَوَعَدَهَا بِالتَّمْكِينِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مُتَمَيِّزَةً عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ بِمَا تَمْلِكُهُ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهَا، وَفَرَضَ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ فَخُورَةً بِدِينِهَا، عَزِيزَةً بِكِتَابِهَا، مُتَمَسِّكَةً بِشَرِيعَتِهَا، دَاعِيَةً غَيْرَهَا إِلَيْهَا؛ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) [الْبَقَرَةِ: 138] (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فُصِّلَتْ: 33].
وَالْأَعْيَادُ مِنْ أَعْظَمِ الشَّرَائِعِ فِي الْأَدْيَانِ؛ لِظُهُورِهَا وَإِعْلَانِهَا، وَكَثْرَةِ الْجَمْعِ فِيهَا، وَتَعَدُّدِ رُسُومِهَا وَشَعَائِرِهَا، وَالْعِيدُ يَحْضُرُهُ وَيُشَارِكُ فِيهِ مَنْ لَا يَحْضُرُ الشَّعَائِرَ الْأُخْرَى؛ وَلِذَا كَانَتِ الْأَعْيَادُ فِي الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ الْعِبَادَاتِ جَمْعًا، وَأَظْهَرَهَا شَعِيرَةً. وَكَانَتِ الْأَعْيَادُ عِنْدَ سَائِرِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ هِيَ الْأَكْثَرَ جَمْعًا وَرُسُومًا.
وَلِأَنَّ أُمَّةَ الْإِسْلَامِ امْتَازَتْ عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ بِكَوْنِ دِينِهَا حَقًّا، وَكِتَابِهَا صِدْقًا، وَبِكَوْنِهَا خَيْرَ الْأُمَمِ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا تَمْتَلِكُهُ مِنْ كِتَابِ الصِّدْقِ، وَمَا تَدِينُ بِهِ مِنْ دِينِ الْحَقِّ؛ كَانَ لَا بُدَّ أَنْ تَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهَا فِي شَعَائِرِ دِينِهَا، وَأَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِأَعْيَادِهَا، وَلَا تَأْبَهُ بِأَعْيَادِ غَيْرِهَا وَلَوْ غَطَّى الِاحْتِفَالُ بِهَا الْأَرْضَ بِأَكْمَلِهَا؛ لِعِلْمِهَا أَنَّهَا مِنَ الْبَاطِلِ وَالزُّورِ الَّذِي يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، وَيَحْرُمُ حُضُورُهُ (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الْفُرْقَانِ: 72] وَفِي أَعْيَادِ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ الْكِتَابِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ اللَّغْوِ وَالزُّورِ.
إِنَّ أَعْيَادَ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ بَايَنَتْ أَعْيَادَ غَيْرِهَا، وَتَمَيَّزَتْ عَلَيْهَا بِمِيزَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا:
أَنَّهَا أَعْيَادٌ يُؤْجَرُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا؛ فَالِاجْتِمَاعُ فِيهَا وَالْفَرَحُ بِهَا وَطَعَامُهَا عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى إِظْهَارِ شَعِيرَةِ الْعِيدِ، وَالْوَسِيلَةُ إِلَى الطَّاعَةِ طَاعَةٌ. وَهِيَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الْأَعْلَى: 14- 15] جَاءَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ التَّزْكِيَةَ هُنَا هِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَالصَّلَاةَ صَلَاةُ الْعِيدِ عَقِبَهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الْكَوْثَرِ: 2] ذَكَرَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهَا صَلَاةُ عِيدِ الْأَضْحَى وَالذَّبْحُ بَعْدَهَا.
فَهُمَا عِيدَانِ عَظِيمَانِ مَأْمُورٌ بِهِمَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِخِلَافِ أَعْيَادِ غَيْرِهِمُ الَّتِي هِيَ مِنْ نِتَاجِ شَرَائِعَ مُخْتَرَعَةٍ أَوْ مُحَرَّفَةٍ أَوْ مَنْسُوخَةٍ، فَلَا أَجْرَ لِلْمُحْتَفِلِينَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَزِيدُهُمْ مِنْهُ إِلَّا بُعْدًا وَسُخْطًا.
وَأَكْبَرُ عِيدَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ -وَهُمَا عِيدُ الْكِرِيسْمِسْ وَعِيدُ رَأْسِ السَّنَةِ- هُمَا عِيدَانِ وَثَنِيَّانِ اسْتَجْلَبَهُمَا رُهْبَانُ النَّصَارَى مِنْ وَثَنِيَّةِ الْيُونَانِ وَالرُّومَانِ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الدِّرَاسَاتِ الْغَرْبِيَّةِ.
وَيَحُفُّ بِأَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ شَعَائِرُ كَثِيرَةٌ يُعَظَّمُ فِيهَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ، وَيُذْكَرُ وَيُشْكَرُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ؛ فَيَسْبِقُ عِيدَ الْفِطْرِ شَهْرُ الْقُرْآنِ، وَصَوْمُهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَيَتَخَلَّلُ عِيدَ الْأَضْحَى حَجُّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ خَامِسُ الْأَرْكَانِ.
وَأَمَّا أَعْيَادُ الْأُمَمِ الْأُخْرَى فَمَا يَحُفُّ بِهَا مِنْ شَعَائِرَ وَعِبَادَاتٍ فَهِيَ مِمَّا اخْتَرَعَهُ سَدَنَةُ مَعَابِدِهِمْ، أَوْ حَرَّفَتْهُ أَيَادِي رُهْبَانِهِمْ، كَشَعَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، يُضْنُونَ أَبْدَانَهُمْ فِيهَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي بَاطِلِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.
وَتَمْتَازُ أَعْيَادُ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّآلُفِ وَالتَّقَارُبِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَعَائِرِهَا الْبَذْلَ فِيهَا وَالْإِحْسَانَ إِلَى النَّاسِ؛ فَفِي عِيدِ رَمَضَانَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِإِشْبَاعِ الْجَوْعَى، وَإِعْفَافِ الْمُحْتَاجِينَ، وَفِي عِيدِ الْحَجِّ التَّصَدُّقُ وَالْإِهْدَاءُ مِنَ الْهَدْيِ وَالْأَضَاحِيِّ، عِلَاوَةً عَلَى مَا فِي الْعِيدِ الشَّرْعِيِّ مِنْ تَصَافِي الْقُلُوبِ، وَبَشَاشَةِ الْوُجُوهِ، وَتَصَافُحِ الْأَيْدِي، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَوَصْلِ الْأَرْحَامِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ. فَهِيَ أَعْيَادٌ تُكَرِّسُ مَعْنَى التَّلَاحُمِ وَالتَّرَابُطِ فِي جَوٍّ مُفْعَمٍ بِالْإِيمَانِ وَالْخُشُوعِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ، فَكَانَتْ أَعْيَادُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ رَحْمَتِهِ الَّتِي يَفْرَحُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، ذَلِكُمُ الْفَرَحَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يُونُسَ: 58].
وَأَمَّا أَعْيَادُ غَيْرِهِمْ -وَلَا سِيَّمَا الْأُمَّةُ الْكِتَابِيَّةُ الضَّالَّةُ- فَمَبْنَى أَعْيَادِهَا عَلَى الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ الْمُجَرَّدِ مِنْ أَيِّ شُعُورٍ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، أَوِ التَّرَابُطِ وَالتَّوَاصُلِ الَّذِي إِنْ وَقَعَ فَيَأْخُذُ شَكْلَ الْمُجَامَلَةِ وَالرَّسْمِيَّةِ فِي بِطَاقَةِ عِيدٍ تُهْدَى لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ عِوَضًا عَنْ رُؤْيَتِهِمَا فِي الْعِيدِ، وَالْأُنْسِ بِهِمَا، وَتَلَمُّسِ بِرِّهِمَا.
وَأَعْيَادُ الْمُسْلِمِينَ أَعْيَادُ شُكْرٍ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى فَرَائِضَ أَدَّوْهَا، وَأَوَامِرَ امْتَثَلُوهَا، وَطَاعَاتٍ تَنَافَسُوا فِيهَا، وَتَسَابَقُوا عَلَيْهَا؛ وَلِذَا كَانَتْ شَعَائِرُ الْعِيدِ يَقْتَرِنُ فِيهَا الْفَرَحُ بِالذِّكْرِ وَالشُّكْرِ؛ فَفِي عِيدِ الْفِطْرِ: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الْبَقَرَةِ: 185] وَفِي عِيدِ الْأَضْحَى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [الْبَقَرَةِ: 203].
أَمَّا أَعْيَادُ غَيْرِهِمْ -وَلَا سِيَّمَا الْأُمَّةُ الْكِتَابِيَّةُ- فَهِيَ أَعْيَادٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، مَمْلُوءَةٌ بِمَا يُغْضِبُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَنْوَاعِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالتَّحَلُّلِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ؛ وَلِذَا يَجْتَهِدُ فَسَقَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ إِلَيْهَا وَحُضُورِهَا فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي تَحْتَفِلُ بِهَا؛ لِتَحْصِيلِ لَذَّاتِهَا الْمُحَرَّمَةِ؛ لِأَنَّهَا أَعْيَادُ مَلَذَّاتٍ وَشَهَوَاتٍ حَيَوَانِيَّةٍ، وَلَيْسَتْ أَعْيَادَ شُكْرٍ لِلَّهِ تَعَالَى.
فَلْيَحْذَرْ كُلُّ مُسْلِمٍ أَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَ الضَّالِّينَ فِي أَعْيَادِهِمْ؛ فَإِنَّ أَعْيَادَهُمْ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ وَشَعَائِرِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدُوا ذَلِكَ.
وَكَيْفَ لِمُؤْمِنٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَ الْأُمَّةِ الضَّالَّةِ فِي أَعْيَادِهَا وَهُوَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ يُصَلِّي يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُجَنِّبَهُ طَرِيقَهَا، وَيُؤَمِّنُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى دُعَائِهِ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الْفَاتِحَةِ: 6- 7].
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُرْضِيهِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا مَا يُسْخِطُهُ، وَأَنْ يَهْدِيَ ضَالَّ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الْبَقَرَةِ:281].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْأَعْيَادُ عِنْدَ كُلِّ الْأُمَمِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ اجْتِمَاعٍ وَفَرَحٍ، وَإِنَّمَا هِيَ دِينٌ وَتَعْظِيمٌ لِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ أَشْخَاصٍ، يُعَبَّرُ عَنْ هَذَا التَّعْظِيمِ وَالْمَحَبَّةِ بِشَعَائِرِ الْعِيدِ. فَكَانَ عِيدُ كُلِّ أَهْلِ مِلَّةٍ عِبَادَةً مِنْ عِبَادَاتِهِمْ كَصَلَاتِهِمْ وَصَوْمِهِمْ وَحَجِّهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدُوا بِهِ التَّعَبُّدَ؛ لِأَنَّ الْعِيدَ لَمَّا كَانَ تَعْظِيمًا لِمُنَاسَبَتِهِ كَانَ عِبَادَةً تَخُصُّ أَهْلَهُ. وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ تَمَيَّزُوا بِدِينِهِمْ عَنْ دِينِ غَيْرِهِمْ (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الْكَافِرُونَ: 6] وَمُخْتَصُّونَ بِأَعْيَادِهِمْ عَنْ أَعْيَادِ غَيْرِهِمْ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَتَخْصِيصُ كُلِّ أُمَّةٍ بِأَعْيَادِهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مُشَارَكَتِهِمْ فِيهَا، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ. وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ. وَأَعْيَادُهُمْ مِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمْ وَشَعَائِرِهِمْ، فَمَنْ شَارَكَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَإِنَّمَا يُشَارِكُهُمْ فِي شَعَائِرِ دِينِهِمْ، وَمَنْ فَرِحَ بِهَا فَإِنَّمَا يَفْرَحُ بِشَعَائِرِ الْكُفْرِ، وَمَنْ هَنَّأَهُمْ بِهَا فَكَأَنَّمَا يُهَنِّئُهُمْ بِكُفْرِهِمْ، وَكَلِمَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى ذَلِكَ.
إِنَّ مِنَ الْإِرْهَابِ الْفِكْرِيِّ أَنْ تُجْعَلَ شَعَائِرُ الْأُمَّةِ الضَّالَّةِ شَعَائِرَ لِكُلِّ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَمِنَ الْإِرْهَابِ اللِّيبْرَالِيِّ انْتِقَادُهُمُ الْعُلَمَاءَ الْمُحَرِّمِينَ لِأَعْيَادِ الْكُفَّارِ، الْمُحَذِّرِينَ مِنْهَا، وَادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهَا مُنَاسَبَاتٌ لِلتَّسَامُحِ وَالْوُدِّ وَالصَّفَاءِ بَيْنَ الْبَشَرِيَّةِ، وَهِيَ أَعْيَادٌ تُقَامُ عَلَى جُثَثِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي حَلَبَ وَسَائِرِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ وَالْأَهْوَازِ وَبُورْمَا وَتِرْكِسْتَانَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي يُؤْذَى فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَيُقَتَّلُونَ وَيُهَجَّرُونَ بِإِشْرَافٍ غَرْبِيٍّ صَلِيبِيٍّ، وَتَنْفِيذٍ مَجُوسِيٍّ صَفَوِيٍّ وَبُوذِيٍّ وَثَنِيٍّ.
إِنَّهَا أَعْيَادُهُمُ الشِّرْكِيَّةُ الْوَثَنِيَّةُ الَّتِي يُقِيمُونَهَا عَلَى أَشْلَاءِ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي اسْتَبَاحُوهَا فَمَزَّقُوهَا، وَاغْتَالُوا عَفَافَ نِسَائِهَا، وَأَمْنَ رِجَالِهَا، وَبَرَاءَةَ أَطْفَالِهَا؛ لِتَحْقِيقِ مَصَالِحَ خَاصَّةٍ، وَرَسْمِ سِيَاسَاتٍ جَدِيدَةٍ لِتَدْمِيرِ الدُّوَلِ، وَنَشْرِ الْفَوْضَى فِيهَا، وَمِنْ ثَمَّ إِعَادَةُ تَقْسِيمِهَا وَاسْتِعْمَارُهَا، وَفَرْضُ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ عَلَى كِرَامِ رِجَالِهَا.
فَمَا لِلْمُؤْمِنِ وَلِأَعْيَادِهِمُ الَّتِي أُسِّسَتْ عَلَى الشِّرْكِ، وَعَجَّتْ بِالْفُجُورِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ؟! (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الْأَنْعَامِ: 162- 163].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ....