البحث

عبارات مقترحة:

الرحمن

هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...

الخالق

كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

فقه أعمال القلوب

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. تعظيم القلب لحرمات الله وشعائره .
  2. أعمال الإنسان بين القلب والجوارح .
  3. أعمال القلوب أساس لأعمال البدن .
  4. هجر العوائد وقطع العلائق وإزالة العوائق .
  5. الإيمان مبني على أصلين، وكل عبد له قوتان .
  6. الحكمة من ابتلاء النفوس بالشقاء والتعب .
  7. صفات صاحب القلب السليم. .

اقتباس

والقلب إن من لم يتغذ بنور الإيمان، فسيرى العزة بالأموال والأشياء، لا بالإيمان والأعمال، وبذلك يُحرَم من الأعمال الصالحة، ويتعلق بالفانية، وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، ومن ثم يتوجّه الناس إلى غير الله. وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله, والأجساد مزينة بالطاعات والسنن، فُتحت للإنسان أبواب الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة...

      الخطبة الأولى:   الحمد لله خلق كل شيءٍ فقدره تقديرًا، أبدع ما خلق، وأتقن ما صنع حكمةً وتدبيرًا، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كان على كل شيءٍ قديرًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله إلى الخلق بالحق بشيرًا ونذيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.   أما بعد:   أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله- حيثما كنتم، فهو -سبحانه- يعلم ما أخفيتم وما أعلنتم، فزكوا نفوسكم بالتوبة وطهّروها، وأيقظوها من سِنَة الغفلة وذكّروها أن لكم موعدًا لن تُخلَفوه، وموقفًا بين يدي ربكم لا بد أن تقفوه، ولسوف تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، ثم توفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.   عباد الله: القلب ملك الجوارح وسيد الجسد، بصلاحه يصفو القول والعمل، وتستقيم الجوارح، وخير القلوب هو القلب السليم الذي يطمئن بذكر ربه وسيده ومولاه، قلب يفرح بذكر ربه، لا يرجو الخير إلا منه، ولا يسعده إلا ما يرضي ربه، ولا يرجو أحدًا إلا ربه، يعظّم شعائر الله، قال الله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، فتعظيم حرمات الله وحدوده وشعائره عبادة جليلة من العبادات؛ لأن تعظيم شعائر الله تصدر من القلوب التقية، وعلامة على صلاح القلب وقوة إيمانه وتقواه؛ لأن تعظيمها تابعٌ لتعظيم الله وإجلاله.   وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من مسألة الفِعْل، أو الأداء، فتعظيمها يعني أداءها بحبٍّ وعشْق وإخلاص، والإتيان بها على الوجه الأكمل، وربما زاد على ما طُلِبَ منه، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور: 52]، وفي هذا التعظيم مثال رائع ينقله لنا التاريخ عن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها – أنها كانت تجلو الدرهم وتلمعه، فلما سألها رسول الله عما تفعل، قالت: لأنني نويتُ أنْ أتصدَّق به، وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أنْ يقع في يد الفقير. هذا هو التعظيم لشعائر الله والقيام بها عن رغبة وحب.   وقد بلغ حُبُّ التكاليف وتعظيم شعائر الله بأحد العارفين إلى أنْ قال: "لقد أصبحتُ أخشى ألا يثيبني الله على طاعته"، فسألوه: ولماذا؟ قال: "لأنني أصبحتُ أشتهيها"، يعني: أصبحتْ شهوة عندي، فكيف يُثاب -يعني- على شهوة عندي؟!.   إن الأوامر تنزل في كل لحظة من ذات الله -تبارك وتعالى-، والأعمال تصدر من ذات الإنسان، فإذا تطابقت الأوامر والأعمال، فقد ضمن الإنسان لنفسه السعادة في الدنيا والآخرة، فال الله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]، وإذا خالفت أعمال الإنسان أوامر الرب، شقي هذا الإنسان في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 123، 124].   عباد الله: وأعمال الإنسان إما أن تكون أعمال قلبية، كالإيمان والتوحيد، ومحبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين له، واليقين في ذاته وأسمائه وصفاته، والخوف منه، والرجاء له، والخشية منه، والخشوع له، والتذلل والتضرع بين يديه، والصبر على حكمه، والاستعانة به ونحو ذلك، فهذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق.   وإما أن تكون أعمال جوارح، والناس في أعمال القلوب على ثلاث درجات، كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، فالظالم لنفسه: هو العاصي بترك مأمور، أو فعل محظور. والمقتصد: المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات. والسابق بالخيرات: المتقرب إلى ربه بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، التارك للمحرم والمكروه، الذاكر لربه في كل حين.   وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، كلاهما مطلوب، إلا أن أعمال القلوب أساس لأعمال الجوارح، وهي تعبر عن الإيمان، وأعمال الجوارح مظهرها وعلامتها، وهي التي تعبّر عن الإسلام، لكنه لا يُقبَل بدونها، قال -عز وجل-: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) [الحجرات: 14].   وإنما خص الله أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح؛ لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، وقد أحسن من قال: "القلوب أوعية والجوارح مغارفها"، ولولا إرادة القلب لم تحصل أفعال الجوارح، وما الجوارح سوى تعابير لما في القلب، ولهذا قال -سبحانه-: (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) [العاديات: 9- 11].   إن القلوب هي الأصل المترتب عليه المدح، قال الله -سبحانه-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2]، وجعلها الأصل في الذم كما قال -سبحانه-: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة: 283].   وإذا تفكر العبد في أعظم المخلوقات، وأنزهها وأطهرها، وأنورها وأشرفها، وأعلاها ذاتًا وقدرًا، وأكرمها وأوسعها، سيجد أنه عرش الرحمن -جل جلاله-، ولذلك صلح لاستوائه عليه، وكل ما كان أقرب إلى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعُد عنه، ومن هنا كانت جنة الفردوس أعلى الجنان، وأشرفها وأنورها وأجلها؛ لقربها من عرش الرحمن إذ هو سقفها، وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة، وأضيقها وأبعدها من كل خير، وهي النار.   لذا لا غرابة أن يتصدر القلب هذه المنزلة أو يحتل هذه الرتبة؛ لكون الله خلق -عزَّ وجلَّ- وجعله محلاً لمعرفته ومحبته وإرادته، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ" [مسلم (2564)]، فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفة الله ومحبته وإرادته، كما قال -سبحانه-: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [النحل: 60].   والقلب إن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها، لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفةً ومحبةً وإرادةً، وإلا استوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وإرادتها، وعلى هذا تعود القلوب على قلبين: قلب هو عرش الرحمن؛ فيه النور والحياة، والفرح والسرور، والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان؛ فهناك الضيق والظلمة، والموت والحزن، والهم والغم، والنور الذي يدخل القلب إنما هو من آثار المثل الأعلى، فلذلك ينفسح وينشرح، وإذا لم تكن فيه معرفة الله ومحبته فحظّه الظلمة والضيق.   عباد الله: مثل التوحيد والإيمان والإخلاص في القلب كمثل شجرة، فروعها الأعمال الصالحة، وثمرها طيب الحياة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة. والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب فروعها الأعمال السيئة، وثمرها في الدنيا الضنك والهم والغم، وفي الآخرة عذاب الجحيم.   إن شجرة الإيمان أصلها ثابت وأساسها راسخ في قلب المؤمن علمًا واعتقادًا، وفرعها من الكلم الطيب، والعمل الصالح، والأخلاق المرضية، والآداب الحسنة، في السماء دائمًا، يصعد إلى الله منه الأعمال والأقوال التي تخرجها شجرة الإيمان، ما ينتفع به المؤمن، وينفع غيره كما قال -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 24- 25].   وأما شجرة الكفر فهي شجرة خبيثة المأكل والمطعم كشجرة الحنظل ونحوها، لا عروق تمسكها، ولا ثمرة صالحة تنتجها، كذلك كلمة الكفر والمعاصي ليس لها ثبوت نافع في القلب، ولا تثمر إلا كل قول خبيث، وعمل خبيث، يضر صاحبه ولا ينفعه، ولا يصعد إلى الله منه عمل صالح، قال -سبحانه-: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم: 26].   عباد الله: إن القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها، والقلوب آنية الله في أرضه، وأحبها إليه ألينها، وأرقها، وأصفاها، وإذا زهدت القلوب في موائد الدنيا، قعدت على موائد الآخرة، وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد الغالية، ولا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا، وإذا أحب الله عبدًا اصطنعه لنفسه، واستخلصه لعبادته، فشغل همّه به، ولسانه بذكره، وجوارحه بخدمته، وصرف قلبه عما سواه.   القلب يعمل، والبدن يعمل، والقلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه بالتوبة والحمية، والقلب يصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر، والقلب يعرى كما يعرى الجسم، وزينته بالتقوى، والقلب يجوع ويظمأ كما يجوع البدن ويظمأ، وطعامه وشرابه العلم بالله والمعرفة، والمحبة والتوكل، والإنابة والعبادة،  قال الله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].   عباد الله: حتى تحقق المطلوب وتصل إلى المحبوب عليك أن تقوم بثلاثة أمور: هجر العوائد، وقطع العلائق، وإزالة العوائق.   والعوائد هي ما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم, والعادات التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عند بعضهم أعظم من الشرع، قال -سبحانه-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة: 170].   وهذه الرسوم قد استولت على طوائف من بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والعامة والخاصة، بل وينكرون على من خالفها، وربما كفَّرُوه أو بدَّعُوه، أو ضللوه أو قتلوه، واتخذها الناس سننًا، وهُجر لأجلها الكتاب والسنة.   وأما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب من دون الله من ملاذ الدنيا وشهواتها، وصحبة الناس، والتعلق بهم، ولا سبيل إلى قطعها إلا بقوة التعلق بالمطلوب الأعلى، فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه، وهذا المعنى صح في السُّنّة، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" [البخاري (16)].   وأما العوائق فهي أنواع المخالفات التي تعوق القلب عن سيره إلى الله، وهي ثلاثة: الشرك، والبدعة، والمعصية.   عباد الله: الإيمان مبني على أصلين؛ الأصل الأول: تصديق الخبر عن الله ورسوله، وبذل الجهد في رد الشبهات التي توحيها شياطين الجن والإنس في معارضته، وهذا هو قول القلب وعمله. الثاني: طاعة أمر الله ورسوله، ومجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وبين كمال الطاعة، وهذه هي أعمال الجوارح، والشبهات والشهوات أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده، كما أن الأصلين الأولين: تصديق ما جاء عن رسول الله مما في كتاب الله وسنة رسوله، وطاعة الأمر واجتناب النهي، أصل فلاح العبد وسعادته في معاشه ومعاده.   إن أي عبد له قوتان: قوة الإدراك والنظر، وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام، وقوة الإرادة والحب، وما يتبعهما من النية والعزم والعمل. فالشبهات تؤثر فسادًا في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها بدفعها، والشهوات تؤثر فسادًا في القوة الإرادية العملية ما لم يداوها بإخراجها.   عباد الله: لقد كان من تمام حكمة الله تعالى أنه يبتلي هذه النفوس بالشقاء والتعب في تحصيل مراداتها وشهواتها، فلا تتفرغ للخوض في الباطل إلا قليلاً، ولو تفرغت هذه النفوس لكانت أئمة تدعو إلى النار، قال تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء: 27].   وفي حديث حذيفة -رضي الله عنه- أنه سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديثه عن الشر، فقال: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ" قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: "قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ" قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: "هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا" قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ" قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِك" [البخاري (7084)].   وقد أحسن القائل: نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية, وإن داء الأولين والآخرين في اتباع الشهوات المانعة من متابعة الأمر، والخوض بالشبهات المانعة من الانقياد للأمر، وهذا شأن النفوس الباطلة التي لم تُخلَق لنعيم الآخرة، ولا تزال ساعية في نيل شهواتها، فإذا نالتها فإنما هي في خوض بالباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والآجل، فاحذر هؤلاء ومجالسهم، قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 68].   اللهم ذكِّرْنا بك فلا ننساك، وأكرمنا بتقواك، وارزقنا المنازل العلا من الجنة، في الفردوس الأعلى مع النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.     الخطبة الثانية:   الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.   أما بعد:   عباد الله: إن من رزقه الله قلبًا سليمًا، وفكرًا صافيًا، ونظرًا ثاقبًا، رأى الحق حقًّا واتبعه، ورأى الباطل باطلاً واجتنبه، فإذا رأى الناس متوكلين على تجارتهم، وصحة أبدانهم، أو تعلقوا بأسباب الأرض، توكل على الله، ولجأ إليه: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 3]، وإذا رآهم يذلون أنفسهم في طلب الرزق اشتغل بما لربه عليه، لعلمه أن رزقه سيأتيه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6].   سئل الحسن البصري عن سر زهده في الدنيا فقال أربعة أشياء: "علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به وحدي، وعلمت أن الله مطّلع عليّ فاستحييت أن يراني عاصيًا، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربى".   إن صاحب القلب السليم إذا رأى الناس يتحاسدون في دنياهم ترك ذلك لهم، لعلمه أن الله الذي قسم، ولعلمه أن نصيبه من الرزق سيصل إليه، ولن يأخذه غيره، فلا يتمنى زوال نعمة الآخر، ولا يتطلع إليه، بل يسأل المالك المنعم -سبحانه-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف: 32].   وإذا رأى الناس يطلبون العزة والمكانة عند المخلوق بالمال والجاه والمناصب، طلب المكانة عند ربه بالتقوى كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]، فمن كان لله أتقى كان من الله أقرب، وكان عند الله أكرم، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ"، قَالُوا: "بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ"[أحمد(23489) وصححه الأرناؤوط].   وصاحب القلب السليم متى رأى الناس يركضون وراء شهواتهم، أجهد نفسه في دفع الهوى حتى تستقر على طاعة الله -عزَّ وجلَّ-، فإن (مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40، 41]، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قال: "إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ سَرِيعَةُ الدُّثُورِ، اقْدَعُوهَا، امْنَعُوهَا هَواهَا، حَادِثُوهَا بِعِمَارَاتِهَا، وَرَبِيعُهَا الْقُرْآنُ..." وقال: "من نافسك على الآخرة فنافسه ومن نافسك على الدنيا فأعطها له".   وإذا رأى الخلق كل له محبوب، فإذا وصل إلى القبر فارقه محبوبه، جعل محبوبه حسناته التي لا تفارقه، واتخذ من عمله صديقًا لا يفارقه في حلّ وترحال، وفي خوف وأمن، وفي حياة وموت حتى يدخل دار النعيم، قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف: 46].   ومن هذا المنطلق ولهذه الأهمية التي حظيت بها أعمال القلوب لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مستوى المسؤولية العظمى في تبليغ الرسالة، وفي بيان مقاصد القرآن من فقه أعمال القلوب إلى جانب فقه الجوارح، فكما أن لأعمال الجوارح شروطًا للصحة والقبول، فكذلك أعمال القلوب لها نفس الشروط في الصحة والقبول.   وكان -صلى الله عليه وسلم- في قمة المستويات الفكرية العالمية حين صَوَّر مستقبل العالم الإسلامي حينما يسيطر الرياء القلبي على الأعمال الظاهرة بالجوارح للناس، كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ،: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَبِي يَغْتَرُّونَ، أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ؟ فَبِي حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا" [الترمذي (2404) وضعفه الألباني].   وهذه الصورة ذات دلالة واضحة على أن هناك مشقة في الحفاظ على القلوب من طوارق الرياء والنفاق، وأن تسلل الرياء إليها أمر محتم إذا لم تكن هناك محاسبة دائمة ومراقبة صارمة، وتفتيش دقيق في كل خفقة يخفقها القلب وفى كل خاطر يشغله.   عباد الله: إن غذاء القلب وصلاحه وسعادته وفلاحه في عبادة الله وحده، والاستعانة به وحده، قال تعالى: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [الشعراء: 213]، وهلاك القلب وشقاؤه، وضرره العاجل والآجل، في عبادة المخلوق والاستعانة به.   وإن الوحي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد، فكما أن الجسد بلا روح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك الروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) [غافر: 14، 15].   والقلب إن من لم يتغذ بنور الإيمان، فسيرى العزة بالأموال والأشياء، لا بالإيمان والأعمال، وبذلك يُحرَم من الأعمال الصالحة، ويتعلق بالفانية، وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، ومن ثم يتوجّه الناس إلى غير الله. وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله, والأجساد مزينة بالطاعات والسنن، فُتحت للإنسان أبواب الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71]. وإذا أحب الله عبدًا، هداه إليه، وأدخله بيته، وأشغله فيما يحب، واستعمل قلبه وجوارحه فيما يحب: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى: 13].   فجددوا إيمانكم، وافقهوا ما يصلح قلوبكم، واحذروا أمراض القلوب، وعودوا لربكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.   نسأل الله كمال الإيمان به، وجميل التوكل عليه، وحسن الظن فيه، ونسأله أن يصلح لنا قلوبنا.   اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا.