القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
وإذا قارنت بين هدى النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك وبين ما عليه غالب الناس اليوم من امتهان للنعمة وإسراف في عمل الأطعمة وإهداره تبين لك الفرق العظيم، وخِفْت على الناس من العقوبة العاجلة، فترى كثيراً من الناس في حفلات الزواج وغيرها يضعون الولائم الكبيرة من الأطعمة واللحوم، ثم لا يؤكل منها إلا القليل، وأكثرها يهدر
الحمد لله رب العالمين، وعد الشاكرين لنعمه المزيد، وتوعد من كفر بها بالعذاب الشديد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أعظم الخلق شكراً لله وطاعة له. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله.
عباد الله: بين أيديكم نعم كثيرة، أنتم محاسبون عليها ومسؤولون عن شكرها؛ فأحسنوا التصرف فيها تكون عوناً لكم على طاعة الله، ولا تسيؤوا في استعمالها تكن استدراجاً لكم من حيث لا تعلمون فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخشى على أمته الفقر إنما يخشى عليها من الغنى؛ أن تبسط عليها الدنيا كما بسطت على من كان قبلها من الأمم فيحصل التنافس والهلاك؛ ونخشى أن نكون اليوم قد وقعنا فيما تخوفه الرسول -صلى الله عليه وسلم- علينا فقد بسطت علينا نعم الله كثيرة وأساء الكثير منا استعمالها وتفاخروا في الإسراف فيها وإنفاقها في غير وجوهها.
قد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على احترام الطعام وتوقير النعمة وعدم إهدارها فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعيب طعاماً قط بل إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وعن أنس رضي الله عنه قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتمرة في الطريق فقال: "لو لا إني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها" متفق عليه.
فقد بين -صلى الله عليه وسلم- أنه لو لا المانع لأكل هذه التمرة ولم يتركها تذهب وتفسد. وهذا مما يدل على اهتمامه -صلى الله عليه وسلم- بشأن النعمة وحفظها من الإهدار.
وعن أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها- أنها وجدت تمرة فأكلتها وقالت: "إن الله لا يحب الفساد"، وقد روى ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي النبي -صلى الله عليه وسلم- البيت فرأى كسرة ملقاة فأخذها فمسحها ثم أكلها وقال: "يا عائشة أحسني جوار نعم الله فإنها ما نفرت من قوم فعادت إليهم"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان" رواه مسلم. وأمر -صلى الله عليه وسلم- بلعق الأصابع والصحفة وقال: "إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة" رواه مسلم.
كل هذا من حفظ النعمة وتوقيرها وتوفيرها عن الضياع وابتعاداً عن التكبر. وإذا قارنت بين هدى النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك وبين ما عليه غالب الناس اليوم من امتهان للنعمة وإسراف في عمل الأطعمة وإهداره تبين لك الفرق العظيم، وخِفْت على الناس من العقوبة العاجلة، فترى كثيراً من الناس في حفلات الزواج وغيرها يضعون الولائم الكبيرة من الأطعمة واللحوم، ثم لا يؤكل منها إلا القليل، وأكثرها يهدر ويلقى في المزابل وينتج عن ذلك مفسدتان عظيمتان:
الأولى: مفسدة الإسراف وإفساد المال –وقد قال الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:31] وقال تعالى: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) [الإسراء:27]
والمفسدة الثانية: أن في هذه الولائم إهانة النعمة وإلقاءها مع القاذورات، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد إلى رفع كسرة الخبز وأخذ التمرة من الطريق وأمر بأخذ اللقمة إذا سقطت وإزالة ما عليها من الأذى ثم أكلها، وأمر بلعق الأصابع ولعق الصحفة؛ لئلا يضيع شيء من نعم الله أو يمتهن؛ فكيف بالذي يهدر الأكوام من الطعام واللحوم وقد يلقيها مع الزبالة! إنها لجريمة عظيمة ومنكر ظاهر تخشى عواقبه الوخيمة. ثم هذه الذبائح الكثيرة التي تذبح في هذه الولائم من أجل الأكل؛ لأن ذابحها يعلم أنها لن تؤكل، وإنما يذبحها للرياء والسمعة والتفاخر وهي جريمة أخرى تذهب فيها الحيوانات هدراً، والحيوان المباح لا يجوز ذبحه إلا للحاجة لأكله؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: "ما من إنسان يقتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عنها": قال: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: "يذبحها ويأكلها ولا يقطع رأسها ويطرحها" رواه الشافعي وأبو داود والحاكم، وفي حديث آخر: "من قتل عصفوراً عبثاً عج إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب إن فلاناً قتلني عبثاً ولم يقتلني منفعة" رواه الشافعي وأحمد والنسائي.
فليتق الله هؤلاء الذي يأتون القطعان من الأغنام، ويذبحونها في الولائم، ثم يلقون لحومها تذهب هدراً وربما ترمى في الزبالة مع القاذورات والأنجاس؛ ألم تكونوا في الأمس القريب فقراء عالة لا تجدون في بيوتكم إلا القوت الضروري أو لا تجدون شيئاً؟!
أأمنتم زوال النعم؟! ألم تعلموا ما حل بالبلاد المجاورة لكم من الحروب والمجاعات ألا ترونهم يأتون إلى بلادكم طلباً للقمة العيش؟!
وما ذكرناه من الإسراف في الطعام إلى جانبه أنواع أخرى من الإسراف في الملابس والمراكب والمساكن؛ فقد أغرق كثير من الناس في الترف بحيث لا يلبس إلا جديداً ولا يركب إلا سيارة فخمة، ولا يسكن إلا قصراً مشيداً فيه كل وسائل الراحة.
لقد كان السلف الصالح يتخوفون من بسط النعم والتلذذ بها أن تكون حسناتهم عجلت لهم، فقالوا: من أذهب طيباته في حياته الدنيا واستمتع بها نقصت درجاته في الآخرة، ويخشون عليه أن يكون من الذين قال الله تعالى فيهم: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) [الأحقاف:20] لأن من تعود الشهوات المباحة مالت نفسه إلى الدنيا، وكلما أجاب نفسه إلى واحدة من الملاذ دعته إلى غيرها فيصعب عليه ردها وربما تدعوه إلى الشهوات المحرمة.
فاتقوا الله -عباد الله-، واسمعوا قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.