القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان |
إن في قصص الأنبياء عِبَرًا لنا نحن الناس، ولولا ذاك لما تكررت قصصهم في القرآن فلا حجة لمن اعترض على إمكانية التأسي بهم؛ لأنهم أنبياء،.. ومن العبر التي نستفيدها من سيرة يونس -عليه السلام- الخوف من عاقبة المعصية؛ فإن يونس بالرغم من أنه لم يعصِ ربه إلا أن الأنبياء محاسبون حتى على ما هو أقل من ذلك،...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن في قصص الأنبياء عِبَرًا لنا نحن الناس، ولولا ذاك لما تكررت قصصهم في القرآن فلا حجة لمن اعترض على إمكانية التأسي بهم؛ لأنهم أنبياء، يقول سبحانه في ضرورة كون الأنبياء كلهم قدوة للمؤمنين (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].
وقال في شأن نبينا -صلى الله عليه وسلم- على الخصوص: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا | كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا |
وإن نحن أضللنا الطريق ولم نجد | دليلاً، كفانا نور وجهك هاديا |
صل الله عليه وآله وصحبه تسليمًا كثيرًا.
معاشر الإخوة: من العبر التي نستفيدها من سيرة يونس -عليه السلام- الخوف من عاقبة المعصية؛ فإن يونس بالرغم من أنه لم يعصِ ربه إلا أن الأنبياء محاسبون حتى على ما هو أقل من ذلك، ولذلك قال الله –تعالى- في معرض الكلام عن أثر كلام المشركين على نفس النبي وموقفه -صلى الله عليه وسلم- وتحذيره من أقل أنواع التنازل (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء: 73- 75].
(ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) أي: ضعف عذاب الدنيا، وضعف عذاب الآخرة.
فخروج يونس من بين قومه قبل أن يؤذن له يعتبر في حقه شيئًا كبيرًا، ولذلك أسرع إليه الابتلاء في الدنيا بابتلاع الحوت له، فلنتقِ الله في حدوده؛ فإن للعقوبة موعدًا محددًا، وإن لها أشكالاً وقد تكون حسية على الجسد أو المال، وقد تكون معنوية على النفس أو العقل.
العقوبات لا تؤجَّل كلها بالضرورة فقد تصيب العاصي عقوبة في الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية.
قال تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا) [النساء:123]، في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال "لما نزلت (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) بلغت –أي: الآية- من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قاربوا، وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها".
وفي آية أخرى قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
من العِبَر كذلك التأمل في لطف الله -تعالى- بعباده، فكل ما جرى ليونس -عليه السلام- كان بلطف العليم الحكيم من خروجه من بين قومه، إلى ركوبه السفينة، إلى ثقل السفينة بمن فيها، إلى تفكير من في السفينة بالاستفهام إلى خروج يونس بالاستفهام ثلاث مرات واحدة تلو الأخرى، إلى مجيء الحوت إليه وابتلاعه إياه، إلى جعل بطن الحوت ملاذًا له من السمك المفترس، إلى إلهام الله له وهو في بطن الحوت بنداء الله -تعالى- والتضرع إليه (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87] إلى نجاته وخروجه منه أيّ من بطن الحوت واستشفاءه بشجرة اليقطين وشفاءه كل ذلك بإذن اللطيف الخبير.
ولذلك وصف نبي الله يوسف ربه بهذه الصفة لما رفع أبويه على العرش وخروا له سجدًا، حكى كيف صارت الأقدار في مصلحته بإذن اللطيف العليم الحكيم، وإن بدت في عين المخلوق القاصر شرًّا (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء) [يوسف:100].
(لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء) يوصل بره للعبد من حيث لا يشعر؛ (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
التأمل في لطف الله -تعالى- بعباده يجعل القلب يطمئن لقضائه، ويجعل المؤمن يعمل لاستجلاب رحمته -جل وعلا- كما هو مقتضى السنن الربانية، والعاقبة للمتقين.
من العبر العظيمة كذلك: فضل العمل الصالح وعاقبته النافعة في يوم الضرورة في الدنيا وفي الآخرة، وأي يوم أكثر ضرورة من اليوم الآخر، هنالك في ذلك اليوم الآخر كيف يصنع العمل الصالح بصاحبه؟! نسأل الله من فضله.
بل إن كلمة واحدة قد تنقذك من النار بإذن الله وتدخلك الجنة، العمل الصالح مبارك قد تظهر بعض منافعه وعواقبه الحميدة في الدنيا، ولذلك كان لأهل القلوب الرقيقة حال آخر مع معالم هذه العواقب الحميدة في الدنيا.
في صحيح البخاري عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف قال: إن عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أُتي بطعام وكان صائمًا، فقال: "قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني كُفن في بردة إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسِط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا.. ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام" عبدالرحمن بن عوف من أغنى أغنياء الصحابة لكن قلبه كان رقيقًا.
معاشر الإخوة: لقد بيَّن الله -تعالى- سبب استجابته ليونس وهو في ظلمات بطن الحوت في قوله -تعالى-: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [الصافات:143]، العمل الصالح (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [الصافات: 144- 148].
(فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) لولا حرف شرط يدل على امتناع شيء لوجود غيره (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) هذا هو الشيء المانع تسبيح يونس، قال ابن عباس "من المسبحين أي: من المصلين" (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) هذا هو الممتنع اللبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون.
لقد أنقذته صلاته -بإذن الله- وأنقذه تسبيحه قال الإمام الطبري: "كان من الذاكرين الله قبل البلاء فذكره الله في حال البلاء فأنقذه ونجاه".
وفي حديث ابن عباس المشهور قال -صلى الله عليه وسلم-: "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
التقرب إلى الله في الرخاء بشتى أنواع العبادة مما يحبه الله تعالى، في صحيح الترغيب من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء في الرخاء".
بل يجزي الله به عبده وقت الشدة في الدنيا وفي الآخرة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء".
فمن العِبَر في قصة يونس -عليه السلام- من قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87]: الاعتراف بالذنب.. بعض الناس إذا صلى وصام ظن أنه ختم الدين، وأنه غير محتاج إلى التوبة والاستغفار؛ لأنه وفَّى بحق ربه، وأنه كمل في عبادته، ومن ثَم لا يحتاج إلى اعتراف بذنب.
أيها الإخوة: إن الاعتراف بالذنب من دأب خير خلق الله؛ الأنبياء، طالما اعترفوا -صلوات الله وسلامه عليهم- بتقصيرهم في العبودية، وطالما استغفروا، وسألوا الله أن يتوب عليهم وهم أفضل البشر عبادة وإخلاصًا وصدقًا وعملاً (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء:82]، قالها أبو الأنبياء وإمام الموحدين إبراهيم الخليل -عليه السلام- وقد أمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالاستغفار بقوله (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:3].
في صحيح مسلم من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر من قول سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، قالت: فقلت يا رسول الله! أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، قال: "خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي. فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه. فقد رأيتها؛ فتح مكة: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [سورة النصر: 1- 3]".
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
ولذلك صح في سنن ابن ماجه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا"، نستغفر الله ونتوب إليه دائمًا مهما عملنا من عمل، بل إن الإنسان يستغفر الله على الطاعة مباشرة، عندما ينتهي من صلاته يستغفر الله -تعالى- من تقصيره، من ضياع ذهنه وشروده، وهكذا.. دائمًا الإنسان في توبة وفي استغفار حتى يلقى الله.
من العبر كذلك: عدم اليأس؛ فإن يونس غادر وهو يائس من إيمان قومه، وإن كان خروجه من قدَر الله -تعالى- إلا أن سياق الأحداث يدل على أنه لو زاد في صبره واستمر في الدعوة حتى يأذن الله -تعالى- له بالخروج لكان أكثر توفيقًا، ولذلك قال -تعالى- في سورة يوسف: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110].
قوم يونس آمنوا بعد رحيله، فكشف الله عنهم العذاب، وهكذا بيَّن القرآن (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98].
معاشر المسلمين: ونحن نقرأ القرآن عندما تمر بنا أحداث من قصص الأنبياء فلنتأمل ولنعتبر؛ لأن هذا هو المقصود من إيرادها.
اللهم فرِّج عن إخواننا في الموصل وحلب، فلا حول ولا قوة لهم إلا بك يا رب العالمين، يا سميع الدعاء ويا فارج الغم ويا كاشف الكربة والغم، اللهم فرِّج عنهم واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم، ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم..