الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
وقد ظهرت جميع هذه الآفات في زماننا -والعياذ بالله-، وجُهِر بها حتى عُدَّ الربا والزنا؛ من أسباب التقدم والرقي، ومن مظاهر المدنية والحضارة، فتحقق ما قاله -صلى الله عليه وسلم- من علوِّ هذه المنكرات وظهورها. وأما القتل فحدِّث عنه ولا حرج، فقد عمَّ وطمَّ، فسُفِكت الدماء الحرام، وأزهقت الأرواح، تحت مسمياتٍ شتى، ومآربَ متعددة، نسأل الله أن يحفظنا بحفظه وأن يشملنا برحمته. ومن علامات الساعة الصغرى أيضاً: ظهور المعازف واستحلالها..
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1،2].
والقيامة وموعدها من العلوم التي ادخرها الله -تعالى- لنفسه فما أطلع عليها ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلاً، قال سبحانه: (إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34].
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم وقتها، قال سبحانه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 187].
وأمرها قريبٌ جدًّا، قال سبحانه: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النحل: 77].
فاللهم اجعلنا من: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء: 49].
واعلموا عباد الله! أنّ الساعةَ اسمٌ من أسماء يوم القيامة، ولها أسماء كثيرة منها؛ القارعة والصاخة، والطامةُ والواقعة، والغاشيةُ والآزفةُ والحاقة، واليومُ الآخر، ويومُ البعث ويومُ الخروج، ويومُ الفصل، ويومُ الدين، ويومُ الحسرة، ويومُ الخلود، ويومُ الحساب، ويومُ الوعيد، ويومُ التلاق، ويومُ التناد، ويومُ التغابن.
ومع أنَّ العلمَ بموعدِ يوم القيامة من الغيبِ الذي لا يعلمه إلا الله جل جلاله؛ فقد أخبرَ عن بعض علاماتها وأشراطها، قال سبحانه: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) [محمد: 18].
فمن العلامات الصغرى التي ظهرت وانتهت؛ بعثته -صلى الله عليه وسلم-، ففي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، وقَرَنَ بين السبابة والوسطى. (متفق عليه).
وفي هذا إشارة إلى أن قيام الساعة قريب كقرب الإصبع السبابة من الإصبع الوسطى.
وانشقاقُ القمر في عهده -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَر) [القمر:1]، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: "انشق القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرقتين، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اشهدوا" (رواه البخاري ومسلم).
ومنها أيضا موته عليه الصلاة والسلام، فعن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم –أي جلد-، فقال: "اعْدُدْ سِتّاً بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتانٌ يأْخُذُ فِيكُمْ كقُعاصِ الغَنَمِ، ثمَّ اسْتِفاضةُ المَالِ؛ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مائَةَ دِينارٍ فَيَظَلُّ ساخِطاً، ثُمَّ فِتْنَةٌ؛ لا يَبْقَى بَيْتٌ منَ العَرَبِ إلاّ دَخَلَتْهُ، ثمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ، فَيَغْدُرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تحْتَ ثَمانِينَ غايَةً، تحْتَ كلِّ غايَةٍ اثْنا عَشَرَ ألفاً" (أخرجه البخاري).
ومنها فتح بيت المقدس الذي حدث في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
أما طاعون (عمواس) وهي بلدة في فلسطين، فهو الموتان الذي يأخذ الناس كقُعاص الغنم. قال ابن حجر: "إن هذه الآية ظهرت في طاعون عمواس في خلافة عمر وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس" اهـ . وكان ذلك عام 18هـ وبلغ عددُ من مات فيه خمسةً وعشرين ألفاً من المسلمين.
وظهر مدَّعُو النبوة الدجالين الكذابين، كما في صحيح مسلم. ظهر جمعٌ من هؤلاء في العصر الأول منهم؛ مسيلمةُ الكذاب في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومات على كفره، وسجاحُ وهي امرأة من بني تميم ادعت النبوة ثم تابت وأسلمت، وطليحةُ بنُ خويلد الأسدي وقد أسلم أيضاً، والأسود العنسي ظهر بصنعاء وقتله فيروز الديلمي -رضي الله عنه- فمات على الكفر.
ثم ظهر المختار بن يوسف الثقفي، ومنهم الحارثُ الكذابُ، ظهر في خلافة عبد الملك بن مروان، وخرج في خلافة بني العباس جماعة، وظهر في العصر الحديث: ميرزا أحمد القادياني بالهند، والذي ادعى النبوة، وصار له جماعة تدعى القاديانية، وألَّف العلماء فيه كتباً بينوا فيها كذبه وتدليسه وكفره.
ولا يزال يظهر هؤلاء الكذابون حتى يظهر آخرهم الأعور الدجال، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلاَثُونَ كَذَّابًا دَجَّالاً؛ كُلُّهُمْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ». (أخرجه أبو داود).
ومن هؤلاء الكذابون أربع نسوة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فِي أُمَّتِى كَذَّابُونَ وَدَجَّالُونَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، مِنْهُمْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَإِنِّي خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لاَ نَبِيَّ بَعْدِى" (رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير).
ومنها استفاضة المال وكثرته، واستغناء الناس عن الصدقة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ، حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ صَدَقَةً؟! وَيُدْعَى إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لا أَرَبَ لِي فِيهِ" (متفق عليه).
وهذا تحقق كثير منه في عهد الصحابة -رضي الله عنه-م بسبب ما وقع من الفتوح، ثم فاض المال في عهد عمرَ بنِ عبدالعزيز -رحمه الله-، فكان الرجلُ يَعرِضُ المالَ للصدقة فلا يجدُ من يقبله، وسيكثر المال في آخر الزمان في زمن المهدي وعيسى -عليه السلام-.
ومنها ظهور الفتن، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ, -رضي الله عنهمَا-, قَالَ: صَحِبْنَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا ثُمَّ يُمْسِي كَافِرًا، ثُمَّ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ أَقْوَامٌ خَلاَقَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا يَسِيرٍ". قَالَ الْحَسَنُ: "وَلَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ صُوَرًا وَلاَ عَقْلَ، أَجْسَامٌ وَلاَ أَحْلاَمَ، فَرَاشَ نَارٍ، وَذِئَابَ طَمَعٍ، يَغْدُونَ بِدِرْهَمَيْنِ، وَيَرُوحُونَ بِدِرْهَمَيْنِ، يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِثَمَنِ الْعَنْزِ". (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وصحح الألباني نحوه في صحيح الجامع).
وقد حدث كثير من الفتن من عهد الصحابة -رضي الله عنهم- حتى الآن، وأعظم الفتن جاءت من الشرق؛ عن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْمَشْرِقَ يَقُولُ: "أَلا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ" (رواه البخاري).
ومن الفتن التي حدثت: مقتل عثمان -رضي الله عنه-، وموقعة الجمل وصفين، وظهور الخوارج، وموقعة الحرة، وفتنة القول بخلق القرآن.
ومن العلامات الصغرى أيضاً: ظهور نار الحجاز: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ؛ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى" (رواه البخاري).
وقد ظهرت هذه النار في منتصف القرن السابع الهجري في عام 654 هـ، وكانت ناراً عظيمة، أفاض العلماء ممن عاصر ظهورها ومن بعدهم بوصفها، قال النووي: "خرجت في زماننا نارٌ في المدينة، سنة أربع وخمسين وست مائة، وكانت ناراً عظيمة جداً، من جنب المدينة الشرقي وراء الحرة، وتواتر العلم بها عند جميع الشام، وسائر البلدان، وأخبرني من حضرها من أهل المدينة".
ومن علامات الساعة ضياع الأمانة: "إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة"، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" (رواه البخاري).
ومن مظاهر تضييع الأمانة؛ إسناد أمور الناس من إمارةٍ وخلافة، وقضاءِ ووظائفَ إلى غير أهلها القادرين على تسييرها.
وكان من أشراط الساعة أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن منها «أن تترك القلاص فلا يُسعى عليها» يعني أن تترك الجمال والرواحل التي اعتادها الناس؛ فلا يسعون عليها، ولا يتخذونها رواحل، وقد استعجب كثير من العلماء: هل يترك الناس أن يترحّلوا على الإبل؟!
فقال قائلون منهم: لعل ذلك أن تكون الإبل تكثر وتكثر جدًّا حتى تكون نسبة المركوب فيها إلى ما لا يركب كلا شيء، فتكون القلوص قد تركت فلا يسعى عليها!! وقد رأينا في هذا الزمان صدقَ خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ومن علامات الساعة الصغرى: ظهور النساء الكاسيات العاريات، هداهن الله لما يحبه ويرضاه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صنفان من أهل النار لم أرهما؛ قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسياتٌ عاريات مميلاتٌ مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" (رواه مسلم).
وقوله: "كاسيات عاريات" أي أنهن يلبسن ثياباً غير ساترة لجميع أبدانهن، أو شفَّافة تصف ما تحتها، أو ضيقة تبرز عوراتهن.
وقد ظهر هذا الصنف في زماننا هذا -ويا ليت الفاجعة وقفت عند هذا الحد- بل صار هؤلاء النساء الكاسيات العاريات يتبجحن بعريهن، ويعيرن العفائف المحصنات بتسترهن.
ومن علامات الساعة الصغرى: انتشار الربا؛ ودخوله كل بيت، قال -صلى الله عليه وسلم-: "بين يدي الساعة يظهر الربا" (رواه الطبراني، وقال المنذري: رواته رواة الصحيح).
وهذا الحديث ينطبق على كثير من المسلمين في هذا الزمن.
ومنها ظهور الزنا، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ".. ويظهر الزنا" (متفق عليه).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! لا تفنى هذه الأمة؛ حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق، فيكون خيارُهم يومئذ من يقول: لو واريتها وراء هذا الحائط". (رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح).
قال القرطبي: "في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة، إذا أخبر عن أمور ستقع فوقعت، خصوصاً في هذه الأزمان" اهـ، فإذا كان هذا في زمن القرطبي؛ فهو في زمننا هذا أكثر ظهوراً!!
ومنها كثرة القتل وانتشاره، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج". قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟! قال: "القتل، القتل" (رواه البخاري ومسلم).
وقد ظهرت جميع هذه الآفات في زماننا -والعياذ بالله-، وجُهِر بها حتى عُدَّ الربا والزنا؛ من أسباب التقدم والرقي، ومن مظاهر المدنية والحضارة، فتحقق ما قاله -صلى الله عليه وسلم- من علوِّ هذه المنكرات وظهورها.
وأما القتل فحدِّث عنه ولا حرج، فقد عمَّ وطمَّ، فسُفِكت الدماء الحرام، وأزهقت الأرواح، تحت مسمياتٍ شتى، ومآربَ متعددة، نسأل الله أن يحفظنا بحفظه وأن يشملنا برحمته.
ومن علامات الساعة الصغرى أيضاً: ظهور المعازف واستحلالها: "ليكوننَّ من أمتي أقوامٌ يستحلون الحِرَ -الفروج-، والحرير، والخمر، والمعازف" (رواه البخاري).
وقد أضحى هذا الزمانُ صورةً حيَّة، وشاهدَ صدقِ على صحةِ ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد استحلت المعازف وعلا شأنها، وارتفعت قيمتها، حتى أصبح المغنون والمغنيات -عند كثير من الناس- أعظمَ شأناً، وأرفعَ قدراً من الدعاة والمصلحين.
ومن علامات الساعة الصغرى: ارتفاع شأن المفسدين في الأرض، واستيلاؤهم على مقاليد الأمور، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنها ستأتي على الناس سنون خدّاعة؛ يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضَة" قيل: وما الرُّوَيْبِضَة؟ قال: "السفيه يتكلم في أمر العامة" (رواه أحمد).
ومنها أيضًا: قتال الترك، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون التركَ؛ قوماً وجوههم كالمَجانِّ المطرقة، يلبسون الشعر، ويمشون في الشعر" (رواه مسلم).
وقد قاتل المسلمون التركَ من عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، وذلك في أول لخلافة بني أمية، في عهد معاوية -رضي الله عنه-، وكذلك بعد السنة الست مائة؛ لما سُعِّرَت الدنيا ناراً، خصوصاً الشرق بأسره، حتى لم يبق بلدٌ منه حتى دخله شرُّهم، ثم كان خرابُ بغداد، وقتل الخليفة المعتصم، وكان للرافضة اليد الطولى في هذا الخراب وأمثاله.
يقول النووي -رحمه الله-: "قد وجد قتال هؤلاء الترك بجميع صفاتهم التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ صغارُ الأعين، حُمْرُ الوجوه، ذلفُ الأنوف، عِراضُ الوجوه، كأنَّ وجوههم المجانّ المطرقة، ينتعلون الشعر، فوُجدوا بهذه الصفاتِ كلِّها في زماننا، وقاتلهم المسلمون مرات..".
ومنها: قتال العجم: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزاً وكرمان من الأعاجم، حُمْرُ الوجوه، فُطْس الأنوف، صغار الأعين، كأنَّ وجوههم المجانّ المطرقة، نعالهم الشعر" (رواه البخاري)، فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ظهور خوز وكرمان، وهم غير الترك فيقاتلهم المسلمون.
ومن علاماتها قَبْضُ العلم وظهورُ الجهل: "من أشراط الساعة؛ أن يرفع العلم ويثبت الجهل" (رواه البخاري ومسلم).
وقبض العلم بقبض العلماء، قال النووي -رحمه الله-: "هذا الحديث .. معناه أن يموت حملته ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بجهالتهم فيضلون ويضلون".
وقال الذهبي -رحمه الله-: "وما أوتوا من العلم إلا قليلاً، وأما اليوم فما بقي من العلوم القليلة إلا القليل، في أناس قليل، ما أقل من يعمل منهم بذلك القليل، فحسبنا الله ونعم الوكيل".
كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله". (رواه مسلم).
وعن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر". (السلسلة الصحيحة).
ومن علاماتها أيضًا: المرور في المساجد واتخاذها طريقاً وعدم الصلاة، فيها، فعن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتراب الساعة، أو من أشراط الساعة؛ أن تتخذ المساجد طرقًا" (السلسلة الصحيحة).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين". (السلسلة الصحيحة).
ومنها: كثرةُ الشُّرَطِ وأعوانِ الظلمة: فقد روى الإمام مسلم في صحيحه "صنفان من أهل النار لم أرهما؛ قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس".
ومنها ظهور القلم، وفشو التجارة وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق: روى أحمد: "إن بين يدي الساعة؛ تسليمَ الخاصة، وفشوَّ التجارة، حتى تعينَ المرأةُ زوجها على التجارة، وقطعَ الأرحام، وشهادةَ الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم" (صحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على مسند أحمد: 5/333).
قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن بين يدي الساعة؛ شهادةَ الزور، وكتمانَ شهادة الحق". (رواه أحمد، وقال أحمد شاكر: صحيح).
ومنها أيضًا: كثرةُ شربِ الخمر واستحلالُها: فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لتستحلن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه".
ومن أشراط الساعة: زخرفةُ المساجد والتباهي بها ومنها التطاول في البنيان ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل عندما سأل عن وقت قيام الساعة : "ولكن سأحدثك عن أشراطها.ـ فذكر منها.ـ وإذا تطاول رعاء البهائم في البنيان فذاك من أشراطها"، وقد ظهر هذا في زماننا جلياً فتطاول الناس في البنيان وتفاخروا .
ومن أشراط الساعة: ولادة الأمة لربتها : كما في الصحيحين: "أن تلد الأمة ربتها". ومعنى هذا الحديث فيه أقوال لأهل العلم: فقيل معناه: اتساع الإسلام واستيلاءُ أهله على بلاد الشرق، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها؛ كان الولد منها بمنزلة ربها، وهذا القول قول أكثر أهل العلم.
وقيل: أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمَّه معاملة السيد أمته من الإهانة والسب، قال ابن حجر: "وهذا أوجه الأوجه عندي".
ومن علامات الساعة أيضاً: أن لا يسلم المؤمن على أخيه إلا إن كان يعرفه، فقد ورد: "إن من أشراط الساعة؛ أن يسلم الرجل على الرجل لا يسلم عليه إلا للمعرفة" (صححه أحمد شاكر في مسند أحمد 5/326).
ومنها قطع الأرحام: فقد ثبت: "إن من أشراط الساعة الفحش و التفحش، وقطيعة الأرحام، و ائتمان الخائن" -أحسبه قال: "وتخوين الأمين". (الصحيحة: 2238).
ومن أشراط الساعة: كثرة المطر وقلة النبات، للحديث: "لا تقوم الساعة حتى يمطر الناس مطراً عاماً ولا تنبت الأرض شيئًا" (رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله ثقات).
ومن تلك العلامات أيضاً: انحسار الفرات عن جبل من ذهب: ففي الحديث: "لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة؛ تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو" (رواه مسلم).
ومن أشراط الساعة: كثرة موت الفجأة، فقد جاء في الحديث: "إن من أمارات الساعة؛ أن يظهر موت الفجأة" (رواه الطبراني في الصغير والأوسط وحسنه الألباني).
ومن أشراط الساعة: كثرة الكذب، وعدمُ التثبت في نقل الأخبار، ففي الحديث: "سيكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم، ولا يفتنونكم" (رواه مسلم).
ومن أشراط الساعة: صدق رؤيا المؤمن، ففي الحديث: "إذا اقترب الزمان؛ لم تكد رؤيا المسلم تكذب" (رواه مسلم).
ومن أشراط الساعة: ذهابُ الصالحين، فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَأْخُذَ اللَّهُ شَرِيطَتَهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، فَيَبْقَى فِيهَا عَجَاجَةٌ؛ لاَ يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا، وَلاَ يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا" (رواه أحمد وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح).
ومن أشراطها: "كثرة الزلازل" (البخاري).
ومنها الكثير مما قد حدث ولا يزال يحدث إلى الآن.
فهذه بعض من علامات الساعة الصغرى التي أخبرنا عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي بمجموعها تنطبق أشد المطابقة على هذا العصر الذي نعيش فيه. ولكن لا يجب على المؤمن أن يقنط وييأس، بل ينبغي أن تزيده إيمانا ويقينا؛ بأن العلامات التي أخبر عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- آتية لا محالة؛ كخروج المهدي، ونزول عيسى ابن مريم -عليه السلام-.. الخ. فليعمل كل منَّا ما ينجيه من الوقوع في الفتن أقلها.. وأسأل الله أن يميتنا على الايمان والطاعة ... وأن يحمينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن...
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: أما عن أشراط الساعة الكبرى فهي الأشراط والعلامات التي تكون تباعًا كتتابع الخرز في النظام إذا انفرط عقده يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأيها كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على إثرها قريباً" (رواه مسلم).
لماذا وردت وذُكرت أشراط الساعة في الكتاب والسنة، وهل في ذكرها وتذاكرها فائدة؟ والجواب نعم وذلك لأمور عدة منها:
1- تجديد الإيمان بالله ورسوله، وذلك من اعتبارنا بدلائل النبوة.. الدالة على ربوبية الله من جهة، وصدق نبوةِ محمد -صلى الله عليه وسلم-.
2- المسارعة إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى, حيثُ أنَّ الموتَ والساعةَ لا تأتي ألا فجأة، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً..) [الأعراف: 187].
3- المبادرةُ بالإيمان والعمل الصالح؛ لأنها ستكون فتنٌ كقطع الليل المظلم.. كإمارة السفاء.. وكثرةِ الشُرط... والاستخفافِ بالدماء... وكثرة الهرج... وفشو الزنا والعياذ بالله تعالى.. وهي فتنٌ تحتاج إلى الصبر والحلم، والعلم والاعتصام بحبل الله المتين.
4- الإقامةُ والمصابرةُ على الإيمانِ والعلم، والتعلُّمِ والعملِ المرضى, والتزوُّدِ بالتقوى؛ مخافةَ الانقلابِ، وحتى لا نكون ممن يصبح مؤمنًا ويمسى كافرًا، والعياذ بالله.
5- لئلا نركنَ إلى الدنيا وقد عاينا قربَ الرحيل لنا، أو للدنيا بقيام الساعة، وذلك إذا عاينا أشراطها وعلاماتها.
6- لئلا نظن أن بقاء الدنيا أمامنا دهرا, وأنه بقى في عمرها قرونًا عدة؛ لأن من علامات الساعة؛ تقاربُ الزمان، فلا مانع من وقوعها بعد زمن يسير تقع فيه العلامات كلُّها، في زمن يسير، وإن كان كثيرًا فهو متقارب… وعلم ذلك وعده عند ربى وحده..
فاللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن..