البحث

عبارات مقترحة:

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

السلام

كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...

الجبار

الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...

الاعتبار بما في حديث أهل الغار (2)

العربية

المؤلف الرهواني محمد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحديث الشريف وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. شدة وصعوبة الموقف الذي لاقاه أصحاب الغار .
  2. فضل بر الوالدين .
  3. أهمية العفة وفضلها .
  4. فضل الوفاء وأداء الأمانة .

اقتباس

جلس أولئك النفر الثلاثة وقد ضمهم الليل الدامس في تلك المغارة المظلمة المغلقة التي لا ماء فيها ولا طعام ولا ضوء، صلتهم بالعالم الخارجي قد انقطعت، فلا مغيث ولا وسيلة من وسائل الاتصال، ولا سبيل لإيصال خبرهم إلى خارج المغارة، وحتى لو صاحوا بأعلى أصواتهم فلن...

الخطبة الأولى:

لقد كان الحديث في جمعة ماضية عن قصة أصحاب الغار التي أخبر بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث جلس أولئك النفر الثلاثة وقد ضمهم الليل الدامس في تلك المغارة المظلمة المغلقة التي لا ماء فيها ولا طعام ولا ضوء، صلتهم بالعالم الخارجي قد انقطعت، فلا مغيث ولا وسيلة من وسائل الاتصال ولا سبيل لإيصال خبرهم إلى خارج المغارة، وحتى لو صاحوا بأعلى أصواتهم فلن تصل أصواتهم إلى أبعد من جدران الغار الذي يحيط بهم.

إنه موقف حرج، موقف عصيب، لكنهم بعدما تشاورا فيما بينهم أيقنوا أن المخرج الحق والطريقَ الذي يُرجى منه النجاة، هو طريق الالتجاء إلى الله وحده.

أيقنوا أنه لو أُغلقت جميع الأبواب فالباب الذي بين الله وبين العباد يبقى مفتوحا ولن يُغلق أبدا، فتشبثوا به بأنجع وسيلة تُقضى بها الحاجات، وتوسلوا في تضرعهم إلى من بيده تدابير الكون سبحانه، توسلوا بأرجى عمل صالح عمِلوه في غالب ظنهم، فكان بذلك الفرج من الله العلي القدير؛ كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في معرض حديثه عن أصحاب الغار.

والملاحظ أن كثيرا من الخطباء أو الوعاظ أو المحدثين قد لا يذكرون حديث أصحاب الغار إلا في معرض الحديث عن الإخلاص، وجواز التوسل بصالح الأعمال، وهذا جزء مهم تضمنه الحديث، لكن النظر في هذه القصة بعين البصيرة والاعتبار تتفجر منها قيما ومعان وعبرا عظيمة.

أما الأول فكان أرجى عمل لديه هو بره بوالديه، حيث كان والداه في مرحلة يحتاجان فيها إلى البر بهما، وحسن المعاشرة لهما، وخفض جناح الذل لهما، فكان لا يقدم قبلهما ولا عليهما أهلاً من زوجة وأولاد، فخرج يوما يرعى غنمه، فابتعد في طلب الكلأ ولم يرجع إلى أبويه إلا وهما نائمين، فكره أن يوقظهما، كما كره أن يسق أولاده قبلهما، هكذا يصور هذا الرجل صنيعَه وحِرصَه على راحة أبويه وحِرصَه أيضا على أن لا يُقدِّم عليهما أحدا من زوجة أو ولد، فالأولوية عنده للوالدين ولو كلفه ذلك ما كلفه، بل حرصُه الشديد على بِرِّ والديه امتثالا لأمر الله –سبحانه- الذي دعا إلى بر وطاعة الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف، دفعه كل ذلك كي يبقى ينتظر استيقاظهما رغم صياح صبيته من الجوع، فما زال على حاله كذلك حتى طلع الفجر، واستيقظ الوالدان، فسقاهما اللبن بيده كما كان يسقيهم، عند ذلك قال هذا الرجل: "اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء"، فانفرجت شيئاً لكنهم لا يستطيعون الخروج منه.

أما الرجل الثاني فتوسل إلى ربه بعفته عن الحرام في موضع تكاد تنعدم فيه العفة، لقد تذكر أنه كانت له ابنة عم وكان يحبها حبا شديدا، فراودها عن نفسها فامتنعت، حتى إذا قدر عليها، قالت له: "اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه"، فكانت هذه الكلمة: "اتق الله" موعظة بليغة، زلزلت وجدانه، وأحدثت مفعولا سريعا قويا، وأثرا بليغا، جعله يترك ما كان عازما على القيام به رغم قدرته عليه وينصرف عنها كما يقول وهي أحب الناس إليه.

إنه اختبار للخوف من الله وخشيته، لقد تغلب عليه ذلك الخوف وتلك الخشية ولم ينهزم أمام حب جارف للذة فانية، فالرجل عظَّم الله في نفسه ووقف عند حدود الله ولم يتجاوزها فكف نفسه عن معصية الله، وطمَع أن يستظل بظل طاعته.

فانظروا -رحمكم الله- إلى قوة إيمان هذا الرجل، فهو ليس بنبي حتى نقولَ أن عصمته هي التي حالت بينه وبين الوقوع في هذه المعصيةِ التي كادت أن تكون متحققة وحاصلةً، فحُق له أن يدعو ربه، ويقول في ذلك الموقف: "اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه"، فما أن تم دعاءه إلا وثلث من الصخرة ينحدر عن فم الغار بأمر من يجيب المضطر إذا دعاه، ولكن هذا الانفراج لم يكن كافيًا لخروجهم.

ويجيء دور الثالث فيختار عملا يدل على سماحة نفسه وعفافه عن أكل أموال الناس بالباطل، لقد تذكر هذا الرجل أنه استأجر عمالا وأعطاهم أجرهم، غير واحد فإنه ترك أجره وذهب، فقام بتثمير أجر هذا الأجير وتنميته، باعتباره أمانة عنده، وبعد مرور حين من الزمن، جاء ذلك الأجير يطلب حقه، فأشار له الرجل إلى ما ثمره له ونماه، فإذا هو قطعان من الإبل والبقر والغنم فأخذها ولم يترك منها شيئا.

لقد ضرب هذا الرجل مثلا ساميا في الوفاء، وحفظ الأمانة، وعدم التفريط في حقوق الغير.

لقد كان بإمكانه أن يكتفي بإعطاء الأجير أجره وكفى، بل كان بإمكانه أن لا يعترف له أصلا بهذا الحق، ولكن إيمانه وأمانته وخشيته لربه ورجاءه في ثواب الله وجزائه الأوفى والأوفر جعله ينمي هذه الأمانة لتصبح أموالا كثيرة.

فهذا العمل الخالص لوجه الله جعله يدعو ربه به، فيقول: "اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه"، فاستجاب له ربه الذي لا يضيع أجر من أحسن العمل وأخلص فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون.

ولكن -معاشر المؤمنين والمؤمنات- قبل أن يخرجوا، فليتصور كل واحد منا أنه هو رابع أولئك النفر، فما هو أرجى عمل قدمه في حياته ابتغاء مرضاة الله يدعو به ويتوسل به إلى الله؟

الخطبة الثانية:

كثير من الناس قد لا يذكرون حديث أصحاب الغار إلا في معرض الحديث عن الإخلاص وجواز التوسل بصالح الأعمال، وهذا جزء مهم تضمنه الحديث، لكن النظر في هذه القصة بعين البصيرة والاعتبار، تتفتق له عن قيم ومعان وعبر عظيمة.

فهؤلاء الثلاثة: البار بوالديه، والمتعفف التارك للحرام، والذي أدى الأجير أو العامل حقه مع أنه تعَب عليه ولم يأخذ منه شيئا، كل واحد من هؤلاء النفر الثلاثة كان له موقع داخل المجتمع، فالأول يمثل علاقة الفرد مع محارمه وأقاربه، والثاني يمثل علاقة الفرد مع غير محارمه من بني مجتمعه، والثالث يمثل علاقة المسؤول وسلوكه العملي مع من هو تحت مسئوليته.

والناظر بعين البصيرة والاعتبار يرى أن هذه القصة قد أحكمت ورسخت أصول الأخلاق والعلاقات الاجتماعية بين الناس، والتي إن شاعت في أي مجتمع ارتفعت به إلى أعلى وأسمى مراتب ودرجات الرقي، وهذه الأخلاق هي البر والعفة والأمانة.

فعلاقة المرء مع أقاربه وأرحامه ينبغي أن يحوطها البر والصلة والرحمة والإحسان، والعفة والطهارة والحياء والخوف من الله هو الذي ينبغي أن تُبنى على أساسها العلاقات الاجتماعية، ثم الأمانة والعدل وحفظ الحقوق وتحمل المسئولية هي التي يجب أن تقوم عليها العلاقات بين كل مسئول ومن كان تحت مسئوليته.

وبغير هذه الأخلاق تتفكك المجتمعات، ويكون مصيرها الدمار والخراب، لذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يحدثنا بقصة هؤلاء النفر، قد أجمل أسباب الخروج من الأزمات والنجاة من المهلكات.

والأمة الإسلامية اليوم أحوج ما تكون، هي اليوم في أشد الحاجة إلى أن تقف وتتدارس الأسباب لكي تخرج مما تعيش فيه أزمات.

الأمة بحاجة إلى إعلاء القيم الأخلاقية والإنسانية، وزرعها وإشاعتها في المجتمع، وخاصة في هذا الوقت الراهن.