الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | محمد بن مبارك الشرافي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إِنَّ كَثِيرَاً مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ قَدْ تَمَادَوْا فِي الْمَعَاصِي وَأَسْرَفُوا، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ، وَلا يُفَكِّرُونَ فِي التَّوْبَةِ، إِمَّا أَنَّهُمْ قَدْ أَمِنُوا الْعِقَابَ وَظَنُّوا أَنَّ اللهَ غَافِلٌ عَنْهُمْ، أَوْ أَنَّهُمْ قَدْ أَيِسُوا مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لِكَثْرَةِ مَعَاصِيهِمْ لا يَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ، وَكُلُّ هَذَا خَطَأٌ، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُمْهِلُ وَلَكِنَّهُ لا يُهْمِلُ، ثُمَّ هُوَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ مَهْمَا عَظُمَتْ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الرَّحِيمِ التَّوَاب، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَاب، ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً كَثِيرَاً.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ فِي دَارِ مَمَرٍّ وَلَيْسَتْ دَارَ مَقَرٍّ، وَأَنَّ الْحَيَاةَ زَائِلَةٌ وَأَنَّ الآخِرَةَ بَاقِيَةٌ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16- 17].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقوُلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) [الحجر: 49- 50] وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 98]، فَفِي هَذِهِ الآيَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- ذُو مَغْفِرَةٍ عَظِيمَةٍ وَاسِعَةٍ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ فَهُوَ -عَزَّ وَجَلَّ- ذُو بَطْشٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ كَثِيرَاً مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ قَدْ تَمَادَوْا فِي الْمَعَاصِي وَأَسْرَفُوا، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ، وَلا يُفَكِّرُونَ فِي التَّوْبَةِ، إِمَّا أَنَّهُمْ قَدْ أَمِنُوا الْعِقَابَ وَظَنُّوا أَنَّ اللهَ غَافِلٌ عَنْهُمْ، أَوْ أَنَّهُمْ قَدْ أَيِسُوا مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لِكَثْرَةِ مَعَاصِيهِمْ لا يَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ، وَكُلُّ هَذَا خَطَأٌ، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُمْهِلُ وَلَكِنَّهُ لا يُهْمِلُ، ثُمَّ هُوَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ مَهْمَا عَظُمَتْ، يَقُولُ سُبْحَانَه (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53]، وَقاَل َسُبْحَانَهُ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف: 156]، فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يَقْنَطُ الْإِنْسَانُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؟!
عَنْ أَبي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- "يقولُ اللَّهُ -عزَّ وجَلَّ-: مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ، فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِها أَوْ أَزِيدُ، ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ. وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْراً، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعاً، ومنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذرَاعاً، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً، وَمَنْ أَتاني يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْولَةً، وَمَنْ لَقِيَني بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئاً، لَقِيتُهُ بمثْلِها مغْفِرَةً" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ رسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بِسَبْي، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي تَسْعَى، إِذْ وَجَدتْ صَبياً في السبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْزَقَتْهُ بِبَطْنِها فَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- "أَتُرَوْنَ هَذِهِ المَرْأَةَ طارِحَةً وَلَدَهَا في النَّارِ؟" قُلْنَا: لاَ وَاللَّهِ. فَقَالَ: "للَّهُ أَرْحمُ بِعِبادِهِ مِنْ هَذِهِ بِولَدِهَا" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ خَالِدٍ بنِ زيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَوْلا أَنَّكُمْ تُذنبُونَ، لخَلَقَ اللَّهُ خَلقاً يُذنِبونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَلَكِنْ لَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنْ نَتَمَادَى فِي الْمَعَاصِي، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّكَ لا تَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، فَمِنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ الْخَطَأُ، فَلا عَلَيْكَ مَهْمَا عَظُمَ ذَنْبُكَ فَرَبُّكَ غَفَورٌ رَحِيمٌ.
وَتَأَمَّلُوا هَذَا الْحَدِيثِ الذِي يَحْمِلُ بِشَارَةً لِكُلِّ مَنْ مَاتَ مُسْلِماً، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَا مِنْ رَجُلٍ مُسلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنازتِه أَرَبَعُونَ رَجُلاً لاَ يُشرِكُونَ بِاللَّهِ شَيئاً إِلاَّ شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلُطْفِهِ بِالْمُؤْمِنِ: أَنَّهُ لا يَفْضَحُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذُنُوبِهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتُرُهَا عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ كَمَا سَتَرَهَا فِي الدُّنْيَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- يَقُولُ: "يُدْنَى المُؤْمِنُ يَومَ القِيَامَةِ مِنُ رَبِّهِ حتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيهِ، فَيُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِه، فيقولُ: أَتَعرفُ ذنبَ كَذا؟ أَتَعرفُ ذَنبَ كَذَا؟ فيقول: رَبِّ أَعْرِفُ، قَالَ: فَإِنِّي قَد سَتَرتُهَا عَلَيكَ في الدُّنيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَومَ، فَيُعطَى صَحِيفَةَ حسَنَاتِهِ" (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).
فَلا تَقْنَطْ أَيُّهَا الْعَاصِي فَرَبُّكَ يُحِبُّ تَوْبَتَكَ وَيُرِيدُ عَوْدَتَكَ، عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيلِ لَيَتُوبَ مُسيِءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدهُ بِالنَّهارِ ليَتُوبَ مُسيءُ اللَّيلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشمسُ مِنْ مَغْرِبَها" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَحْمِلُ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي مَعْرِفَةَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَاللهُ –سُبْحَانَهُ- قَدْ تَعَرَّفَ لِعِبَادِهِ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [يونس: 3].
وَيَقُول: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255].
وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [سورة الصمد: 1- 4]، وَجَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَاؤُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فَقَالُوا لَهُ: انْسِبْ لَنَا رَبَّكَ فَأَنْزَلَ اللهُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
فَمَنْ عَرَفَ اللهَ خَافَ مِنْهُ وَمَنْ خَافَ مِنْهُ رَجَعَ إِلَيْهِ، (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50 - 51].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِمَّا يَحْمِلُ عَلَى التَّوْبَةِ تَذَكُّرُ الْمَوْتِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ ذِكْرُهُ كَثِيرَاً فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بِتَذَكُّرِهِ، وَأَمَرَ بِزِيَارَةِ الْقُبوُرِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، قَالَ اللهُ تَعالَى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185]، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ" (رَوَاهُ التٍّرْمِذِيُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَعَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: "نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، زَادَ التِّرْمِذِيُّ "فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ"، أَقُولُ قَولِي هَذَا وأَسْتِغْفِرُ الله العَظِيمَ لي ولكُم فاستغْفِرُوهُ إِنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمَينَ، وَأَشْهَدُ أَلا إِلَهَ إِلا اللهُ وَلِيُّ الصَّالحِينَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأَمِينِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ واَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُمْهِلُ وَلَكِنَّهُ لا يُهْمِلُ، وَإِذَا أَخَذَ انْتَقَمَ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِمَّا يَحْمِلُ عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ الْخَوْفَ مِنَ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ عَاشَ عَلَى شَيْءٍ مَاتَ عَلَيْهِ، فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفَ فِي التَّوْبَةِ، فَلا تَدْرِي مَتَى تَمُوتُ.
فَهَذَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ الْعَالِمُ الْقُدْوَةُ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: "حَضَرْتُ رَجُلاً عِنْدَ الْمَوْتِ يُلَقَّنُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالُ فِي آخِرِ مَا قَالَ: هُوُ كَافِرٌ بِمَا تَقُولُ. وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ مُدْمِنَ خَمْرٍ".
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَ وَفَاةَ أَحَدِ الشَّحَاذِّينَ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ: قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: فِلْسٌ للهِ.. فِلْسٌ للهِ، حَتَّى خَتَمَ بِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ".
وَهَذَا رَجُلٌ عُرِفَ بِحُبِّهِ لِلْأَغَانِي وَتَرْدِيدِهَا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قِيلَ لَهُ: قُلْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَجَعَلَ يَهْذِي بِالْغِنَاءِ وَيُدَنْدِنُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
وَجِيءِ بِرَجُلٍ فِي الْخَمْسِينَ مِنْ عُمُرِهِ إِلَى الْإِسْعَافِ وَهُوَ فِي حَالَةِ احْتِضَارٍ وَكَانَ مَعَهُ وَلَدٌ لَهُ يُلَقِّنُهُ الشَّهَادَةَ، وَالأَبُ لا يُجِيبُ، حَاوَلَ الابْنُ مِرِاراً... وَلَكِنَّ الْأَبَ لا يُجِيبُ، وَبَعْدَ عِدَّةِ مُحَاوَلاتٍ قَالَ الْأَبُ: يَا وَلَدِي أَنَا أَعْرِفُ الْكَلِمَةَ التِي تَقُولُهَا، لَكِنَّنِي أُحِسُّ أَنَّهَا أَثْقَلُ مِنَ الْجِبَالِ عَلَى لِسَانِي، ثُمَّ مَاتَ.
وَوَقَعَ حَادِثٌ بِأَحَدِ الطُّرُقِ السَّرِيعَةِ لِمَجْمِوعَةٍ مِنَ الشَّبَابِ، فَتُوُفِّيَ كُلُّ مَنْ فِي السَّيَّارَةِ إِلَا وَاحِداً بَقِيَ فِيهِ رَمَقُ الحَيَاةِ، فَجَاءَ ضَابِطُ الشُّرْطَةِ وَوَجَّهَ الشَّابَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَقَالَ لَهُ: "قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَلَمْ يَنْطِقْ بِهَا، فَجَعَلَ الضَّابِطُ يُحَاوِلُ مَعَهُ وَيُرَدِّدُ قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَصَرَخَ الشَّابُّ وَقَالَ: سَقَر.. سَقَر.. سَقَر.. وَمَاتَ عَلَى ذَلِك".
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "إِنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ تَخْذِلُ صَاحِبَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، مَعَ خُذْلانِ الشَّيْطَانِ لَهُ، فَيْجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْخُذْلَانُ مَعَ ضَعْفِ الإِيمَانِ، فَيَقَعُ فِي سُوءِ الْخَاتِمَةِ، قَالَ -تَعَالَى- (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 29]".
وَسُوءُ الْخَاتِمَةِ – أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهُ – لا يَقَعُ فِيهِ مَنْ صَلَحَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ مَعَ اللهِ، وَصَدَقَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُسْمَعُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ سُوءُ الْخَاتِمَةِ لِمَنْ فَسَدَ بَاطِنِهُ عَقِيدَةً، وَظَاهِرُهُ عَمَلَاً، وَلِمَنْ لَهُ جُرْأَةٌ عَلىَ الْكَبَائِرِ وَإِقْدَامٌ عَلَى الْجَرَائِمِ، فَرَبَّمَا غَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْزلَ بِهِ الْمَوْتُ قَبْلَ التَّوْبَةِ" ا.هـ. (الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَة).
فَاَسْأَلُ اللهُ أَنْ يُحْسِنَ خَاتِمَتِي وَإِيَّاكُمْ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا التِي فِيهَا مَعَاشُنَا وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا التِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا!
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ شَبَابَ الْمُسْلِمِينَ وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلامِ وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ للْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَجَنِّبْهُمْ الْفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَما بَطَنْ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي دُورِنَا وَأَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِنَا!
اللَّهُمَّ جَنِّبْ بِلادَنَا الْفِتَنَ وَسَائِرَ بِلادِ الْمُسْلمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ! وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا محمّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَالْحَمْدِ للهِ رَبِّ العَالَمِين.