القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
الإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، فهم صفوة الخلق، اختارهم الله لرسالاته وتبليغ شرعه، فقاموا بالرسالة حق القيام، وصبروا على ما نالهم منها، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، فنؤمن بأسماء مَنْ عَلِمنا منهم، ومن لم نعلم اسمه فنؤمن به إجمالاً..
الخطبة الأولى:
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره هو معتقد أهل السنة والجماعة، وهي أهم ما في الشريعة التي أتى بها جبريل -عليه السلام- لنبينا -صلى الله عليه وسلم- حين أسند ركبتيه إلى ركبتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ووضع كفيه على فخذي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة وأماراتها، ثم قال في آخر الحديث "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"(رواه مسلم).
فأركان الإيمان تُعنى بالأمور الباطنة التي عليها اعتقاد القلب، بخلاف أركان الإسلام التي تعنى بالأمور الظاهرة.
والإيمان في اللغة هو التصديق، أو التصديق الجازم، وفي الشرع: قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل الجوارح والأركان. يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو ستة أركان ذكرها الله في كتابه، قال -تعالى-: (لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)[البَقَرَة: 177]، ودليل القدر (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[القَمَر: 49]، ومن السُّنّة قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(رواه مسلم)، فلا يصح الإيمان إلا بهذه الأركان الستة.
أولاها: الإيمان بالله، وهو أعظمُ أركان الإيمان وأساسُه، وما بعده من الأركان مندرج في هذا الركن، وهو أصلُ الأصول، وهو يشمل الإيمان بربوبية الله وألوهيته، لا شريك له في ملكه ووحدانيته في العبادة، وله -سبحانه- الأسماء الحسنى والصفات العلا، فهو -عز وجل- (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشّورى: 11]، وهو -سبحانه- (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الإخلاص: 4].
فبالإيمان بذلك يجعل المرءَ يُخلص في عبادته لله -عز وجل-، لأنه المستحق لها وحده دون ما سواه، وأن كل ما سواه لا يستحق شيئًا من العبادة، فبالإيمان بالله يحب المؤمن ربَّه ويعظمُه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرجو إلا هو، ولا يخاف إلا منه، ولا يعلق قلبه بأي عبادة إلا به -سبحانه- ولا يصرفها لغيره.
ثاني أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، بأن الله خلقهم من نور، وهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، فنؤمن بذواتهم، وصفاتهم، ووجودهم، وأعمالهم إجمالاً فيما علمناه إجمالاً، وتفصيلاً فيما علمناه تفصيلاً، وما علمنا من أسمائهم وما لم نعلم، كمَلك الموت وخازن النار مالكٍ، كما في مناداة أهل النار له (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)[الزّخرُف: 77]، وكجبريلَ وميكائيلَ واسرافيلَ، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يفتتح صلاته بدعواتٍ منها "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل"(رواه أبو داود)، وهؤلاء الثلاثة هم أفضل الملائكة.
ونؤمن بما أوكلهم الله من أعمال، فجبريلُ -عليه السلام- موكَلٌ بتبليغ الوحي، وميكائيلُ موكلٌ بالقطر، وإسرافيلُ موكلٌ بالنفخ في الصور، وملائكةٌ موكلة بحمل العرش، وملائكةٌ موكلة بالأجنّة، وملائكة موكلة بكتابة أعمال بني آدم، وملائكة موكلة بحفظ بني آدم، قال -تعالى-: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)[الرّعد: 11]، ومنهم مُوكّل بقبض الأرواح، ومنهم ملائكة تحضر الجمعة وتكتب الأول فالأول وتستمع الذكر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكةٌ يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر، ومَثل الْمُهَجِّرِ كمثل الذي يُهدي البدنة، ثم كالذي يُهدي بقرة، ثم كالذي يُهدي الكبش، ثم كالذي يُهدي الدجاجة، ثم كالذي يهدى البيضة"(متفق عليه).
وبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- عظم خَلق جبريل -عليه السلام- حين رآه في صورته: "له ستمائة جناح"(متفق عليه).
والركن الثالث: الإيمان بالكتب، فتؤمن إيمانًا جازمًا بأن الله أنزلها على رسله -عليهم السلام-، فما من رسول إلا معه كتاب، قال -سبحانه-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ)[الحَديد: 25]، ففي هذه الكتب الهدى والنور.
ومن الكتب: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن الكريم. فتؤمن إيمانًا عامًا بأن التوراة نزلت على موسى -عليه السلام-، والإنجيل على عيسى -عليه السلام-، والزبور على داود -عليه السلام-، ونؤمن إيمانًا خاصًّا بالقرآن الكريم، ولا نعمل إلا بالقرآن الكريم فبه نُسِخَت الكتب السابقة، قال -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)[المَائدة: 48].
وفي إنزال الكتب رحمةٌ من الله -تعالى- بعباده، فقد أنزل لكل قوم كتابًا يهديهم به، وشرَع فيه لكل أمة ما يناسبهم، قال الله -تعالى-: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)[المَائدة: 48].
والإيمان بالرسل: أصل من أصول الإيمان، فهم صفوة الخلق، اختارهم الله لرسالاته وتبليغ شرعه، فقاموا بالرسالة حق القيام، وصبروا على ما نالهم منها، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، فنؤمن بأسماء مَنْ عَلِمنا منهم، ومن لم نعلم اسمه فنؤمن به إجمالاً، قال -تعالى-: (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)[غَافر: 78].
والحكمة من إرسال الرسل -عليهم السلام- دعوة ُأممهم إلى عبادة الله وحده، والنهيُّ عن عبادة ما سواه، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النّحل: 36]، وكل نبي بُعث إلى قومه خاصة إلا نبيَّنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بُعث إلى الناس كافة، قال -سبحانه-: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[الفُرقان: 1].
ومما فُضّل به النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأنبياء -عليهم السلام- بأنه "أرسل إلى الخلق كافة"(رواه مسلم)، فنعمل بشريعته، ونهتدي بهديه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج: "لتأخذوا مناسككم"(رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(رواه البخاري)، وفي الوضوء قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ مثل هذا الوضوء ثم أتى المسجد فركع ركعتين ثم جلس، غفر له ما تقدم من ذنبه"(رواه البخاري).
والركن الخامس من الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، وهو يوم القيامة، وسمي آخِرًا، لأنه آخِرُ مراحل الإنسان بعدما كان في بطن أمه، ثم الحياة الدنيا، ثم دار البرزخ، ولأهميته فالله -عز وجل- يقرن الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر في قوله -تعالى-: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[التّوبَة: 18]، وكقوله -تعالى-: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[الطّلاَق: 2].
فيؤمن العبد بأن هناك يومًا يعود الناس فيه لربهم، وأن الله يبعثهم من قبورهم بعد النفخة الثانية في الصور، فيقوم الناس لرب العالمين، قال -تعالى-: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 16]، يبعثهم الله إليه حفاة عراة غرلاً، قال الله -تعالى-: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)[الأنبيَاء: 104].
فيؤمن بالبعث والجزاء، وأن الله في ذلك اليوم يجازي المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، قال -تعالى-: (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)[الزُّمَر: 70]، ويؤمن أن بعد هذا اليوم دارًا إما الجنة وإما النار، ويؤمن أيضًا ما يلحق باليوم الآخر من أحوال يوم القيامة من فتنة القبر فيعذب الله الكافر والمنافق، وينعم المؤمن، ويؤمن بما بعده من العرض، والنشور، والحوض، والميزان، وأخذ الصحف، وعبور الصراط، فبالإيمان بذلك يرغب العبد في فعل الطاعة رجاء ثواب ذلك اليوم، ويرهب عن فعل المعصية خوفًا من عقاب ذلك اليوم.
والإيمان بالقدر خيره وشره: أصل من أصول الإيمان، فيؤمن بأن كل شيء يحدث في هذا الكون قد سبق به قدر الله، قال -سبحانه-: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[القَمَر: 49]، وأن الله -سبحانه- عالم بكل شيء قبل أن يخلق الخلائق، قال -سبحانه-: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[الحَجّ: 70].
ويؤمن المرء بأن الله كتب جميع أحوال العباد من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال في اللوح المحفوظ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"(رواه أبو داود).
ويؤمن أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وما من حركة ولا سكون في السموات والأرض إلا بمشيئة الله -سبحانه- لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأن الله أوجد جميع الخلق، وأن ما في الكون بتقديره وإيجاده قال الله -تعالى-: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[الزُّمَر: 62]، وقال -عز وجل-: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[الفُرقان: 2]، فيؤمن أنما أصابه لم يكن ليخطأه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ولا يصح إيمان المرء إلا بالإيمان بالقضاء والقدر، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من وحّد الله وكذب بالقدر، فقد نقض تكذيبه توحيده".
فالله قدر مقادير الخلائق بما يلائمهم من أمور دينهم ودنياهم، من الخير والشر، والصحة والمرض، والغنى والفقر.
فما قُدّر للعبد فهو الخير له، لذا عليه الرضا والتسليم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمْرَه كلَّه خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له"(رواه مسلم).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
أركان الإيمان الستة لا تتجزأ، فلا يصح إيمان المرء إلا بعد تحقيقها كاملة، دون الإخلال بواحد منها، فإذا حقَّق أركانها فإن هناك ركنَ الإحسان، كما عرَّفه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(متفق عليه).
فالإحسان مأخوذ من الحسن وهو: الجودة وإتقان العمل، وهو نهاية الإخلاص؛ حيث يؤدي العملَ على أكمل وجهٍ في الظاهر والباطن، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الإحسان هو فعل المأمور به، سواءٌ كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه، فأعظم الإحسان: الإيمان، والتوحيد، والإنابة إلى الله -تعالى-، والإقبال إليه، والتوكل، وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالاً ومهابةً وحياءً ومحبةً وخشيةً، فهذا هو مقام الإحسان".
وهو مرتبتان: أن تعبد الله كأنك تراه، مستحضرًا عبادتك أنك بين يدي الله -عز وجل-، فيؤدي العمل وفق الكتاب والسنة مخلصًا فيه، كأنه يرى الله، عالم بأنه مطلع عليه يراه، فيحسن عمله، بل يجعله أحسن ما يكون.
والمرتبة الثانية: فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فتعبد الله وتعلم أنه -سبحانه- مطلع عليك مما يورث لك إتقان العبادة، قال -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)[الشُّعَرَاء: 218-219].
فالله -سبحانه وتعالى-: يرى نبيه -صلى الله عليه وسلم- حال عبادته، ويراه في جميع أحواله حين يقوم، وتقلَّبَه في الساجدين، والله -سبحانه وتعالى-: شهيد على أعمال العباد قال -تعالى-: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)[يُونس: 61]، فالله -سبحانه- يعلم الأحوال، ويرى الأعمال، ويسمع الكلام، ولا تخفى عليه خافية في الارض ولا في السماء.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.