الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
قال الزَّجاجيُّ رحمه الله: «هو باطنٌ إذا كان غيرَ ظاهر، و(الظاهرُ): خلافُ الباطن؛ فاللهُ ظاهرٌ باطنٌ، باطنٌ لأنه غيرُ مُشاهَد كما تُشاهَد الأشياءُ المخلوقة، عَزَّ عن ذلك وعلا، وهو ظاهرٌ بالدلائل الدالة عليه، وأفعالِه المؤدِّيَة إلى العلم به ومعرفته؛ فهو ظاهرٌ مُدرَك بالعقول والدلائل، وباطنٌ غيرُ مُشاهَدٍ كسائرِ الأشياء المشاهَدة في الدنيا». "اشتقاق الأسماء" (ص137).
وقال ابنُ فارس رحمه الله: «وباطنُ الأمر: دَخْلَتُه (والدال فيه مثلَّثة)، خلافُ ظاهرِه.
واللهُ تعالى هو (الباطنُ)؛ لأنَّه بطَنَ الأشياءَ خُبْرًا؛ تقول: بطَنْتُ هذا الأمرَ: إذا عرَفْتَ باطِنَه». "المقاييس" (1 /259).
فخلاصةُ معنى (الباطن) في اللغة: الخَفِيُّ، والعالِمُ بما خَفِيَ.
هو اسمٌ ثابت لله سبحانه وتعالى، يدل على احتجابِه عن أبصار الناظرين، وتَجلِّيه لبصائرِ المتفكِّرِين، وقد يكون معناه: المُطَّلِع على ما بطَنَ من الغيوب. انظر: "شأن الدعاء" للخطابي (ص88).
وهو (الباطنُ) لجميعِ الأشياء؛ فلا شيءَ أقرَبُ إلى شيءٍ منه؛ كما قال سبحانه: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اْلْوَرِيدِ﴾ [ق: 16].
قال الرازيُّ: «و(الظاهرُ) بالقدرة على كلِّ شيء، و(الباطنُ) العالِمُ بحقيقة كلِّ شيء». "لوامع البينات" (ص240).
يدل على إثباتِ صفة (الباطنية) لله سبحانه وتعالى.
ورَد اسمُ الله (الباطن) في حديث ذِكْرِ النوم الذي رواه أبو هُرَيرةَ رضي الله عنه مرفوعًا: «وأنت الظاهرُ فليس فوقك شيءٌ، وأنت الباطنُ فليس دُونَك شيءٌ». أخرجه مسلم (2713).
وفسَّر النبيُّ ﷺ (الباطنَ) بقوله: «ليس دُونَك شيءٌ»، وليس بعد تفسيرِه تفسيرٌ، وكلُّ مَن فسَّرها من أهل العلم يَرجِع إلى تفسير النبي ﷺ؛ فسُبْحان مَن أعطاه جوامعَ الكَلِم!
اسمُ اللهِ (الباطن) ثابتٌ لله جل وعلا بقياسِ الأَوْلى؛ فالعلمُ والإحاطة صفاتُ كمال، وخلافُهما صفةُ نقص، ومن المعلوم أن كلَّ كمالٍ لا نَقْصَ فيه يكون لبعض الموجودات المخلوقة المُحدَثة: فالربُّ الخالق هو أَوْلى به، وكلُّ نقصٍ أو عيب يجب أن يُنزَّهَ عنه بعضُ المخلوقات المُحدَثة: فالربُّ الخالق هو أَوْلى أن يُنزَّهَ عنه. انظر: "شرح الأصفهانية" لابن تيمية (ص74).
إن إيمانَ العبد باسم الله (الباطن) ومعرفتَه بأن اللهَ سبحانه وتعالى يَعلَم بواطنَ الأمور يجعلُه دائمَ المراقبة لله عز وجل، حاضرَ القلب معه: خوفًا ورهبةً في جَلَواته وخَلَواته، وفي إسراره وإعلانه، وهو مِن أعظم التقوى عند الله؛ كما اشتهر عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: «التقوى: الخوفُ من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرِّضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل».
ويقول ابنُ القيِّم رحمه الله في هذا: «وأما التعبُّد باسمه (الباطن)، فإذا شَهِدتَّ إحاطتَه بالعوالِمِ، وقُرْبَ البعيد منه، وظهورَ البواطن له، وبُدُوَّ السرائر له، وأنه لا شيءَ بينه وبينها: فعامِلْهُ بمقتضى هذا الشهود، وطَهِّرْ له سريرتَك؛ فإنها عنده علانية، وأصلِحْ له غَيْبَك؛ فإنه عنده شَهادة، وزَكِّ له باطنَك؛ فإنه عنده ظاهرٌ». "طريق الهجرتين" (1 /50).
«هذان الوصفانِ أيضًا من المضافات؛ فإن (الظاهرَ) يكون ظاهرًا لشيء وباطنًا لشيء، ولا يكونُ مِن وجهٍ واحد ظاهرًا وباطنًا؛ بل يكون ظاهرًا من وجهٍ بالإضافة إلى إدراك، وباطنًا من وجهٍ آخرَ؛ فإن الظُّهورَ والبُطونَ إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات، واللهُ سبحانه وتعالى (باطنٌ) إن طُلِبَ مِن إدراك الحواسِّ وخِزانةِ الخيال، (ظاهرٌ) إن طُلِبَ مِن خِزانة العقل بطريق الاستدلال».
الغَزالي "المقصد الأسنى" (ص136).
«(الأوَّل) بعِرْفان القلوب، و(الآخِر) بسَتْرِ العيوب، و(الظاهر) بإزالة الكروب، و(الباطن) بغفران الذُّنوب.(الأول) قبل كلِّ شيء، و(الآخِر) بعد كل شيء، و(الظاهر) بالقدرة على كل شيء، و(الباطن) العالِمُ بحقيقة كل شيء.
(الأوَّل) قبل كل شيء بالقِدَم والأزليَّة، و(الآخِر) بعد كل شيء بالأبدية والسَّرمديَّة، و(الظاهر) لكل شيء بالدلائلِ اليقينيَّة، و(الباطن) من مناسَبة الجِسْمية والأَبْنِيَة والكميَّة». الفَخْر الرَّازِي "لوامع البينات" (ص240).
«فمعرفةُ هذه الأسماء الأربعة: (الأوَّل والآخِر، والظاهر والباطن): هي أركانُ العلم والمعرفة؛ فحقيقٌ بالعبد أن يبلُغَ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قُوَاه وفهمُه... فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركانِ التوحيد... وهي جماعُ المعرفة بالله، وجماعُ العبودية له».
ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة "طريق الهجرتين" (1 /46 وما بعدها).