العربية
المؤلف | الرهواني محمد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - التوحيد |
(كَلِمَةً طَيِّبَةً) أتدرون ما هذه الكلمة الطيبة؟ إنها شهادة التوحيد: "لا إله إلا الله" التي لو وُزنت بالسموات والأرض لرجحت عليهن، ولو كن حلقةً مبهمة لقصمتهنَّ. "لا إله إلا الله" كلمة طيبة، طيبة في أحرفها وذكرها، طيبة في معناها، في عطائها وثمارها وآثارها، طيبة في...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزِّز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، والعالم بتقلُّبها وأحوالها، المانّ عليهم بتواتر آلائه، المتفضِّل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واحد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد، لا معقِّب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه، لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يسألون.
وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده المجتبى، ورسوله المُرتَضى، صلوات ربي وسلامه عليه.
ما زلنا نعيش -معاشر الصالحين والصالحات- في ظلال أعظم آية في كتاب الله ألا وهي: آية الكرسي.
فالله رب العزة -جل جلاله- يقول في كتابه العزيز: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 24- 25].
(أَلَمْ تَرَ) ببصرك وبصيرتك، بقلبك وفكرك، فالنظر في الأشياء وإلى الأشياء لا يكتمل إلا إذا جُمع بين نظر البصر والبصيرة معا، وهذا لا يجتمع إلا للمؤمن.
(كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) المثل ضربه الله -جل وعلا- للتأمل والاعتبار والتدبر، ضرب الله هذا المثل لتتضح المقاصد، ويظهرَ المخبوء من المعاني.
(كَلِمَةً طَيِّبَةً) أتدرون ما هذه الكلمة الطيبة؟
إنها شهادة التوحيد: "لا إله إلا الله" التي لو وُزنت بالسموات والأرض لرجحت عليهن، ولو كن حلقةً مبهمة لقصمتهنَّ.
"لا إله إلا الله" كلمة طيبة، طيبة في أحرفها وذكرها، طيبة في معناها، في عطائها وثمارها وآثارها، طيبة في نتائجها لمن يُختم له بها.
(كَلِمَةً طَيِّبَةً) في علوها وقوتها وظلها وثمارها ونفعها للناس.
(أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) فجذورها متينة وممتدة وضاربة في أعماق الأرض.
(وَفَرْعُهَا) قوي يستعصي على الرياح والمخاطر، وتقلبات الطقس.
وهكذا -معاشر الصالحين والصالحات- شهادة التوحيد: "لا إله إلا الله"، فهي ضاربة بجذورها في أعماق قلب المؤمن الموحد لا تضرها فتنة ولا شبهة ولا شهوة، تستمد غذاءها ورحيقها وماءها ليثمر هذا الغذاء فروعاً صالحة مِعطاءة تظهر على الجوارح والبدن، فالقلب إذا عُمِرَ ب "لا إله إلا الله" أينعت ثماره على الجوارح الظاهرة، ويُصدق ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت" بلا إله إلا الله: "صلح الجسد كله، وإذا فسدت" بالشرك والبدع واتباع الشهوات "فسد الجسد كله".
"لا إله إلا الله" التي هي أعظم الكلمات وأجلها على الإطلاق، وهي كلمةٌ تدل على وجوب إفراد الله وحده بالعبادة، والبراءة من الشرك كلِّه.
إنها كلمة التوحيد الدالة عليه، فلا توحيد إلا على ضوئها وعلى ضوء ما دلت عليه.
والتوحيد في هذه الكلمة لا يقوم إلا على ركنين أو أصلين لا بد منهما، ولا بد من تحقيقهما: النفي والإثبات، نفي العبادة عن كل من سوى الله، وإثبات العبادة بكل معانيها لله وحده خضوعا وتذللا، رغبا وطمعا، سجودا وركوعا، توكلا واعتمادا، دعاءً ورجاءً، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، وصنوف الطاعة، فكل ذلك حق لله ليس لأحد فيه شريك.
ولكن هذه الكلمة العظيمة في معناه في مدلولها كلمة: "لا إله إلا الله"! تسلط عليها الأعداء من أهل الضلال والأهواء وغيرهم، فأفرغوها بكيدهم ومكرهم وتأويلاتهم الفاسدة الباطلة من دلالاتها ومعانيها ومقاصدها، تعاملوا معها مجرد أحرف باردة تُردَّدها الألسن من دون أن تخشع لها القلوب، أو أن يكون لها أثراً فاعلاً في واقع حياة الناس وعملهم.
لم يتعاملوا معها كما أُريد لها أن تكون، الله أراد أن تكون "لا إله إلا الله" منهجاً متكاملاً في التغيير والتحرر، تغيير وتحرر الأنفس من أوحال الشرك إلى نور التوحيد، ومن ظلم وظلام الجاهلية إلى نور وعدل وسلم الإسلام، ومن العبودية للمخلوق أياً كان هذا المخلوق إلى عبادة الله –تعالى- وحده.
نعم -معاشر الموحدين-: لقد أفرغوا هذه الكلمة من حقيقتها ومعناها، أفرغوها من الغاية التي أنزلت لأجلها، وصوروها للناس على أنها مجرد أحرف باردة يُتبرك بها عند الذكر أو التلاوة، لا مساس لها بواقعهم وحياتهم وأعمالهم، وسلوكياتهم، وعلاقة بعضهم ببعض!
ف "لا إله إلا الله" تعني أن الإله الحق الذي يستحق أن يُعبد وتُصرفَ له كامل العبادة بمعناها العام والشامل لجميع أنواع العبادة الظاهرة منها والباطنة، هو الله -تعالى- وحده لا شريك له.
المقصود من "لا إله إلا الله" أن نعيش المعاني الحقة لهذه الكلمة، فإنه لا فعال إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا معطي إلا الله، ولا مانع إلا الله، ولا رافع إلا الله، ولا خافض إلا الله، ولا قابض إلا الله، ولا باسط إلا الله، ولا معز إلا الله، ولا مذل إلا الله، ولا محيى ولا مميت إلا الله.
وبدون "لا إله إلا الله" فإننا أموات وإن أكلنا وشرِبنا وعلى الأرض مشينا، يقول رب العزة -جل جلاله-: (أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا) [الأنعام: 122].
معاشر المؤمنين والمؤمنات: لقد علمنا ديننا كيف نعيش مع "لا إله إلا الله" فكما أن "لا إله إلا الله" في العلاقات والأُخُوة والجوار، والبيع والشراء، وما سوى ذلك، فهي أيضاً في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع والإعلام، وما سوى ذلك.
"لا إله إلا الله" منهج حياة، ديننا علمنا كيف نرتبط ب "لا إله إلا الله"؛ لأننا نرقب فيها ما يرضي الله في حياتنا كلها فنقتربَ إليه حتى يرضى عنا، ونرقب فيها ما لا يرضيه في حياتنا كلها فنبتعدَ عنه حتى يرضى عنا.
ف "لا إله إلا الله" كلمة عليها أسست الملة، وقامت بها الأرض والسموات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، ولأجلها نُصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب، وهي حق الله على جميع العباد، وعنها يسأل الأولون والآخرون، وعلى أساسها يدخل الناس الجنة أو النار، فمن وفَّاها حقها وأدى شروطها بصدق وإخلاص دخل الجنة، ومن أعرض عنها ولم يوفها حقها ولم يُؤدِّ شروطها حقت عليه كلمة العذاب، قال الله –تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48].
"لا إله إلا الله" هي أعظم كلمة أوحى الله بها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس في الدنيا أعظمَ منها؛ فعن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قال موسى -عليه السلام-: يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به؟ قال: قل يا موسى لا إله إلا الله، فقال: يا رب كل عبادك يقول هذا، قال: قل لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به، فقال: يا موسى لو أن السموات السبع، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله".
إن كلمة "لا إله إلا الله" تضمنت كل أسماء الله وصفاته، فمن أراد رزقاً فالله هو الرزاق ذو القوة المتين، ومن أراد فضلاً فالله ذو الفضل العظيم، ومن أراد العزة فالله هو المعز، ومن أراد النصرة فالله هو الناصر، ومن أراد العون فالله هو المعين، ومن أراد التيسير فالله هو الميسر، ومن أراد البركة والطمأنينة فإنها في ذكر الله: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
فالأمن والأمان والطمأنينة في هذه الكلمة العظيمة: "لا إله إلا الله" قال الله -عز وجل-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82] لهم الأمن في الدنيا والآخرة، والهداية إلى صراط الله المستقيم.
"لا إله إلا الله" كلمة سعد بها من نطق بها وقام بحقها، وشقي وضل من جحدها وأنكرها، فأعز الناس من عرف "لا إله إلا الله" حقا، وأكرم الناس من فهِم "لا إله إلا الله"، وأقل الناس خوفا على مستقبله من أدرك معنى "لا إله إلا الله".
فاللهم اجعلنا من أهلها.
معاشر الموحدين: هذه بعض معاني شهادة التوحيد، فانظر -يا عبد الله- ولينظر كل مسلم أين هو منها.
ولكي تعرف -أيها المسلم- مدى قُربك أو بُعدك عنها، سَلْ نفسكَ الأسئلة التالية، ثم اصدق نفسك في الإجابة عنها: هل شهادة التوحيد هي التي توجهك وتسيرك وتحدد مواقفك في هذه الحياة، أم لك مُوجِهات ومؤثرات أخرى غيرَها؟!
هل تعيش مع شهادة التوحيد، وشهادة التوحيد تعيش معك في جميع تقلباتك وحركاتك وسكناتك وأحوالك وأنفاسِك وتعاملك مع نفسك ومع الآخرين؟ أم أنك تعيش مع غيرِها؟!
هل تحب "لا إله إلا الله" وتحب أهلها وتواليهم؟ أم أنك ممن يحب ويوالي أعداء الله وأعداء "لا إله إلا الله"، ثم بعد ذلك تزعم كَذِبا أنك من أوليائها وممن يحبونها؟
هل تنتفع منها ومن ثمارها وعطائها كل حين؟ أم أنك عنها وعن عطائها وثمارها من الغافلين الزاهدين؟
هذه الأسئلة إن صدقت نفسك في الإجابة عنها عرفت أين أنت، وما موقعك من شهادة التوحيد ومن أهلها، وعلمت هل أنت ممن ينتمون إليها وإلى أهلها حقا، أم ممن ينتسبون إليها وإلى أهلها اسماً وظاهرا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
"لا إله إلا الله" لها شروط، ولا ينتفع بها حق الانتفاع إلا من حقق هذه الشروط:
الأول: العلم بمعناها نفياً وإثباتاً، بحيث يعلم القلب ما ينطق به اللسان، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد: 19].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة".
ومعناها: لا معبود بحق إلا الله.
والعبادة: هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
الثاني: اليقين وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب.
الثالث: الإخلاص المنافي للشرك، وهو تصفية العمل عن جميع شوائب الشرك، قال تبارك وتعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر: 3].
الرابع: الصدق المانع من النفاق، فإن البعض يقولها بلسانه غير معتقدا بمدلولها، قال تعالى: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 3].
الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرورُ بذلك، بخلاف ما عليه المنافقون.
السادس: الانقياد بأداء حقوقها، وهي الأعمال الواجبة إخلاصاً لله وطلباً لمرضاته، وهذا هو مقتضاها، قال تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر: 54]، وقال تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [لقمان: 22].
السابع: القبول المنافي للرد، وذلك بالاستسلام له تعالى ولشرعه، وترك الاستكبار، قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات: 35].